الحركات الإصلاحية وطموح "القبول الغربي"
لم تكفّ هواتفي عن الرنين في تلك الليلة. كان شتاء القاهرة ملتهباً مساء الجمعة الأخيرة من أول شهور 2011. رأى العالم عبر الشاشات وزارة الداخلية وهي تنهار يوم 28 يناير/ كانون الثاني بجيوشها القمعية الجرارة، وشاهد المتابعون قوى "الأمن المركزي" التي تمّ إعدادها لمثل هذا اليوم تقف عاجزة في الميدان المتأجج بالهتافات المدوية. تركّزت أسئلة الصحفيين والباحثين الأوروبيين على محاور أربعة: كيف يبدو مصير مبارك؟ ما دور الإصلاحيين "الإسلاميين" تحديداً؟ ما مستقبل قناة السويس والمصالح الغربية في وادي النيل؟ وبالطبع؛ هل ستبقى اتفاقية "كامب ديفيد" قائمة؟
انصبّ جوابي للمنشغلين بالحالة المتدحرجة بأنّ أولويتنا نحن في أوروبا ينبغي أن تنصبّ الآن على الاكتراث بالشعب المصري قبل أي اعتبار آخر، وأن نلتفت إلى مصر ذاتها بكل ما تعنيه من قيمة ومكانة قبل القلق على مصالح غيرها، فالموقف الأخلاقي يقتضي الإنصات ابتداء للجماهير الغاضبة التي لديها ما تصدح به من مطالب الكرامة والحقوق والحريات والديمقراطية؛ قبل استدعاء لغة المصالح والالتزامات المفروضة على القاهرة وشقيقاتها في الإقليم. قبل شهر من هذا الحدث المفصلي كانت جماهير تونس تصنع انتفاضة جسورة، انطلاقاً من الجنوب المهمّش والمناطق الداخلية المنسيّة، بعد سنتين من غضب جماهيري تونسي فيما يُعرَف بانتفاضة الحوض المنجمي التي اندلعت في ولاية قفصة.
تجاهلت الحكومات الأوروبية، كالمعتاد، أحداث الحوض المنجمي السابقة؛ ثم بدا سلوك النخب الأوروبية في انتفاضة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011 مرتبكاً للغاية في أسابيعها الأولى، ولم تجرؤ عناوين الصحافة على نعت ابن علي بالطاغية إلاَ يوم سقوطه تقريباً، حتى أنّ الوزيرة الفرنسية المتغطرسة ميشال إليو ماري عمدت إلى تقديم تفسير فريد للانتفاضة، بأنها نتيجة نجاحات تعليمية حقّقها عهد ابن علي دفعت بفائض من أفواج الخريجين التونسيين إلى البطالة؛ فاندلع هذا الغضب. كانت هذه التحيّزات الجسيمة والتأويلات الخرقاء والتعليقات المرتبكة من بواعث إقالة إليو ماري على ما يبدو من وزارة الخارجية بعد أسابيع؛ ليحلّ ألان جوبيه محلها بخطاب جديد يلائم توجّه باريس والعواصم الغربية لاحتواء المرحلة الجديدة.
نشوة الانعتاق المؤقتة
كان حلماً شاعرياً ذاك الذي عاشته جماهير العرب في الشهور الأولى من عام 2011، وبدا لها أنها انتزعت حريّتها في "ثورات" استغرقت أسابيع قليلة غمرتها نشوة انعتاق لحظية عارمة، وتكلّلت النهاية السعيدة بعناق بين ثوار الميادين وجنود مسلّحين فوق دباباتهم التي قيل إنها كانت "تحرس الثورة". كان موسماً للرومانسية السياسية العربية، وزّعت فيه أوروبا وبلدان غربية ألقاباً مجيدة ودروع تكريم لامعة على من اختارتهم بعناية من فرسان "الربيع العربي"، ثم حمل بعضهم بعد سنة أو سنتين قطع الخشب والمعدن والزجاج تلك إلى المنافي أو فارقوها إلى السجن، ولم تعد جمهرة المصفِّقين في البرلمان الأوروبي والمنتديات الغربية تذكُرُهم اليوم.
تعاقبت الانكسارات والانهيارات على المشهد العربي في سنين لاحقة، وصعدت ثورات مضادّة استمدّت دعماً غربياً من تحت الطاولة وغطاء سياسياً وروافد اقتصادية من فوقها. مدّت عواصم أوروبية وغربية الزرابيّ الحُمر للاستبداد العسكري الجديد وللمُنفقين عليه بسخاء في أرجاء الإقليم. حدث هذا بينما واجهت شعوب عربية مآسيها الجسيمة وتفجّرت معها الدماء من عروق أجيالها، وهامت على وجوهها بحثاً عن مأوى خارج نطاق البراميل المتفجرة وميادين المذابح الجماعية. استحالت سورية وليبيا واليمن حطاماً فوق حطام، زيادة على ما لحق بأقاليم واسعة في أحشاء بلدان عربية أخرى من تدمير وتهجير وفظائع وأحكام جماعية بالإعدام.
تضغط هذه الصدمات على الحركات والتشكيلات والأوساط الإصلاحية التي تعيش حيرتها أو ذهولها، وتضطرب بعض قياداتها وصفوفها في تقدير الحالة وتأويل بواعثها وتشخيص ملابساتها وتقدير سبل الخروج منها، مع ميْل متعاظم لدى بعضها إلى لوْم الذات والاستغراق في التلاوُم الداخلي والتشظِّي المتواصل، وهي من متلازمات الإحساس بالهزيمة والانكسار.
تتفاقم الحيرة كلما اقتربت تساؤلات الانعتاق من مركز الإقليم، الموضوع في بؤرة الاهتمام الغربي؛ كما في مصر والشام. وفي سياق الشواغل المضطرمة؛ يهمس بعضهم بتساؤلات عن السبيل إلى كسب "الغطاء الخارجي" الذي تُسبِغُه قوى الهيمنة على من يحكمون المنطقة أو تحجبه عنهم، وهو ما يدفع بخيارات مبعثرة في الأفق. يرى بعضهم حاجة مؤكدة إلى "طمأنة الغرب"، أو "عدم إثارة العالم علينا"، وقد تشغلهم تساؤلات من قبيل "كيف نُصبِح مقبولين دولياً"؟ مفهوم تماماً أن يهمس بمثل هذا إصلاحيون عرب أدركوا من أمْر بلدانهم أنها محكومة بطغيان داخلي مرتهن لهيمنة خارجية عليه تمنحه الغطاء وضمانات البقاء.
تسويق الذات بالمراجعات
يحسب بعضهم، في الحركات الموصوفة بـ"الإسلامية"، أنّ مراجعاتهم النظرية في الشأن الديني ستفتح لهم أبواب "القبول الدولي"، ولمّا يلحظوا بعدُ أنّ الإقصاء لم تَنجُ منه في السابق واللاحق حركاتٌ وزعاماتٌ محسوبة على توجّهات علمانية أيضاً تتّصل أفكارها بمشارب أوروبية المنشأ أساساً. ومن غرائب التقدير أن ينادي بعضهم في هذا الصدد بالاستفادة من تجارب مثل "العدالة والتنمية" أو بمحاكاتها، دون أن يستوقفهم أنّ هذه التجربة التركية تحديداً مُتّهمة من أوساط غربية باستبطان نزوع إمبراطوري وأنها تنطوي على مشروع استعادة أدوار كبرى، بما جعلها في بؤرة النقد والتضييق والاستهداف والمحاولات الانقلابية التي لا تبدو في بلاد الأناضول أحداثاً محلية وحسب؛ وهذا رغم تجاوزها للتمظهر التقليدي في الحضور الديني والفكري ومزاوجتها بين الإحيائية الثقافية العثمانية الرمزية واقتصاد السوق الليبرالي.
حَسِب بعض الطيِّبين في حركات إصلاحية تعيش حيرتها؛ أنّ ما يرونه "موقفاً غربياً" مناهضاً لتشكيلاتهم ومحاولاتهم قد يتغيّر بمجرد أن يُذيعوا بلاغات عطرة عن الحوار والتسامح والانفتاح والتعددية و"تمكين المرأة" مثلاً؛ وبالطبع مع إعلانهم التوبة من أطر التواصل والتنسيق مع حركات إصلاحية أخرى مشرقاً ومغرباً. والمفارقة أنّ بعضهم لم يستوعبوا درس "الربيع العربي" بعد، ولم يدركوا محدِّدات القبول بالحركات الإصلاحية في مواقع الحكم إن كان وصولها إليه مسموحاً به أساساً وفق معادلة الهيمنة المُغلَقة حسب المعطيات الراهنة، وهو ما يعيدنا إلى اهتمامات المتابعين في لحظة الحقيقة، مثل أولئك الذين تعاقبت اتصالاتهم لفحص أبعاد المشهد المنتفض على النيل في شتاء 2011، فبعضها يشي بشواغل الخارج وأولويّاته.
يغفل بعض "الإصلاحيين" اليوم عن أنّ كثيراً من "الضمانات الفكرية" التي يراهنون على تسويقها خارجياً في ملفات الديمقراطية والحقوق والمرأة و"الأقليات" والحريات العامة والشخصية؛ تم تقديمها وزيادة في منصّات عدّة حول العالم إلى درجة قيل إنها أثارت "إعجاب" أوساط غربية قبيل "الربيع" وأثناءه، حتى حسب بعضهم أنها كافية لحيازتهم "عدم ممانعة" في ولوج الحلبة السياسية.
تتجاهل المقاربات السطحية جملة من المحددات الاستراتيجية وحسابات المصالح التي ما زالت معادلة الهيمنة الخارجية تفرضها على وكلاء الحكم المحليين تصريحاً أو تلميحاً. قد يعود الالتباس لدى بعض الإصلاحيين إلى وثوقهم بجدية الشعارات والمقولات التي تتحدّث بها حكومات غربية في بلاغاتها المنمّقة، دون ملاحظة أنّ هذه الحكومات هي التي منحت الضوء الأخضر حتى لأشد النسخ محافظة في الشأن الفكري وانغلاقاً في التطبيق الاجتماعي ورفضاً للديمقراطية في المجال السياسي؛ عندما اتضح لها أنّ نظاماً متشدداً بعينه هو الوكيل الضامن لمصالحها المحلية والإقليمية. إنها عظة شاخصة للعيان في تجارب عربية محددة تحظى بعلاقات غربية وطيدة، وهو ما يتجلّى في حالة "طالبان" أيضاً في النصف الثاني من تسعينيات القرن العشرين.
في السياق ذاته؛ قد تحوز بعض الحركات المعارضة والفصائل الثورية والمسلّحة امتياز الضوء الأخضر "الغربي"، أو قد تلقى بعض الدعم المادي أو العسكري، في منازلتها الميدانية أو مناوأتها السياسية في اتجاهات محددة، ثم تكتشف هذه الحركات والفصائل لاحقاً أنّ صراعها المحلي تم وضعه على سكّة صراع إقليمي ودولي استعملها ثم جيّرها أو استبدلها، على نحو يُخاطِر بتحويل بعض الثورات مع الوقت إلى حروب بالوكالة، وهو تطوّر منطقي لحراك الشعوب على خرائط محكومة بمعادلات الهيمنة الخارجية.
إنّ تجاهُل نفوذ "الداعمين" الإقليميين والدوليين يبقى ضرباً من السذاجة السياسية التي تدفع بعض "الثورات" أثمانها غالياً في مساراتها ومآلاتها، وغالباً ما يُصادَر مشهد الانتصار، إن تحقّق أساساً، لمن ترتئي قوى الهيمنة الخارجية أنهم الأجدر بقيادة المرحلة الجديدة، وقد يقع تصنيف "مجاهدي" الأمس على قوائم "الإرهاب" إن لم ينخرطوا في المعادلة الجديدة.
التكيف مع الهيمنة الخارجية
يتعلّق الاشتراط الجوهري للقبول الخارجي بالحركات الإصلاحية بمدى جاهزيتها للتكيّف مع معادلات الهيمنة والقيام بأدوار وظيفية متعددة في خدمة مصالح محددة، ما يقضي، عملياً، بأن تكفّ هذه الحركات عن محاولة أن تكون إصلاحية أو نهضوية، سواء أتعلّق الأمر بالمضمون السياسي أم بالشأن الاجتماعي/ الفكري. وقد يترتّب على أرباب الحكم الصاعدين، تعبيراً عن استيعابهم الدرس، أن يُصالِحوا القاعدة الحربية الضخمة المنصوبة على مقربة منهم في رقعة فلسطين المحتلة، أو أن يكفّوا عن مناوأتها على الأقل، وستبقى هذه "المصالحة" أو "المهادنة" إفصاحاً منمّقاً عن الإذعان والانصياع والاتعاظ من دروس سابقة، وهو ما قد يعني ضرباً من التضحية بالأمن القومي بمفهومه الأوسع؛ طلباً لبقاء تجربة الحكم أو الاستمرار ضمن معادلتها.
تقود هذه الاشتراطات إلى ما يشاهده الجميع في واقع عربي تتسيّده أنظمة ذات سطوة على شعوبها ضمن دول ضعيفة ومكشوفة استراتيجياً وخاضعة لهيمنة خارجية، مع نزاعات مديدة ومنافسات صبيانية بين دول الفتات ذاتها. ولمّا كانت الحركات الإصلاحية في الواقع العربي أرحب في رؤاها من أسلاك التجزئة التي فرضها عهد سايكس وبيكو؛ فإنّ "الواقعية" المنشودة من هذه الحركات ستفرض عليها منح "الوطن" أولوية، فتكون مفردة "الوطن" في هذا السياق كناية عن الانكفاء على الداخل المُسيّج والتملّص من الأمّة الممتدّة؛ التي ستبدو هي وقضاياها عبئاً لا يُحتمَل.
فقه الدولة السجينة
إنّ مشروعات الإصلاح والنهضة التي أنزلها أصحابها من أذهانهم إلى الورق، تصطدم لدى محاولة تنزيلها من الورق إلى الواقع العربي بحقيقة أنه محكوم بتجزئة الأمّة واستبداد الداخل وهيمنة الخارج، وقد يطلُب صكّ السماح بالمشاركة السياسية أن ترتهن الحركات الإصلاحية لمحدِّدات أنظمة ذات سطوة في الداخل وأن تخضع ضمناً لمعادلة هيمنة خارجية ناعمة أو خشنة. تجد وعود الإصلاح والنهضة ذاتها إزاء مفاضلة صعبة؛ فإمّا تغيير الواقع كي يستوعب خيارات جذرية وهو ما يتطلّب مداخل ثورية شاقّة غالباً؛ أو الاكتفاء بالمُمكن السياسي الذي يبقى مُحاصَراً ضمن شروط اللعبة السياسية اليومية بهوامشها الضيقة وسقوفها الواطئة الكفيلة بتقزيم أي مشروع إصلاحي أو تدجينه.
يقتضي تنزيل أي مشروع إصلاح ونهضة شامل، في الواقع العربي القائم، أن يتخلِّي روّاده عن حمولة البرميل وأن يكتفوا بغرفة منه لا أكثر؛ هي أقصى ما تستوعبه الجفنة الصغيرة. فإغراق "الوطن" المُقلّص بشعارات غير قابلة للتحقّق في واقعه المسيّج بإحكام قد يصير ضرباً من تضليل الذات، لكنّ الوجه الآخر للتضليل هو تضخيم فتات الدول وتصويرها رغيفاً بحياله، وجعل "الوطن" المُقلّص داخل سياجه بمثابة أمّة كبرى بمعزل عن أمّته تُنشَد له الأناشيد وتُحشَد له طوابير الصباح.
تتذاكى بعض القوى المحسوبة على مشروعات الإصلاح والنهضة، إن سعت إلى "تأصيل" هذا المنحى التقزيمي الاضطراري لوعودها بلا مكاشفة مع الذات أو مصارحة لقواعدها وجماهيرها. ليس عيباً أن يتنافس القوم على إدارة نقابة مساجين؛ لكنّ إيهام القابعين خلف القضبان بأنهم يرتعون في عالم فسيح ينعمون فيه بحريّتهم وسيادتهم ومواردهم سيبقى ضرباً من تكريس الوهم؛ على منوال التعبئة التي دأبت عليها أنظمة ما بعد إعلانات الاستقلال.
يبدو مفهوماً، إذن، أن يصعد "فقه الوطن" في مقام إزاحة الوعي المنفتح بالأمّة والعالم. و"الوطن" في خطابات الواقع العربي الراهن قد يعني دولةً سجينة ومرتهنة، أو هو رقعة مُسيّجة بإحكام بموجب حصّة كل فريق من فتات التجزئة، بما يفرض عزلة وجدانية عن جوارها وأنساقها، ومفاصلة شعورية مع الوشائج المنعقدة معها، علاوة على فحوى مقولة "الوطن" التي تأتي في الدعاية الرسمية كنايةً عن نظام الحكم أو تعبيراً عن مقام الزعيم الأوحد وأسرته المبجّلة أو ابنه الوريث، فيصير "الولاء للوطن" انصياعاً أعمى لمَن صادره.
ولأنّ "الوطن" الذي تشي به هذه السردية مُلفّق بخطوط لم يرسمها أبناؤه أساساً، ومكبّل باشتراطات يستشعر عجزه عن تجاوزها؛ فإنه لا يحوز مقومات الاستقلال بذاته. قد تملك أقطار عربية التراب دون الماء والخضرة، أو الماء والخضرة دون كفايتها من البشر والأجيال، أو تحوز وفرة البشر دون كفايتها من الثروة والموارد، أو الثروة والموارد دون كفايتها من البشر والأجيال والطاقات، وهو وجه من أعباء التجزئة المفروضة على المنطقة التي أورثت الجميع فقراً في حاجات أساسية لا تتوفّر إلاّ بالتكامل ضمن أمّة أو بالانصياع لشروط الهيمنة المفروضة من وراء البحار. ومن مفارقات الحالة أنّ بعض الذين يسأمون ذكر الوحدة العربية مثلاً انهمكوا في تسويق "الشراكة الأوروبية المتوسطية" ونادى بعضهم بتعزيز الأواصر على مستوى "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" طالما أنّ الريادة في "الشرق الأوسط الجديد" ستكون لمحتلِّي فلسطين.
ويبقى أنّ فتات الأوطان المسيّجة جميعها مكشوف استراتيجياً بموجب اختلالات جسيمة في موازين القوى، وخاضع لمنظومات مراقبة واختراق، ولطائرات بدون طيّار تسبح في الأجواء، وأساطيل غربية ترابط قبالة السواحل، وصواريخ "توماهوك" تصفع سرديات السيادة الوطنية. وتبلغ المفارقة مبلغها عندما يبدو صراع الجماهير مع أنظمتها فعلاً نضالياً ينشد حرية مشروطة بسياج هذا السجن المفتوح المسمّى "الوطن"، الذي تعلوه راية طوطمية، وأغانٍ مجيدة تصوِّره عالماً بحياله عبر شاشات وشبكات ومناهج مكرّسة لتدجين الأجيال.
من يقوى اليوم في الواقع العربي على مصارحة قومه بالقول: إنّ برلمانكم الذي يضجّ بمُرافعات مدوِّية تحت قبّته لا يتعدّى في دوره وزنَ أحد مجالس الأحياء في أمم أخرى تملك قرارها، وأنّ حكومتكم الرشيدة بمناصبها المتكاثرة وألقابها المنتفخة هي اختراع ذكي لمنحكم إحساساً غامراً بالسيادة، وأنّ "عرس الديمقراطية" الذي يُسْكِر وَعيَكم الجمعي في مواسم الاقتراع هو الأسلوب الأمثل لهضم قواكم الشعبية و"معارضاتكم" السياسية في معدة الأنظمة السلطوية ضمن معادلة تبقى مُخرَجاتُها مشروطة سلفاً، وقد تبادر قصور الحكم إلى "جزّ العشب" إن تراكمت شعبية القوى المُشارِكة في المعادلة، فتختار تهميشها أو تنحية بعض رموزها عن المشهد.
يُدرِك العارفون بالواقع أنّ هذه الأنظمة لن تعبأ في لحظة الحقيقة بكل الخلفيات المسرحية التي تتباهى بها إن هي أرادت توريث الحكم لصبيّ صاعد أو إن وَلّت وجهها صوب قِبلة أخرى في السياسة الخارجية أو إن قرّرت إقامة قواعد عسكرية أجنبية. فهي "دول" تتقيّد بعلامات مرورية مفروضة عليها من الخارج، على نفقة السيادة الوطنية والأمن القومي. وبهذا المعنى تصير "طاعة ولي الأمر" طاعةً ضمنية لولي ولي الأمر، الذي يقطن غالباً في دار بيضاء في شارع بنسلفانيا، بواشنطن دي سي، وتصير بالتالي إذعاناً لوكيله الإقليمي الذي استحوذ على مقدّسات الأمّة في فلسطين.
الإصلاحيون وشروط المعادلة
يخوض الإصلاحيون صَوْلاتهم وجولاتهم ضمن هذا الواقع وهم مضطرون إلى التناغم مع شروط معادلة لم يُوجِدوها هم، فيستشعر بعضهم مع الوقت حاجة إلى مزيد من التكيّف مع هذا الواقع، بمراجعة الآمال الإصلاحية وتقزيمها، وقد يذهب بعضهم إلى خيارات جذرية تروم تغييراً شاملاً لا يملكون مفاتحه وقد يصطدمون مع المعادلة القائمة الذي لن تتوانى عن محاولة سحقهم أو تهشيمهم.
وإن اقترب الإصلاحيون من صناعة القرار في "نقابة المساجين" هذه سيزداد وعيُهم بأهمية تقيّدهم بقواعد اللعبة التي ارتضوها في سجن مفتوح تعلوه راية استقلال. يصير فقه اللعبة مدوّنة سلوك تتطلّب "مراجعات فكرية" و"رؤى تجديدية" و"نظرات مقاصدية" و"مقاربات واقعية"، وهذا لتكييف الأذهان والوجدان على نحو يُتيح حشر مارد الوعي في قمقمه عن طيب خاطر؛ مع إسباغ شرعية على المقاربات الجديدة مستمدّة من نصوص التأسيس أو المرجعيات المصدرية.
ومن قواعد اللعب أن يقتضي الصعود في المشهد استرضاء الهيمنة الخارجية بـ"تطمينات" متلاحقة يُدفَع بها سرّا وعلانية، أو تصريحاً وتلميحاً. ومن مكمِّلات الحالة مثلاً؛ أن يكتشف بعضهم أهمية الدفع بمزيد من الوجوه النسائية لتصدير "صورة منفتحة" إلى العالم، الذي هو "الغرب" تحديداً بالطبع، وهل يرى القوم من العالم سوى الغرب أساساً؟ فكما تدفع الحكومات بمتحدِّثات بارعات بالإنجليزية والفرنسية كي يُعبِّرن عنها في منصّات الأمم؛ أو بوزيرات للسعادة والبهجة وحقوق الإنسان على هذا المنوال؛ سيتعيّن على "الإصلاحيين" أيضاً الدفع بوجوه نسائية لمحاكاة التقليد ذاته. لا يهمّ هنا إن كان هذا نتاج وعي ذاتيّ بإنعاش أدوار المرأة المأمولة في المجالات المتعددة؛ أم أنّ الإجراء انعقد أساساً للعناية بتغليف السلعة المخصصة للتصدير؛ لكنّ المرجّح في الأحوال جميعاً أنّ "الإصلاحيين" قد يفهمون بعض الدروس بمُضِيّ الوقت، وسيتصرّفون وفق مدوّنة سلوك عرفية قد تطلب "الحُسنَييْن" معاً.
يبقى عليهم أن يلحظوا، بعين العطف، مصالح الهيمنة الخارجية وأن يتحرّوها في ضماناتهم الممنوحة تصريحاً أو تلميحاً، وربما وَجب عليهم مع الوقت أن يخوضوا مع الخائضين في التنافس على رعايتها، كي لا تستأثر بها أنظمة أتقنت صنعة التبعية والانصياع والأدوار الوظيفية منذ القرن المنصرم. ستنشأ في الظلال شبكات مصالح وتعاقدات من حول "الإصلاحيين" تشارك في هذه المنافسة على الامتيازات والوكالات المحلية للهيمنة الاقتصادية الخارجية، وسيجد آخرون فسحتهم في طبقة "المنظمات غير الحكومية" التي تستمدّ أولويّاتها وتعتمد خطابها ومقولاتها من مراكز خارجية أيضاً؛ هي بمنزلة المبشِّرين الجدد، لكن تحضر بلا صلبان وأرغفة هذه المرّة.
ومن هذه المراكز يتوافد الذين يوزِّعون المال ويُبرِمون التعاقدات ويُباشِرون التعميد الحداثي وما بعد الحداثي؛ على طريقة المجتمع المدني الذي له وصاياه العشر ومحفوظاته وكتبه المقدسة وشعاراته، التي يتم صبّها في وعي جمهرة الملتحقين بدورات وبرامج تثقيف وأدبيات مطبوعة ومنصّات شبكية، بلا نقد منهجي من المتلقِّين أو مناقشة، وإنما ستتملّك أولي الشغفِ بالمذهب الجديد نشوةُ الانعتاق "خارج الصندوق"؛ دون أن يلحظوا أنهم وَلَجوا صندوقاً آخر.
يتخلّى هذا النفر من "الإصلاحيين" عن مقولات مُلهِمة، مثل "الوحدة العربية" أو "الجامعة الإسلامية" أو "الأمّة الواحدة" أو "أستاذية العالم"، وقد يتوارَوْن من ماضيهم خجلاً، ثم يتنافس بعضهم في حيازة إجازات الاقتدار وشهادات الجودة وإشارات الثناء من "أساتذة العالم" المشهود لهم بالصدارة، ولا يتوانون عن الالتحاق بتنظيمات دولية مُعولَمة تمنح المنخرطين فيها شهادات الجدارة والاقتدار على "الحكم الرشيد"، وسيُكثِرون من الحديث الحالم عن "الانفتاح على العالم" مع تحاشي مفردة "الأمّة" التي تغدو عبئاً ثقيلاً على إطلالاتهم الجديدة.
تضخيم الخصوصية
لا يَسهُل الإقرار بتناقضات ذاتية مترتِّبة على نفسية المكوث المديد في قعر العالم الثالث. من ذلك مثلاً أنّ بعض "الإصلاحيين" العرب تحدّثوا في ما مضى بإعجاب عن "الوحدة الأوروبية" وهم يخجلون من مجرّد التلفّظ بمفردات "الوحدة العربية" أو "الجامعة الإسلامية"، ويُكثِر بعضهم الحديث عن "الوطن" وانفتاحه على "العالم"؛ متحاشين الإشارة إلى "الأمّة" التي يُفترَض بها أن تضمن يوماً ما لهذا "الوطن" أن لا يكون مكشوفاً إزاء تكتّلات استراتيجية ومحاور قوى تهيمن على البحار والأجواء وتتحكّم بشرايين الحياة.
ثمة خطابات محسوبة على قوى إصلاحية تُمعِن في إبراز مسألة "الخصوصية المحلية"، أو تقديم "الوطن" في موقع قد يُفهَم منه أنه يُناقِض الالتزام بأفق يتجاوزه، وقد يقتضي "الالتزام بالوطن" بالتالي التعامي على ما يتخطّى حدوده. و"الوطن" في هذه السردية هو نسخة "إصلاحية" ذكية من شعارات "نحن أولاً" التي رفعتها أنظمة عربية في فتات التجزئة بغرض الإعراض عن الأمّة وقضاياها المشتركة التي تؤثِّر في أوطانها جميعاً بصور شتى.
المعضلة المنهجية في هذا السياق أنّ الحاجة الرشيدة إلى الالتصاق بالواقع الوطني أو الداخلي أو المحلي، والالتحام بهموم الناس وتقديم خيارات عملية وإصلاحية لما يلي الحركات الإصلاحية من مجتمعات ومسؤوليات؛ يتم تقديمها في هيئة النقيض الموضوعي للانفتاح على الأمّة أو ضرورة السعي إلى تجاوز منطق الفتات والتشظي الإقليمي، بينما تجري في الوقت ذاته المبالغة في الحديث عن "الانفتاح على العالم" و"الالتحاق بالعصر"؛ فأي انفتاح هذا الذي يتجاوز المحيط المباشر أو السياق الحضاري كلياً أو نسبياً؟!
متطلبات المغامرة
حتى تخوض الحركات الإصلاحية هذه المغامرة عليها أن تُكيِّف أذهان صفوفها القيادية وقواعدها الجماهيرية، وهو ما يتأتّى عادة في تجارب التشكيلات الحزبية تحت عنوان "المراجعات الفكرية" أو إطلاق "برنامج جديد برؤية للمستقبل"؛ وهي عناوين لا تأتي في هذا السياق حصراً بالطبع. أما في واقع الممارسة فسيكون على شركاء الحكم "الإصلاحيين" أن يتسابقوا إلى تقديم "خدمات أمنية" لقوى الهيمنة؛ خاصة إن تولّى أحدهم وزارة سيادية أو شغل لجنة برلمانية مختصّة بهذا، والخيار مُتاح بسهولة تحت بند "مكافحة الإرهاب" مثلاً.
سيكون عليهم أيضاً تمكين بعض المصالح الخارجية من استنزاف موارد الأجيال لصالح احتكارات أجنبية ونحوها، فالتصادُم معها لا يُجدي نفعاً وقد يهدِّد استقرار تجربة المشاركة برمّتها أو قد يقطع "معونات" مقرّرة تحت عنوان "التعاون الدولي"؛ وهو التغليف الجميل لتسوّل الأعطيات من العالم الأوّل. وعلى هذا السبيل تحتاج الحركات إلى إنضاج فئات كومبرادورية من أبناء قادتها مثلاً، ومن محيطهم الاجتماعي، الذين سيجدون فرصتهم في إبرام الصفقات والتسابق إلى الفوز بعقود الامتياز لمصالح اقتصادية خارجية؛ تتسابق إليها نخبة شبابية صاعدة. وقد يتّضح للعين الفاحصة أنّ المنافسة الكومبرادورية على الحظوة بالامتيازات والوكالات الأجنبية هي أحد مبررات الصراع الداخلي المترتِّب على حراك اجتماعي بين قوى صاعدة ونخبة تقليدية متقادمة؛ بما يطوي آمال الاستقلال الاقتصادي شيئاً فشيئاً.
مخاطبة "الغرب" في عقر داره!
راهن بعض الإصلاحيين سنوات مديدة على تسويق تيّاراتهم وأحزابهم لدى ما يُسمّونه "الغرب" بحزمة من التعهّدات بالالتزام بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات الأساسية والتداول السلمي على السلطة. بدت المحاولة منطقية طالما أنها الشعارات التي ترفعها الدول الغربية، حتى أنّ كثيراً من "استفسارات" الدبلوماسيين والوسطاء القادمين من الشمال الغربي تدور حول هذه الملفات، من قبيل "ما موقفكم من ..؟ كيف ستتصرّفون إن كسبتم الانتخابات؟".
لكنّ بعض الإصلاحيين العرب الطيبين الذين انهمكوا بالإجابة على أسئلة الامتحانات؛ تناسَوْا أنّ عيون "العالم الأوّل" وآذانه مفتوحة على "العالم الثالث" أساساً، وأنّ السفارات والبعثات الدبلوماسية تعمل في الأرجاء وقد تستبق "الحكومات الرشيدة" إلى الميدان، وأنّ الشعوب العربية بتيّاراتها وحركاتها وأحزابها وقياداتها وخصائصها وتحوّلاتها هي بمثابة "حالات مبحوثة" تضعها جامعات ومعاهد ومؤسسات دراسات و"حصون فكر" في العالم الأوّل تحت المجهر.
من مفارقات الحالة أن يذهب بعضهم من العالم العربي إلى "مخاطبة الغرب في عقر داره"، دون أن يلحظوا أنّ "الغرب" إيّاه قاعد منذ زمن في "عقر دارهم"، وأنه يتقاسم "معهم" قوت أجيالهم، وله الكلمة الفصل في انقلاب جنرالاتهم أو تنصيب "شيوخ قبائلهم". ويبدو أنّ بعض الإصلاحيين لم يفقهوا بعدُ شروط الانصياع الراهن وطرائق اشتغاله، ربما لأنّ بعضهم لا يروق له الاعتراف بواقع الهيمنة الخارجية على ما هي عليه أساساً بصورها المرئية وبسطوتها غير المرئية.
مَن لم يقوَ بعدُ على الإقرار بالمعادلة المفروضة بإحكام؛ فليَستنطِق سيد البيت الأبيض في بعض تصريحاته وتغريداته التي تجاوز فيها دبلوماسية أسلافه، أو ليلحَظ حمّى الاحتماء بمحتلي فلسطين الذين يُوحُون لحكّام المنطقة بأنهم من يملكون في الإقليم وكالة الهيمنة الخارجية وامتياز التصرّف الاستراتيجي الإقليمي بموجبها.
حشر المشروع في ثوب ضيق
يبدو مأزق الحركات الإصلاحية جسيماً عندما تحاول حشر مشروع الإصلاح والنهضة في ثوب ضيِّق للغاية فصّله آخرون بمقاسات تعسّفية، وستكتشف فوق ذلك أنه ممزّق ومهترئ، بما يُلجئها إلى طلب الستر بتسوّل الغطاء الخارجي تحت شعار "التعاون الدولي" مثلاً. إنها من متلازمات المنافسة على المشاركة السياسية في دول مصمّمة أساساً ليحكمها طغاة لا يثقون بشعوبهم ولا تَثِق شعوبهم بهم، أو أن يحكمها قادة مُحاصَرون ومعزولون هم وشعوبهم التي تقاسي الفاقة والحرمان والمكائد إلى أن تثور غضبة جماهيرها على الحكومة طلباً لرغيف عيشها وقارورة دوائها.
عندما تقرِّر القوى الإصلاحية أن "تلعب سياسة" في معادلة محكومة بالتجرئة والهيمنة الخارجية؛ فقد تكتشف الحاجة إلى الانسلاخ النسبي من جلدها لتتماهى مع واقع محكوم بمنطق العجز. ويبقى السؤال عن الذي يبقى من مشروعات القوى الإصلاحية إن اكتفت بتمجيد دولة عاجزة وتجاهلت أمّتها وعالمها، واعتبرت الخصوصية المحلية نقيض المصير المشترك في الإقليم؟
تعلو في منصّات إصلاحية عربية مقولات الحاجة إلى "عقول للإصلاح والتغيير"، مع ضعف الإشارة إلى الحاجة إلى إرادة لخوض ذلك وصناعة استقلال حقيقي وتحرّر مؤكد على أساس الوعي بالواقع كما هو بلا إنكار أو تجميل. يعود جانب من المأزق إلى نزعة إلزام الخطاب في عمومه بسقف سياسي واطئ أساساً، أو إخضاع رؤى الإصلاح والنهضة لمقاسات ثوب ضيِّق ومهترئ يُحاكي دولاً ضعيفة أو هشّة أو عاجزة لا تكفّ عن مدّ يدها إلى العالم. فإن تقيّدت مشروعات الإصلاح والنهضة بالتزامات مفروضة على حزب أو طرف سياسي أو مجتمعي ما تمليها شروط لعبة مُجحِفة في أساسها؛ فإنها قد تُسعِف الحزب في تجربته التي تروم الاستمرار والبقاء بين حقول الألغام؛ لكنها ستُقزِّم المشروع الإصلاحي بأبعاده المتصوّرة إن تقيّد بالشروط إيّاها.
ليس مطلوباً من الأحزاب والتشكيلات المنخرطة في الحياة السياسية أن تتخطّى واقعها المحلي المباشر أو أن تنفكّ عن شواغله وهمومه وأولويّاته الظرفية؛ لكنّ ذلك لا يبرِّر ردم آمال الإصلاح ورؤى النهضة إن استشعرت هذه التشكيلات عجزها عن تلبية أشواقها. فمحاولات الحضور في المشهد "الوطني" عبر تجارب مشاركة "ذات مسؤولية محدودة"؛ لا تقتضي مصادرة رؤى الإصلاح والنهضة التي تبقى مطلباً تاريخياً لتجاوز واقع التأخّر والتبعية والتشظِّي بكل ما ينضح به من أزمات مركّبة وتداعيات جسيمة، وهو ما يُحتّم الفكاك من عقلية الأداة الواحدة في الاشتغال أو الخيار الشامل في الحضور.
"إصلاحات ومراجعات"
تُراهِن أوساط محسوبة على الحركات الإصلاحية على تسويق "إصلاحات" فكرية أو "مراجعات" منهجية لإحراز "القبول الغربي" – ولا يتعلق هذا بكل الإصلاحات والمراجعات بالطبع -، وكأنها لا تلحظ أنها مهما ذهبت بعيداً في هذه "الإصلاحات" أو "المراجعات" لن تناهز سخاء أنظمة الحكم السلطوية ذاتها في التضحية بالدين والدنيا ضمن أوراق اعتمادها في الخارج.
تتبارى أنظمة الاستبداد في رفع مقولات "الاعتدال" و"التسامح" و"الاستنارة" و"مكافحة التطرّف"، التي تستعملها في التسويق الخارجي وتخوض بها حرب أفكار ضارية داخلية أيضاً. فتحت هذه العناوين المضللة تستخدم الأنظمة القهرية مؤسسات ومراكز ومعاهد ومنصّات وأبواق؛ مع وفرة من المحسوبين على العلم والفكر والوعظ والأكاديميا الذين تستدرجهم بأموال سخية وفرص ظهور وتصدّر تشتري بها ذممهم وتبتلعهم نحو معدتها الهاضمة.
قد تنطوي بعض "المراجعات" على تراجعات يفرضها التكيّف مع شروط المعادلة القائمة. فمنطق المراجعة المطلوب في هذا الموسم العربي يقضي بأن يُراجِع العرب والمسلمون أنفسهم بشكّ دؤوب بالذات، دون أن يُراجِعوا عالمهم الأوسع وما فيه من تفاعلات. عليهم أن يُناقشوا أفكارهم وثوابتهم بازدراء؛ دون أن يجرؤوا على مناقشة أفكار مُهيْمنة أو مُعولَمة تعمل فيهم وفي أجيالهم. عليهم، مثلاً، أن يُعلِنوا البراءة من "جهاد الطلب والدفع" معاً، دون أن يكترثوا باستباحة أمّتهم وأوطانهم من الأطالسة أو الصهاينة.
تتملّص القوى الإصلاحية من ذاتها إن جعلت أولويّتها إسداء خدمات وترضيات لقوى الهيمنة الخارجية كي تسمح لها بالصعود أو البقاء في المشهد، وستكون لغة "المراجعات" ضرباً من التذاكي تلجأ إليه بعض هذه القوى لإعادة إنتاج ذاتها أو الانسلاخ من جلدها. يعني هذا، أنّك إنْ أردتَ اقتطاع حصّتك من معادلة الحكم في بلد ليس بوسعه أن يعيش بمنأى عن هيمنة خارجية صريحة أو مستترة؛ ينبغي أن تتأهّل لهذا الدور مع تحصين موقفك من الحصار والعقاب والحرب الناعمة أو الخشنة. عليك، إذن، تقديم "ضمانات" أو "تطمينات" لهذا الخارج، فكيف ستكون هذه تحديداً؟
إنّ المشاركة في معادلة الحكم في دول تحظى بإعلانات استقلال وأعلام مرفوعة دون استقلال ناجز وسيادة مكتملة؛ إنما تقضي بتخفيض السقوف والرؤوس معاً. وتأتي مفردة "المراجعات" بطابعها الفضفاض لتخدم هذا المنحى أحياناً، فهي ملائمة لإسباغها على مفاهيم ونقائضها، بما يجعلها مقولة شعاراتية بازغة تشتمل في بعض تجلِّياتها على تعارضات جسيمة وتناقضات ظاهرة حتى في السردية الواحدة. ثمة مراجعات انسحابية انكفائية تقوقعية، وأخرى تشاركية منفتحة، ومراجعات شعاراتية جوفاء أيضاً، ولا تغيب المراجعات الجادّة التي تروم الإصلاح والتفاعل التراكمي البنّاء، وإزاءها مراجعات تقويضية تُتقِن إحداث الفراغات في الوعي وتنخرط في موسم إسقاط الروايات الكبرى باتجاهات سائلة تفقد يقينها بكلِّ ما يتّصل بالذات بسبب.
ومن مفاتيح التفريق بين الانجراف والرُّشد؛ فحص الملابسات الذاتية والموضوعية معاً، وأن يتحلّى أهل "النقد" و"المراجعات" بثقة حضارية متوازنة لا تجد حرجاً في مناقشة أفكار عالمهم الذي يسعون إلى عيْش كريم فيه أيضاً كي لا ينتهي بهم النظر إلى لوْم الذات حصراً أو جلد ظهور قومهم بلا هوادة. قد تأتي "المراجعات" تحت وطأة دروس قاسية. فمن المألوف في واقع الأمم أن تواجه بعض حركات الإصلاح هزائم سياسية وميدانية، مؤقتة أو مديدة، ثم تتفاقم معضلة هذه الحركات إن باشرت إسباغ روح الانصياع واشتراطاته على أجيال المستقبل وعكفت على تأصيلها بصفة تُورث اللاحقين انكسارَ السابقين. يقتضي الموقف، بالتالي، حذراً بالغاً من مراجعات المكلومين وتأمّلات الذاهلين الذين يُباشِرون التفكير تحت تأثير صدماتهم المتعاقبة أو ضغط دروسهم المؤلمة. لا يقدح هذا بالتفكير أو المراجعة أو التقدير، عموماً، وإنما يقتضي الحرص على نقد النقد ومراجعة المراجعات، واختبار المقولة الناقدة بمنطقها هي أيضاً كي تُفتَتن وتُمتحَن، وهذا من صميم النقد والمراجعة بالأحرى.
وسوم: العدد 806