قورش (بشار) الأسد!

صبحي حديدي

لا حدود للابتذال العقلي، ومثله الانحطاط في تحريف الحقائق، حينما يتنطّح مسيحيّ غربي مغالٍ للدفاع عن النظام السوري، بذريعة أنّ بشار الأسد هو حامي الأقليات في سورية، وضامن أمن الطوائف المسيحية بصفة خاصة. الوقائع تُقلب، رأساً على عقب، على أيّ نحو، وبأية مفردات، وكيفما سارت نبرة التهويل الدراماتي؛ ما دامت تخدم تسويق تلك السردية، أو بالأحرى تنفع في تبسيطها (انحطاطاً وابتذالاً، دائماً) لكي تنطلي على المسيحيّ الغربيّ العاديّ، البسيط في إيمانه الروحي، المتواضع في معلوماته عن سورية ذاتها، وربما الشرق الأوسط بأسره.

لعلّ من الخير، والجدوى، البدء بهذا النموذج الصارخ: مقال بعنوان ‘الأسد: نموذج حديث من قورش الأكبر بالنسبة إلى المسيحيين’، كتبه يان ستادلر، ونشره موقع Faith & Heritage (الإيمان والإرث)، والذي يختصر رسالته هكذا، في شعار يتصدّر الموقع: ‘مسيحية غربية من أجل الحفاظ على ثقافة الغرب وأهله’. ويكفي مثال واحد على تدنّي سوية المقارنة التي يعقدها ستادلر: ‘الله استخدم الملك قورش الأكبر لحماية اليهود المضطهَدين، والسماح لهم بالعودة إلى الأراضي المقدسة وإعادة بناء الهيكل. والأسد تصرّف بطريقة مماثلة، فأتاح للمسيحيين أن يكونوا آمنين مطمئنين في بلد يهيمن عليه الإسلام’!

عبث، بالطبع، أن يُسأل هذا العبقري عن العلاقة بين اليهود والمسيحيين هنا، أو عن ‘الأراضي المقدسة’ التي تكفّل قورش (بشار) الأسد بإعادة المسيحيين إليها، أو عن ‘الهيكل’ المسيحي الذي أعادوا بناءه؛ وعبث، قبلئذ وأساساً، أن تُطلب من ستادلر معلومة واحدة دقيقة حول تاريخ المسيحية في سورية، أو عن بولس الطرسوسي وطريق دمشق المستقيم. طريف، في المقابل، تذكير هذا المنافح عن الأقليات المسيحية أنّ ‘الحرس الثوري’ الإيراني ومقاتلي ‘حزب الله’ هم ورثة قورش الأكبر، وليس الأسد أو ضباطه أو ميليشياته الطائفية أو شبيحته؛ أو تذكيره بأنّ الإمبراطورية الأخمينية، التي ينتمي إليها بطله الفارسي محرّر اليهود، قامت أساساً على أنقاض ثقافات وشعوب وأمم كثيرة، في سورية وبلاد الرافدين والأناضول وفلسطين ومصر وليبيا وتخوم الهند ومقدونيا… 

ومع ذلك فإنّ لمقارنة ستادلر صفة واحدة وجيهة، في نهاية المطاف، هي أنّ هذا القورش الحديث، الأسد، يؤدّي بالفعل دور حامي عبرانيي عصرنا، مواطني دولة إسرائيل اليهود؛ سواء على امتداد خطوط التماس، في أراضي الجولان المحتلة؛ أم في الجنوب اللبناني، حيث ينشغل ‘حزب الله’ بطراز آخر من ‘المقاومة’ في القصير ويبرود وحرستا… وبهذا المعنى، فإنّ اتفاق إيران وإسرائيل على مساندة النظام السوري وإطالة آجال بقائه ما أمكن الأمر، لا يعيد استكمال مهامّ قورش الأكبر القديمة، فحسب؛ بل يعيد أيضاً إحياء التفاهيم الفارسي ـ اليهودي، ويفسّر حماس صهاينة غربيين (ألكسندر آدلر، على سبيل المثال) لنظرية الإخاء الإيراني ـ الإسرائيلي في وجه ‘مخاطر الربيع العربي’.

وقبل أربع سنوات عرض المتحف الوطني الإيراني، بإعارة من المتحف البريطاني، قطعة أثرية ثمينة هي أسطوانة قورش الاكبر الشهيرة، التي تعود إلى القرن السادس قبل المسيح (وكان ذاك هو العرض الثاني في الواقع، لأنّ الأسطوانة زارت إيران سنة 1971، خلال احتفالات الشاه محمد رضا بهلوي بالذكرى الـ2500 لقيام النظام الشاهنشاهي). وكان مفاجئاً أنّ صحيفة ‘كيهان’ المتشددة طالبت بعدم ردّ الأسطوانة، لأنها ‘ملكية إيرانية’؛ متناسية أنّ القطعة، رغم صلتها بملك فارسي، لم تُكتشف في بلاد فارس، بل في بابل العراق، سنة 1879، وهي بالتالي ملكية عراقية بالمعاني التاريخية والأركيولوجية والحقوقية. كانت لافتة، كذلك، تلك اللغة الفارسية حقاً، المفعمة بالفخار القومي والاعتداد بأمجاد الماضي السحيق، التي صدرت عن كبار المسؤولين الإيرانيين، بصدد الأسطوانة.

فالرئيس الإيراني السابق، محمود أحمدي نجاد، لم يتردّد في وصف قورش بـ’ملك العالم’، الأمر الذي بدا مستغرباً من رأس نظام حرص على تخفيض نبرة التغنّي بماضي الفرس قبل الإسلام، وذلك على نقيض ـ مقصود، ومنهجي، ومدروس ـ ممّا كان يفعل الشاه. لا أحد، سوى السذّج، غاب عنه المغزى السياسي ـ أو الشعبوي، في جانب آخر هامّ ـ خلف حرص نجاد على زيارة أسطوانة قورش، وإسباغ أوصاف تفخيمية على ملك وثني في نهاية المطاف، كما يقول المنطق البسيط (وكما شدّد، حينئذ، آية لله صادق خلخالي، الذي أضاف أنّ قورش كان ‘مثلياً’ و’عابداً للنار’). كذلك لم تغب عن الرئيس الإيراني السابق ضرورة ‘الموازنة’، التي لا تقلّ شعبوية بالطبع، بين الاحتفاء بملك فارسي حرّر اليهود من أسرهم البابلي، وبين موقف إيران الراهنة من دولة إسرائيل؛ فكان أن وصل إلى المعرض وقد أرخى على كتفيه… كوفية فلسطينية!

عودة، أخيراً، في اقتباس ثانٍ، إلى صاحبنا عبقريّ المقارنة القورشية: ‘إنّ المعركة التي يخوضها المسيحيون في الغرب هي المعركة ذاتها التي يخوضها المسيحيون في دمشق، وغروزني، وأجزاء أخرى من العالم الإسلامي. الأسد حليفنا، أحببنا هذا أم كرهناه، وعلى المسيحيين أن يبتهجوا إزاء التحالف مع رجل مستعدّ للغرق بسفينته بدل بيع المسيحيين’! وفي ضوء خلاصات كهذه، خاصة غرق السفينة، ألا يحقّ لأنصار النظام، من أبناء الطائفة العلوية تحديداً، أن يشككوا في هوية الأسد الطائفية، وأن يقترن الشكّ عندهم بمشاعر الحسد والغيرة من… مسيحيي قورش العصر؟