تيريزا ماي: هل ينجح تكتيك "حافة الهاوية" مع "البريكست"؟
مازال مصير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مجهولاً. فمع رفض البرلمان البريطاني لخطة "ماي" قد تلجأ الأخيرة إلى سياسة حافة الهاوية لممارسة المزيد من الضغط على الخصوم، بينما يبقى احتمال التوجه إلى استفتاء جديد قائما.
تتمسّك بريطانيا برغبة الانفصال عن أوروبا لكنها لم تقرر بعد كيف ستنفصل، قبل أسابيع قليلة من المهلة المحددة لذلك. ووسط التجاذبات المستعرة تواصل تيريزا ماي مسيرتها على حافة الهاوية، مع تضاؤل مجال الرؤية أمام الجميع بما يهدِّد بانزلاق الموقف فجأة، أو لعلّه التكتيك الملائم تماماً للتعامل مع هذا الكم من التناقضات الجسيمة في هذا الملف، في لحظة تاريخية عصيبة بالنسبة لبريطانيا وأوروبا الموحدة.
تطوّرات متلاحقة
تتلاحق التطوّرات في لندن سريعاً في الوقت الضائع الذي يسبق نفاد مهلة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، المقررة في 29 مارس/ آذار. تلقّت رئيسة الوزراء البريطانية ضربة قوية من مجلس العموم الذي لم توافق أغلبيته على اتفاقها مع أوروبا الخاص بإنجاز "البريكست"، والذي تم التوصل إليه مع الأوروبيين بشق الأنفس أساساً. ثم جاء مقترح حجب الثقة عن حكومتها بمثابة طوق نجاة لها في اليوم التالي مباشرة. نجت ماي بفارق لا يتجاوز 19 صوتاً في الاقتراع البرلماني الذي دفع به حزب العمال دون أن يربحه، فكسبت ماي ثقة جديدة تتيح لها الاستمرار بطاقةٍ أكبر. إنه أسلوب ماي الخاص في الإرجاء إلى اللحظات الأخيرة ودفع المداولات إلى حافة الهاوية على أمل أن يتدارك المعترضون الموقف تحاشياً للأسوأ. أدرك المحافظون أنهم إن تواطؤوا مع حجب الثقة سيبدِّدون مزيداً من الوقت الثمين وقد يفقدون نصف مقاعدهم في انتخابات مبكرة مثلاً، وهذا رادع كافٍ لضبط خلافاتهم علاوة على مسؤوليتهم الضمنية عن الورطة الكبرى في مفاوضات الخروج الشائك.
الصعوبات التي يواجهها مسار "البريكست" ليست مأزقاً لتيريزا ماي وحدها، فما يجري تحت قيادتها هو معضلة تاريخية لحزب المحافظين الذي عجز عن إدارة الملف وأظهر انقسامات جسيمة في منعطف حرِج تتلاشى فيه الرؤية المستقبلية بشأن خيارات مصيرية مثل الانفصال الكبير.
راهن بعض المحافظين بقوة على التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016 دون أن يُصارحوا الناخبين بأنّ انفصالاً كهذا لن يكون نزهة بأية حال. غابت الحكمة السياسية وقتَها وسمح المحافظون باستشراء الشعبوية في المشهد السياسي، فلغة المزايدات تجاوزت أقصى اليمين في "حزب استقلال المملكة المتحدة" أو "يوكيب" اختصاراً. انخرط في جوقة التسخين قادة بارزون من المحافظين كان بوريس جونسون على رأسهم، وهو بمثابة النسخة البريطانية من دونالد ترمب.
قامت الحملة على إثارة عاطفية جمحت بمشاعر الأجيال الوسطى وما فوقها مع نزعة حنين إلى ماضٍ لن يعود. قيل في التعبئة التي سبقت الاستفتاء إنّ غايته استرجاع "استقلال بريطانيا" التي ستعود مع البريكست "عظمى مجدداً".
بدا الإقدام على الاستفتاء الشعبي وقتها تعبيراً عن استقالة النخبة السياسية التقليدية التي طلبت من جمهور حائر، وتم تسخينه، أن يحسم قضية غير مفهومة تقريباً. قرّر فارق ضئيل للغاية من المصوِّتين وجهة البلاد بما أهال التراب على أربعة عقود ونصف العقد من العضوية في أوروبا الموحدة.
فرضت النتيجة على رئيسة الوزراء - التي تقلّدت المنصب بعد الاستفتاء - أن تخوض مفاوضات شاقّة على جبهات متعددة، داخلياً وخارجياً. تضعضعت حكومتها التي شهدت استقالات وخلافات حادّة، وانقسم المحافظون على أنفسهم، وقرّر قطاع عريض من الكتلة البرلمانية المؤيدة للحكومة أن يصوِّت يوم الثلاثاء ١٥ يناير/كانون الثاني ضد مشروع ماي الذي توافقت بشأنه مع الاتحاد الأوروبي لإنجاز الانفصال.
وبينما عجزت رئيسة الوزراء عن إقناع حزبها وكتلتها البرلمانية بالمصادقة على اتفاق إنفاذ "البريكست" الذي تمّ التوصل إليه بمشقّة بالغة مع أوروبا؛ بدا كسب المعارضة بعيد المنال. وكان على تيريزا ماي ،فوق هذا كلِّه، مراعاة ملاحظات استعلائية ظل دونالد ترمب يدفع بها من البيت الأبيض بضغطه المتواصل على لندن؛ كي تقطع أواصرها الخاصة مع الاتحاد الأوروبي في اتفاق الخروج إن أرادت امتيازات عابرة للأطلسي.
لم تتنازل ماي عن عنادها في المحطات المتعاقبة ولجأت إلى تكتيك حافة الهاوية محطّة تلو أخرى، تحت شعار إن لم تقبلوا ما أعرضه سيأتي الأسوأ، ومن ذلك الاضطرار إلى الخروج بدون اتفاق. ولعلّ النجاح الوحيد لهذا التكتيك حتى الآن هو استمرارها في المنصب وسط العواصف.
هل سيربح العمال من مأزق المحافظين؟
لا يعني مأزق المحافظين في إدارة ملف الانفصال أنّ معارضيهم يملكون خيارات واضحة. مفهوم أن يتحيّن العمّال بقيادة جيريمي كوربن الفرصة لإلحاق هزيمة سياسية بالمحافظين العالقين في ورطتهم، لكنّ نجاة حكومة ماي من حجب الثقة عنها أظهر أنّ فرصة العمال لم تَحِن بعد.
ومن المرجّح أن تتمسّك قيادة كوربن بنهج المعارضة الصارمة، بما يعني تجنّبه لقاء تيريزا ماي للتباحث بشأن خيارات "البريكست" في هذه اللحظة العصيبة. يتمسّك العمّال بما يراها بعض المحافظين شروطاً تعجيزية في وجه المشروع، كما اشترط كوربن أن تتعهّد ماي باستبعاد خيار "الانفصال دون اتفاق" قبل أي لقاء معها. إنه اشتراط محسوب يهدف لحرمان تيريزا ماي من استعمال ورقة الخروج دون اتفاق أو "نو ديل بريكسيت" للضغط بها على الأطراف لقبول مشروعها "الخطة البديلة" الذي تعرضه بتكتيك حافة الهاوية الذي يلوِّح هنا ببديل أوحَد عن اتفاقها مع أوروبا.
لكنّ كوربن يواجه، هو الآخر، متاعب تقليدية مع الحرس القديم في حزبه وإن كان قد نجح في الدفع بنخبة شبابية صاعدة في صفوفه، وانقسامات العمال الداخلية بدت أوضح بعد نجاة ماي من حجب الثقة.
ورطة أوروبا مع التشرذم البريطاني
تتورط أوروبا مع قيادة ضعيفة في لندن وساحة سياسية بريطانية متشرذمة. يغيب الشريك القوي الذي بوسعه أن يفرض مشروعاً للانفصال ويمضي به. بلغت الملهاة مبلغها بموافقة الاتحاد الأوروبي وبرلمانه على مشروع الانفصال الذي تم التوافق بشأنه مع رئيسة الوزراء البريطانية، لكنّ ثلثي مجلس العموم صوّت ضدّه قبل ثمانية أسابيع من نهاية المهلة المحددة للخروج.
خلافاً للانطباع الأول؛ فإنّ المشهد السياسي المُزري في لندن كفيل بتعزيز موقف بريطانيا التفاوضي. فإما أن ترضخ أوروبا بإدخال بعض التعديلات على مشروع اتفاق "البريكست" وفق الخطة البديلة، أو أن يعيش الجميع أسوأ الاحتمالات؛ أي الانفصال دون اتفاق، بكل ما سيجرّه ذلك من تبعات وأثمان. صحيح أنّ لندن ستكون المتضرِّر الأكبر من صيغة "انفصال دون اتفاق"؛ إلاّ أنّ أوروبا تعي فداحة هذه الخطوة عليها أيضاً.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي فإنّ الصيغة التي تم إبرامها مع ماي كانت إلى اللحظة التي سبقت رفضها من مجلس العموم (15 يناير/ كانون الثاني) هي الصيغة المقبولة في حدها الأقصى ولا يمكن إرخاء الحبل للندن أكثر من ذلك. لكنّ تصلّب المواقف داخل بريطانيا ذاتها كما اتّضح في التصويت البرلماني يفرض على الاتحاد إبداء مرونة اضطرارية إن أراد إنفاذ اتفاق فعلي يتفادى به الأسوأ.
قد تنجح المساعي الأولية بإرجاء مهلة الخروج شهوراً قليلة لدواعٍ "تقنية" إن رغبت ماي في ذلك حقاً وتجاوب معها الأوروبيون، لكنّ أي ترضية إضافية قد تُسديها بروكسيل للندن لن ترقى إلى مطالب المعارضة البريطانية بالتأكيد. لا يسع الاتحاد الأوروبي أن يمنح البريطانيين امتيازات الأسرة الأوروبية التي قرّروا الانفصال عنها. وأي شراكة بريطانية مع الاتحاد بامتيازات خاصة قد تغدو الصيغة المغرية لمحاكاتها في عواصم أوروبية أخرى بتأثير الدومينو. لهذا سيحافظ الاتحاد على تحجيم مزايا الخروج بالنسبة لبريطانيا دون أن يُسبب ذلك خسائر وخيمة على الجميع. والتطوّر الإيجابي بالنسبة لبيروقراطية الوحدة في بروكسيل أنّ مأزق بريطانيا مع استفتائها غير المدروس بالانفصال عن أوروبا صار رادعاً لأية محاولة مماثلة لانعتاق أية دولة أخرى من الاتحاد.
تكتيك حافة الهاوية
لن تتردّد ماي في استعمال تكتيك حافة الهاوية في مداولاتها الداخلية ومع الأوروبيين أيضاً على أمل تحسين شروط الانفصال الشاق؛ فقد صار الجميع في الوقت الضائع الآن ويبدو المشروع مغامرة جسيمة بالفعل.
ويبقى خيار لا ترغب الأطراف بالبوح به علناً حتى الآن، وهو الذهاب إلى استفتاء شعبي جديد في بريطانيا قد تكون نتيجته التصويت لصالح البقاء في الاتحاد. سيتعزّز هذا الاحتمال إن لم تتحقّق أغلبية برلمانية لاتفاق "البريكست" في بريطانيا بأية صيغة جاء. فلن تحتمل النخبة الحاكمة أن يُسجّل عليها التسبّب في مغامرة جسيمة مثل الانفصال بلا اتفاق، بما يفرض البحث عن خيارات خارج صندوق "البريكست" مثل محاولة التنصّل منه بإعادة الاستفتاء.
سيُراهن الذهاب إلى اقتراع شعبي جديد بشأن الانفصال على استصدار نتيجة لصالح البقاء في الاتحاد بعد استيعاب الدروس المؤلمة التي لازمت ملف "البريكست" حتى الآن. وستفعل جهات الاختصاص الاقتصادي والمالي والاستثماري فعلها في عقلنة السلوك التصويتي هذه المرّة، خاصة مع التقارير التي تتوقع خسائر هائلة قد تُمنى بها بعض القطاعات المالية والاقتصادية في بريطانيا بموجب الانفصال.
وحتى هذا الخيار لن يكون نزهة؛ فالتحضيرات لاستفتاء شعبي جديد قد تستغرق زمناً أطول من المتوقع، وها هم الشعبويون يتأهّبون مجدداً لهذا الاحتمال بمحاولة حشد قواهم تحسّباً لاقتراع جديد قد يُطيح بآمالهم.
بعد أن فازت بالثقة ستشغل تيريزا ماي الأطراف جميعاً بخطتها البديلة "الخطة ب" دون أن تفارق حافة الهاوية على الأرجح، وقد بات واضحاً أنها لن تكون وحدها المتضررة من أي انزلاق غير محسوب.
وسوم: العدد 808