انسحاب أميركا من سوريا لا يخدم تركيا بالضرورة
في خطوة مفاجئة من حيث التوقيت والمضمون، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأربعاء قرار سحب القوات الأميركية المتواجدة من سوريا، بعد أن حقّقت هدفها المتمثّل في هزيمة تنظيم الدولة (داعش) وفق وصفه. وأشار الرئيس الأميركي الى انّه مع هزيمة التنظيم ينتهي المبرر الذي وجدت من اجله هذه القوات، وقد حان الوقت الآن لإعادة الجنود الى بلادهم.
لا يكتفي قرار ترامب بالانسحاب الكامل من سوريا، وإنما يشمل أيضا إيقاف الطلعات الجوّية التي تستهدف ضرب التنظيم. وباستثناء ذلك، لم يحمل القرار الصادم أيّ تفاصيل أخرى في ما يتعلق بدوافع اتخاذه وأهدافه وتوقيت صدوره وبرنامج تنفيذه. لكن وفقاً لترامب، فان القرار لم يأت عن غفلة، وإنما جاء بعد أن تمّ التمهيد له علناً مراتٍ عديدة. الرئيس الأميركي كان قد دعا بالفعل الى الانسحاب سابقا قبل ان يعود ويتراجع عن ذلك.
ما علاقة تركيا بالقرار؟
ربط كثيرون بين قرار ترامب والاتصال الذي جرى مؤخراً بينه وبين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ذهب البعض أبعد من ذلك ليقول إنّ القرار هو نتيجة لصفقة جرت بين الطرفين وإنّ اتّخاذه في هذا التوقيت جاء بالتنسيق مع اللاعب التركي، لا سيما بعد تزايد تهديدات أنقرة العلنية بالتدخّل العسكري في شرق الفرات، ما لم تسحب واشنطن الميليشيات الكردية الانفصالية من المناطق الحدودية معها في شمال سوريا.
وفقاً لمصادر صحافية تركية، فإن ترامب كان قد سأل نظيره التركي في الاتصال الهاتفي عمّا اذا كان بإمكان أنقرة تطهير المنطقة من تواجد «داعش» اذا ما انسحبت القوات الأميركية، فكان جواب الرئيس أردوغان بالإيجاب، الأمر الذي عجّل في إعلان ترامب عن قراره. ربما كان للموقف التركي تأثير في قرار الرئيس الأميركي، لكن من السذاجة بمكان القول إنّ ترامب يتخذ قراراته لمراعاة حسابات الآخرين.
من الواضح تماماً أنّ الدافع الأساسي لهذا القرار يرتبط بمصالح ذاتية بالدرجة الاولى وبحسابات سياسية اميركية داخلية لا علاقة لها بتركيا. الرئيس الأميركي كان قد اعترف بنفسه بأنّ القرار يأتي في سياق تحقيق وعود انتخابية كان قد قطعها سابقا، وهو يضع نصب عينيه الترشح لولاية رئاسية ثانية. هناك من يرجّح أيضاً أن يصبّ القرار في خانة تشتيت الانتباه عن المشاكل والفضائح التي يعاني منها ترامب محلّياً.
لم تعلّق أنقرة رسمياً على القرار الأميركي في البداية، واتخذ موقفها طابع الحذر قبل أن يعلن وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو عن ترحيب بلاده بالخطوة بعد يومين من الكشف عنها. تشير التقارير الى انّ ترامب يريد سحب قواته في غضون ٦٠ الى ١٠٠ يوم، لكن هناك أسئلة لا توجد إجابة عليها حتى هذه اللحظة. هل ستوعز واشنطن الى الميليشيات الكردية بالانسحاب من المناطق الشمالية قبل انسحاب قواتها؟ هل ستقوم بجمع الاسلحة التي وزعتها على هذه الميليشيات؟ هل ستقطع علاقاتها معها؟ هل ستبقي على التحالف أو الدعم أو على تفاهمات من نوع آخر حتى بعد الانسحاب؟ ما هو مصير المسؤولين الاميركيين الذي تمّ تعيينهم مؤخراً في هذا الملف من أجل الحفاظ على التوازن في العلاقة مع تركيا في الملف السوري، كجيمس جيفري؟
الفرص والتحديات
ردود الفعل المسجّلة تشير الى انّ قرار الانسحاب من سوريا يخدم المصالح التركيّة بالدرجة الاولى، لكن مثل هذه القراءة غير دقيقة، على اعتبار انّ مطالب أنقرة كان تتمحور حول ضرورة قطع واشنطن لعلاقاتها مع الميليشيات الكردية، وإيقاف الدعم العسكري المقدّم لها، والتحالف مع تركيا بدلا من التحالف مع جماعة إرهابية، وليس انسحاب القوات الاميركية بشكل كامل. وفي هذا السياق، يمكن وصف القرار الأميركي على انّه هروب الى الامام، وبهذا المعنى، فهو قد يخلق فرصاً لأنقرة، لكنّه سيخلق تحدّيات أكبر بالضرورة.
انسحاب واشنطن من داخل سوريا سيترك الميليشيات الكردية (بي واي دي) ضعيفة، وسيرضي هذا الأمر أنقرة بالطبع، وقد يسهّل مهمّتها في استئصال هذه الميليشيات التي تشكل تهديداً لامنها القومي من المناطق الحدودية مع شمال سوريا، لكن في المقابل، فان قرار ترامب قد يرتّب على الاتراك تحديات كبيرة وأعباء ضخمة.
في المقابل، سيخلق انسحاب القوات الاميركية سباقاً عسكرياً بين تركيا وإيران وروسيا لملء الفراغ الحاصل، وقد تقطع الميليشيات الكردية الطريق على أنقرة باتفاق مع نظام الأسد أيضاً، ففي نهاية المطاف ليست هناك مشكلة حقيقة بين هذه الميليشيات والنظام السوري، والأخير قد يوافق على إبقاء سيطرتها على بعض المناطق، إن هي تعهّدت بمقاومة التدخّل التركي.
يؤكّد جميع هذه السيناريوهات أنّ خطوة الانسحاب الأميركي لم تتم بالتشاور مع الجانب التركي، وإلا فإنه من المفترض ان يتم تسليم هذه المناطق لتركيا قبل الانسحاب منها، أو على الأقل هذا ما ستسعى إليه السلطات التركية الآن بعد علمها بالقرار.
من سيملأ الفراغ؟
تشير التقييمات الاولية الى انّ المستفيد الأكبر من هذه الخطوة الاميركية بهذا الشكل الذي ستتم به هو محور الأسد ــــ إيران ــــ روسيا. في يونيو الماضي، حذّر وزير الدفاع الأميركي من أنّ سحب القوات الأميركية سيترك فراغاً في سوريا يتيح لنظام الأسد وحلفائه استغلاله. استقالة ماتّيس الآن احتجاجاً على قرار ترامب تؤكّد صحّة مثل هذا التقييم. الايرانيون يمتلكون القدرة البشرية للسيطرة على الأرض، من خلال نظام الأسد وميليشياتهم العابرة للحدود والتشكيلات التي يسيطرون عليها. في المقابل، تمتلك موسكو القوّة النارية الكبرى في سوريا، ومع انسحاب واشنطن ستمتلك الحرية الكاملة للتحرك عسكريا كما تشاء.
انسحاب أميركا من المشهد، قد ينقل الصراع أيضا الى داخل محور تركيا ــــ إيران ــــ روسيا بعد أن كانت هذه الدول تحاول تحجيم التناقص الموجود بين أجنداتها المختلفة بالتصويب على الأجندة الأميركية. وبهذا المعنى، تمتلك طهران وموسكو حوافز قوية لتمكين الأسد من السيطرة التامة على كامل مساحة سوريا، ومع انسحاب الولايات المتّحدة طوعاً، سيصبح من الأسهل لهما الضغط على تركيا، بعد أنّ كان التركيز يطول الجانب الأميركي. يجادل البعض في أنّ أنقرة هي ثاني أكبر قوّة عسكرية في «الناتو»، وهي تمتلك ما يكفي للوقوف في وجه موسكو، لكن حتى لو افترضنا صحّة ذلك، فسيكون من غير الممكن لأنقرة مقارعة ثلاثة لاعبين في آنٍ معاً (روسيا وإيران، والأسد)، لا سيما بعدما كانت تستفيد من الورقة الاميركية للمناورة بين هذه الأطراف.
الخطوة الأميركية ستختبر أيضاً عامل الثقة بين الأطراف الثلاثة، وإذا ما أصرّت تركيا على ملء الفراغ عبر تدخل عسكري، فسيكون هناك امتحان لنوايا الآخرين، لا سيما روسيا وإيران، هل هي مع الميليشيات الكردية؟ هل هي مع نظام الأسد؟ أم هل هي مع تركيا؟
وسوم: العدد 804