الحوار الفضيحة… وفضيحة الحوار… دراسة في الشكل!

لست منبهراً كغيري بـ «سكوت بيري» مقدم برنامج «ستون دقيقة»، فهذا اللون من المقابلات الصحافية، التي تأخذ شكل المحاكمات، قمت بها منذ نهاية الثمانينيات، حيث تبدأ الحوارات بأنت متهم. ما هو قولك في ما هو منسوب اليك؟ ما هو ردك في ما أثير حولك؟

وقد حاورت العشرات من الشخصيات السياسية والفكرية، هكذا، وإذا كان الشائع هو أن الاثارة التي تبرز في العناوين للفت الانتباه والدعاية، هي في اجابات الشخصية، التي تم اجراء الحوار معها، فقد كان الاتجاه عندي هو أن تكون القيمة المضافة أيضاً في السؤال وصياغته، ومن هنا فقد كانت بعض الأسئلة يتم ابرازها في الإخراج عند النشر، كبعض الاجابات، وبشكل استولت عليه إحدى الصحف الجديدة، حد الابتذال، مثل: قلنا له… فقال، سألناه… فأجاب. اتهمناه.. فرد. وهكذا! ولا بأس فهي فرصة مواتية ليتكلم المرء عن فتوحاته في عالم الصحافة.

ثم أنه عند المقارنة، فإن برنامج «60 دقيقة» على قناة «سي بي إس» الأمريكية، لا يتفوق البتة على برنامج «شاهد على العصر» لأحمد منصور على قناة «الجزيرة»، إذا كانت القيمة المضافة مرتبطة، بتوجيه الاتهام، أو بشموخ المذيع، ويتفوق الأخير على البرنامج الأمريكي، بالدراسة الأعمق للشخصية المختارة، ربما لأن المساحة الزمنية لـ «شاهد على العصر» أكبر، وتمتد لحلقات طويلة، على العكس من «60 دقيقة»، الذي تكون المقابلة فيه مع الضيف سريعة وخاطفة، وهي في حالة عبد الفتاح السيسي لم تأت بجديد، لكنها انتصرت بالصيغة، وبالشجاعة في طرح الأسئلة، وهو ما جعله يتصبب عرقاً، وقد اختلطت الكريمات، التي يضعها على وجهه، بالعرق الذي اندفع إلى خارج مسام جلده، وهذا هو بيت القصيد!

يقول المتصوفة: «ربك لما يريد»

ولأن الله علم أن فينا ضعفاً، فلعله لهذا أراد أن يُسري عنا بهذه المقابلة التلفزيونية وتداعياتها، وكان يمكن أن تمر مرور الكرام، وقد لا ينتبه لها كثيرون إلا من حيث مقتطفات تنشرها بعض المواقع والصحف الناطقة بلغة الضاد، وقد يخفف النقل من حدة نقاط الضعف، لكن من أحاطوا بشخص عبد الفتاح السيسي وقت إجراء الحوار، وليس من بينهم صحافي واحد، أصيبوا بالهلع، ولافتقادهم الخبرة فقد اندفعوا في هيستريا يطلبون منع إذاعة الحوار، وتدخلت الدبلوماسية المصرية من خلال سفارة البلاد في واشنطن، لانجاز مهمة المنع، لستر العورات التي تبدت للناظرين وقت إذاعة الحوار، لكن كان هذا مناسبة عظيمة، للقائمين على البرنامج لفضح القوم، بما مثل دعاية للبرنامج ولمقدمه في المحيط العربي، ولكي بذلك دعاية لمحطة تلفزيونية تقوم في تمويلها على الإعلانات!

إذا تجاوزنا فكرة الانقلاب العسكري، وأن السيسي منقلب لا رئيس، فسوف يقف المتابع على خواء الدولة المصرية، وفراغ الرئاسة التي تدار بمنطق الوحدة العسكرية، فالقائد يأمر والجميع يطيع، بل إن الوحدات العسكرية تعرف التوزيع الوظيفي، فهناك ضباط غير القائد مكلفون بمهام، بيد أن عبقري زمانه في قصر الاتحادية، يتصرف على أساس أن كل من حوله هم «عساكر مراسلة»، وعندما وجد نفسه في أجواء تستدعي وجود من يفكر معه، نظر فوجد كل من حوله «عساكر»، يفتقدون للوعي الكامل بطبيعة البرنامج، فطلبوا الاطلاع على الأسئلة، فلما أخبروهم أن هذا ضد فكرة البرنامج، وافقوا على الحوار بدون قيد أو شرط، وبدون معرفة تفاصيله، ولم يدركوا أنه يحمل شهادات ثلاثة يمثلون الادعاء في هذه المحاكمة. وقد ظل الفريق المحيط بالسيسي خلال فترة الحوار يهم بطلب وقفه، ثم يتراجع، ليعود من جديد طالبا وقف التسجيل قبل أن يتراجع، وهو ما أعلنته منتجة البرنامج لتكون أمام فضيحة مركبة، إزاء هذا الارتجال، ليكتمل المشهد بطلب عدم إذاعة الحلقة، ليكون هذا الطلب بمثابة المادة الخام للدعاية، ولفت الانتباه، والتجريس أيضاً، وقد تضاءل أهل الحكم حتى لا يكادوا يُروا بالعين المجردة!

مبارك واللعب على أرضه

لم يكن «أبو علاء» حسني مبارك، يجيد المقابلات التي فيها أخذ ورد، وبطبيعة الحال لا يمكن مقارنته بـ «أبو الأناور» أنور السادات الذي كان يطربه أن يصول ويجول في حضرة الإعلام الأجنبي، ولمواجهة هذا القصور، فإن مبارك لم يكن يوافق إلا على اللعب على أرضه، لاسيما إذا كانت المقابلة ليست دعائية، مدفوعة الأجر، كنوع المقابلات المتفق عليها عند زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، وفي الصحف كانت ترسل الأسئلة، ليرد عليها، ودور المحاور هو أن تلتقط له صورة لتنشر مع الحوار، وقد فعلتها الرئاسة التونسية في عهد بن علي، مع جريدة «الأهرام»، فأرسلت «الأهرام» الأسئلة وأرسلت الرئاسة الاجابات، وسافر «إبراهيم نافع» لتونس من أجل أن تلتقط له صورة مع الرئيس، بعد ذلك ومن باب المنافسة نشر سمير رجب في «الجمهورية» حواراً مع بن علي، بدون أن يجد نفسه بحاجة لأن تلتقط له صورة مع الرئيس. حيث كانت المنافسة بينهما على أشدها!

كان مبارك يلعب على أرضه، بأن يستقبل المذيع في الرئاسة، وبعد انتهاء الحوار، يتم شكر طاقم العمل، فالشريط الخاص بالمقابلة يتم التحفظ عليه، على أن يرسل في وقت لاحق للبرنامج وبعد القيام بالمونتاج واللازم، يُرسل للقوم، فمقابلات الرؤساء لها طبيعة خاصة، ولا معنى للرد الذي تلقاه الفريق المحيط بعبد الفتاح السيسي بأن طبيعة البرنامج تحتم ذلك، فماذا لو كان الأمر يحتاج إلى معلومات، وأرقام؟ وإذا كان لا بد من المفاجأة فهي في الأسئلة التي تولد من رحم الإجابات، لكن لا بأس، فماذا لو قرأ السيسي الأسئلة كما لو كان سيمتحن فيها للحصول على شهادة اتمام المرحلة الاعدادية؟ فقطعاً أن هذا لم يكن سيغير من طبيعة الأمر شيئاً، ومعظم هذه الأسئلة قديمة، وطرحت عليه بصياغات مختلفة من قبل!

من مع أبو محمود؟

وبعيداً عن هذا فلا أظن أن السيسي يمكنه أن يستسلم بسهولة لخضوعه للتدريب، فالأنبياء لا يتدربون، وهو يتنزل عليه العلم اللدني، ألم تسمع إليه وهو يذكر قوله تعالى «فهمناها سليمان»، ثم يهز رأسه معجباً بذاته، في إشارة توحي أنه كسليمان عليه السلام، إن لم يكن هو، ولأنه كذلك ولأنه أيضاً طبيب الفلاسفة، فقد لا يقتنع بأنه يمكن أن يكون متدرباً، إلا إذا تم وغزه بحقنة بنج قبل كل محاضرة، وبدونها قد يصر على أن يدرب هو «فاطمة التريكي» على الإلقاء!

ما علينا، فـ «أبو علاء» حسني مبارك، كان معه صفوت الشريف وزيراً للإعلام، وعندما تآمر عليه الإبن جمال مبارك، والوالد يعالج في ألمانيا وعزله من منصبه هذا، كان لديه البديل الجاهز إلى حد ما وهو أنس الفقي، الذي كان يستعين بالخبراء، حتى شرب المهنة سريعاً، فمن مع أبو محمود عبد الفتاح السيسي؟!

في المقابلة لم يُذكر سوى اسم عباس كامل، سكرتيره السابق، ومدير مخابراته الحالي، وكليمه في التسريبات، فهذا النظام ليس فيه سوى عبد الفتاح السيسي وعباس كامل، وليس لدى أي منهما خبرة بالإعلام، لذا كانت الموافقة على الظهور البائس، وقد استغل فريق البرنامج شغفه بأن يكون مثل القادة ليملي عليه ارادته، فلأن هذا البرنامج ظهر فيه عدد منهم فلماذا لا يظهر هو فيه؟! فالرجل يعاني من مشكلة أنه لا يصدق إلى الآن أنه رئيس، فيشتري شرعيته غربيا ولو بالتفريط في التراب الوطني وفي مياه النيل، ويندفع للمشاركة في برنامج تلفزيوني لمجرد أن قادة كانوا ضيوفه في حلقات سابقة، ثم يتصبب عرقاً بمجرد مشاهدة المذيع، وكأنه تم أخذه «تحري» من الشارع، لعدم حمله إثبات شخصية، وقد عُرض على رئيس مباحث قسم بولاق الدكرور، ويخشى أن ينتهي القرار إلى احالته للنيابة محبوساً!

لقد أجلسوه على كرسي صغير الحجم، ليبدو ضئيلاً أكثر مما ينبغي، فقد وجدها المذيع فرصة ليبدو هو عملاقاً، ويحقق انجازا وسمعة لبرنامجه على قفاه، وإذا كانت طبيعة البرنامج تلزم بعدم اطلاع الضيف على الأسئلة، فهل تفرض الجلوس على كرسي بهذا الحجم، وكأنه كرسي الاعتراف؟ لماذا قبل السيسي ومن معه هذا الهوان؟ وهو الذي تأله في مواجهة لميس الحديدي وإبراهيم عيسى، وأصاب الأخير بالرعب وهو يقول له لن أسمح لك بأن تقول حكم العسكر مرة أخرى، فكاد عيسى أن يتلاشى على صخامة جسمه؟!

والإحساس بالدونية، هو الذي جعل إعلام السيسي ينشر على أوسع نطاق في يوم التسجيل أن زعيمهم المفدي، ولأنه رئيس، ولأن العالم يعترف به رئيساً، فقد سجل معه برنامج «60 دقيقة» الأمريكي ذائع الصيت، وغنوا مع سعد الصغير «النهارده فرحي يا جدعان»، ولم تكن الفضيحة قد وصلتهم، والتي اندفع القوم لسترها بطرف ثيابهم من خلال طلبهم بمنع إذاعة الحلقة، ليعلم القاصي والداني بفضيحتهم!

إنه الحكم المفضوح، وقد علم الله أن فينا ضعفا، فأرنا فيه يوما أسود.

وسوم: العدد 807