بوتفليقة والأسد: خرافة الرئاسات إلى الأبد

بوتفليقة والأسد:

خرافة الرئاسات إلى الأبد

صبحي حديدي

الواقعة تعود إلى يوم 21 آب (أغسطس)، سنة 2005، حين كان الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مجتمعاً، في الجزائر العاصمة، مع ريشارد لوغار، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي.

تناول بوتفليقة شؤون المنطقة، من العراق ما بعد صدّام حسين، إلى ليبيا، مروراً بمصر والسعودية؛ لكنّ اهتمامه الأكبر (على ما نقلت برقيات ‘ويكيليكس، بعدئذ) انصبّ على إقناع لوغار بجدوى الانفتاح مجدداً على نظام بشار الأسد، خدمة لمصالح أمريكا في المقام الأوّل، وكذلك للحدّ من نفوذ إيران في المنطقة، وتحويل ‘حزب الله’ من مجموعة عسكرية إلى حزب سياسي ممثّل في مجلس النوّاب اللبناني.

برهة أخرى، في تأكيد هذه العلاقة الخاصّة بين نظامَيْ العسكر في الجزائر وسوريا، لأنها في الواقع سيرورة مركّبة تتجاوز العرى الشخصية الوثقى بين بوتفليقة وكلّ من الأسد الأب والأسد الابن؛ كانت سلسلة المواقف التي اتخذتها الدبلوماسية الجزائرية بعد انطلاق الانتفاضة الشعبية السورية، خلال اجتماعات الجامعة العربية، وخاصة التحفّظ على الفقرة الثالثة من قرار الجامعة، لشهر تموز (يوليو) 2012، والتي طالبت الأسد بالتنحي عن السلطة. التكملة المنطقية لهذه البرهة كانت هتاف المتظاهرين في سوريا: ‘خاين خاين خاين! بوتفليقة خاين!’؛ وقيام بعض المتظاهرين الجزائريين، في الجزائر، باستعارة واحدة من لافتات بلدة كفرنبل الشهيرة، تقول: ‘إلى النظام الجزائري: سيل الربيع العربي قادم… فأين المفرّ؟’.

العسكر، والأجهزة الأمنية، والتركيبة العائلية في إدارة الاقتصاد والكثير من مراكز القرار في هرم السلطة، فضلاً عن النزوعات العقائدية ‘البعثية’ داخل حزب ‘جبهة التحرير الوطني’، وقهر المجتمع والسياسة بذريعة ‘الحملة على الإرهاب’، ثمّ الخشية من انتقال رياح ‘الربيع العربي’ لتعصف بأركان النظامين، والسلطات الواسعة التي يمنحها ‘الدستور’ في البلدين لمنصب الرئاسة، بين عناصر أخرى مشتركة… كل هذه أتاحت ذلك المستوى المتقدّم من التضامن، التبادلي، بين بوتفليقة وعسكر الجزائر عموماً؛ ونظام ‘الحركة التصحيحية’ في سوريا، كما ورثه الأسد الابن من أبيه، وتابع نهجه وأعرافه. يكتب الصحافي الجزائري كامل داود: ‘إذا تعرّضتم لي، فسينهار الشرق الأوسط وينزلق إلى الفوضى، يقول السوري بشار الأسد. إذا تعرّضتم لي، فإنّ ‘القاعدة’ سوف تُلحق الخراب بالمنطقة، يقول الجزائري بوتفليقة. أنا ضامن أمن التزويد بالطاقة، يضيف الجزائري. أنا ضامن أمن إسرائيل، على النقيض من المظاهر، يجيب السوري’!

لم يكن ينقص، إذاً، إلا إعلان بوتفليقة (76 سنة)، ولكن بلسان رئيس وزرائه عبد المالك سلال، العزم على الترشيح لولاية رابعة، اعتماداً على التعديل الدستوري الشهير، لسنة 2008، الذي ألغى تقييد شغل المنصب بولايتين، فجعله مدى الحياة، ما دام الشعب راضياً سعيداً! ولولا ما يتردد، همساً بالطبع، عن ضيق صدر الجنرال محمد مدين، رئيس الاستخبارات المعروف باسم ‘توفيق’، بهذا الترشيح؛ لأقرّ المرء بأنّ مجمّع النظام الحاكم منخرط، كالبنيان المرصوص، خلف بوتفليقة. لقد بدأت المؤشرات الأولى عندما شنّ عمار سعداني، الأمين العام لـ’جبهة التحرير’، هجوماً غير مسبوق على مدين، فاتهمه بتنظيم ‘حملة فضائح وأكاذيب’ ضدّ أعوان بوتفليقة؛ ثمّ استُكملت المؤشرات حين صوّت الحزب على ترشيح ‘المجاهد عبد العزيز بوتفليقة’ لخمس سنوات رابعة…

وكما أنّ انتخابات 2004 و2009 جلبت لبوتفليقة نسبة 85 و90 في المئة، على التوالي؛ فإنّ نسبة 97 بالمئة كانت نصيب الاستفتاء على مشروع ‘الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية’؛ الذي اقترحه الرئيس الجزائري لطيّ العقد الدامي الذي عاشته الجزائر بين 1992 و2003، وأسفر عن أكثر من 150 ألف قتيل وآلاف المفقودين؛ ثمّ أصبح الميثاق، في 28 شباط (فبراير) 2006، قانوناً رسمياً، موازياً لأحكام ‘الدستور’، وركيزة ثانية في سلطة بوتفليقة. غير أنّ الإشكالية الأولى في ذلك الميثاق/القانون تمثلت في نقص فادح بصدد ملفّين حاسمين وأساسيين: المفقودين (إذْ لا ينصّ الميثاق على أية أوالية ملموسة تضمن الكشف عن مصائرهم)؛ وملفّ محاسبة الجنرالات، والمافيات الأمنية، أو أية جهات حكومية سلطوية ارتكبت أعمال الخطف والاعتقال التعسفي والتنكيل بالمواطنين، فضلاً عن ممارسة الفساد ونهب البلاد (العكس هو الصحيح، لأنّ الميثاق يقول لهم، عملياً: عفا الله عمّا مضى!).

في جانب آخر، وفي استحقاق لا يقلّ أهمية عن العفو والتسامح والمصالحة، ينطوي الميثاق على ما يشبه الشرعنة التامة لرواية وحيدة عن ذلك العقد الجزائري الدامي؛ هي سردية السلطة كما سردتها قبل التصويت على الميثاق، إذْ لن تكون بعده أية رواية أخرى… تحت طائلة القانون! والأمر ينقلب إلى ما يشبه التحريم التامّ في المسألة الأكثر حساسية ومأساوية، أي ملفّ المفقودين، كما في النصّ العجيب الذي يمهّد للبند 4: ‘إنّ الشعب الجزائري صاحب السيادة يرفض كلّ زعم يقصد به رمي الدولة بالمسؤولية عن التسبب في ظاهرة الافتقاد. وهو يعتبر أن الأفعال الجديرة بالعقاب، المقترفة من قبل أعوان الدولة الذين تمت معاقبتهم من قبل العدالة كلما ثبتت تلك الأفعال، لا يمكن أن تكون مدعاة لإلقاء الشبهة على سائر قوّات النظام العامّ التي اضطلعت بواجبها بمؤازرة من المواطنين وخدمة الوطن’.

وللمرء أن يراهن أنّ تسعة أعشار ضباط الأسد، في صفوف أجهزته الأمنية وقوّاته الموالية وفصائل الشبيحة ومفارز الميليشيات الطائفية، سوف يراودهم الحلم باعتماد فقرة مماثلة، وبالحرف، فيسورية. فإلى جانب الطابع الديماغوجي الذي يكتنف صياغة النصّ، فإنّ منطوقه كان كافياً لتبرئة ذمّة القتلة بذريعة السيادة الوطنية؛ والحفاظ على حصانة الدولة بأسرها، وسمعتها، وشرفها، كاملة تامة، منيعة معفاة من كلّ وازرة! غير أنّ ما حدث في الجزائر، يوم 11 كانون الثاني (يناير) 1992، كان انقلاباً عسكرياً صريحاً نفّذه جنرالات الجيش ومؤسسات الحكم المدنية المتحالفة مع مختلف أجهزة السلطة. وباسم الدولة وحفاظاً عليها، بذرائع صيانة السلم الأهلي ودرء الأخطار المحدقة بالوطن، انقضّ الجيش على المؤسسات بدءاً من رئيس الجمهورية آنذاك الشاذلي بن جديد، وانتهاء بأصغر مجلس بلدي. كما فُرض قانون الطوارىء، وألغى نتائج الانتخابات التي حققت فيها ‘جبهة الإنقاذ’ انتصاراً صريحاً؛ فانفتح الباب عريضاً على السيرورة (الطبيعية والمنطقية) للتحوّلات الكبرى في الحياة السياسية عموماً، وتصاعدت خيارات العنف ضمن تيارات الإسلاميين وأجهزة السلطة العسكرية والأمنية على حدّ سواء. 

ويخطىء مَنْ ينسى أنّ عمليات الإرهاب في الجزائر كانت خير ساتر للسلطة في تمرير المشاقّ الاجتماعية الناجمة عن الشروط التي فرضها ‘صندوق النقد الدولي’ على البلد، بحيث بات الجزائري العادي رهينة هاجس البقاء على قيد الحياة، قبل هاجس الإلتفات إلى شجون وشؤون المعاش اليومية. ذلك، بمعنى آخر، كان شكلاً معقداً و’غير مرئي’ من أشكال دعم برامج السلطة الحاكمة، بما في ذلك التواطؤ الصامت مع أساليبها القمعية التي لم يكن لها أي نصيب ملموس من النجاح في الحدّ من استفحال العنف الدامي. ولعلّ العكس هو الذي صار صحيحاً فيما بعد، حين أخذ الإرهابيون يعملون في وضح النهار وبسهولة أكثر، وتبدلت نوعية الضحية: من رموز السلطة السياسية والأمنية والعسكرية، إلى الجزائري العادي، الشيخ والطفل والمرأة.

كذلك يخطىء مَنْ ينسى أنّ حمامات الدم المفتوحة تلك، ودورة العنف الإرهابي الأهلي الأبشع في التاريخ الجزائري الحديث بأسره، كانت أو تظلّ مسألة جزائرية داخلية تبرّر القول: وماذا في وسع العالم أن يفعل حين يقتل الجزائري شقيقه الجزائري، في حرب أهلية طاحنة تدور رحاها منذ عقد ونيف؟ فليس بجديد القول إن فرنسا غارقة حتى أذنيها في المعضلة الجزائرية، لأسباب تاريخية كولونيالية معروفة، ولكن أيضاً بسبب التراث الأحدث لمجموعة المواقف الفرنسية بعد انقلاب 1992. والفرنسيون يسددون اليوم ديون الأمس القريب، خصوصاً حين أدركوا أنّ ضغط تلك الديون أخذ يترجم عواقبه في عمليات تصدير العنف إلى داخل أنفاق المترو في قلب باريس، حيث يودي الإرهاب بأرواح فرنسية بريئة، تماماً كما أودى ويودي بأرواح جزائرية بريئة.

من جانبها، وفي الموقف من الإسلام السياسي كما في الموقف من أية قضية أخرى شرق أوسطية، ظلت واشنطن على عهدها في خدمة المصالح القومية الأمريكية، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل العسكري والسياسي والاقتصادي، وتوسيع دائرة المغانم الستراتيجية الناجمة عن احتلال العراق. وهكذا، كان في وسع البيت الأبيض غضّ النظر عن حمامات الدم وتلال الجثث الأهلية في الجزائر، بل و’التطنيش’ التامّ المذهل عن حقيقة أنّ الجزائر كانت تشهد إرهاباً من نوع أعمى، أشدّ قسوة وبربرية من أيّ إرهاب تزعم الولايات المتحدة أنها تخوض حرباً شاملة لاستئصاله. وتناسى أشخاص مثل ريشارد بيرل، وبول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد وكوندوليزا رايس، أنّ شعار الجماعات الإسلامية المسلحة في الجزائر كان يسير هكذا: ‘لا حياد في الحرب، وباستثناء الذين معنا فإن الآخرين كافرون’. ولكن كيف كان لهؤلاء أن يتذكروا مثل هذا الشعار، إذا كانوا هم أنفسهم قد صاغوا، وأطلقوا على لسان رئيسهم، الشعار المانوي الشهير: مَن ليس معنا فهو ضدّنا؟

وبهذا المعنى كان يُفهم إصرار رجل مثل حسين آيت أحمد على الربط بين مشروع بوتفليقة في المصالحة الوطنية (حيث أنّ أهداف المشروع الكبرى كانت، في يقينه، تهدف إلى تبييض الجنرالات بما يتيح استمرار تحالفهم مع بوتفليقة، تمهيداً لتعديل الدستور ومنح الرئيس الحالي عدداً لانهائياً من الولايات الرئاسية، أسوة بأشقائه الرؤساء العرب… وهذا ما جرى بعدئذ، بالفعل!)؛ وبين ما تحظى به سلطة بوتفليقة من تأييد فرنسي وأمريكي صريح، لعلّه بدا فاضحاً أحياناً. وإذا كان آيت أحمد قد بالغ، في كثير أو قليل، حول طبيعة هذا الدعم؛ فإنّ الثابت، مع ذلك، أنّ الديمقراطيات الغربية تنفست الصعداء بعد انقلاب 1992، حين صادر الجيش الجزائري صندوق الاقتراع (طوطم الديمقراطية الغربية!)، ودفع الجزائر إلى بركة الدم. وحدث، استطراداً ومراراً، أنّ الديمقراطيات إياها انتقلت سريعاً إلى ما هو أدهى من تنفّس الصعداء: إلى مدّ المافيا العسكرية بأسباب البقاء اللازمة، لا لشيء إلا لكي تسيل أنهار جديدة من دماء الجزائريات والجزائريين! 

المقارنات بين الجزائر وسوريا، ثمّ بين بوتفليقة والأسد استطراداً، وافرة متزايدة ضاربة الأطناب؛ وليتها اقتصرت على محض نزوع استبدادي إلى إعادة إنتاج خرافة رئاسات مديدة لانهائية، مفتوحة إلى أبد الأبد.