استراتيجية قصيرة أم تكتيك بعيد المدى
اعتمدت الولايات المتحدة منذ دخولها الشرق الأوسط وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية كقوة احتلال غير مباشر وتحت شعارات نصرة الشعوب في التحرر من ربقة السيطرة الاستعمارية القديمة، اعتمدت استراتيجية مركبة، تتلخص في أمرين…
الأول – دعم دور الدول الصغيرة في المنطقة ومحاولة إضعاف الدول الكبيرة، ومنح الكيانات الصغيرة، أدوارا سياسية وعسكرية واقتصادية تفوق حجمها ومساحتها وعدد سكانها، والهدف من ذلك معروف وهو التحكم بمصير المنطقة ورسم سياساتها وتهميش أدوار دول المنطقة الكبيرة والمؤثرة فيها سياسيا وجغرافيا واقتصاديا وعسكريا ذلك أن التحكم بمسار الدول الصغيرة أيسر بكثير من التعامل مع دول كبيرة تحمل وراءها عمقا وموروثا تاريخيين وإمكانات بشرية واقتصادية متنوعة لا تعرف النضوب.
وتهدف الدول الكبرى من هذا التوجه إلى إظهار الدول الكبيرة عاجزة أمام شعوبها والعالم في نفس الوقت الذي تفرض عليها سياسات اقتصادية ومالية تعرض صورتها للاهتزاز أمام الرأي العام المحلي والدولي، وتظهرها عاجزة عن القيام بما من شأنه الخروج من أزمات تختلقها لها دول صغيرة جدا من حيث المساحة وعدد السكان.
ومع الفوارق الجوهرية والكبيرة بين هذه الدول يمكن إدراج كل من “إسرائيل والكويت وقطر والإمارات العربية وربما تضاف لها سلطنة عمان) في قائمة الدول التي أوكلت لها مهمة بذر بذور الفتنة وزرع الأزمات في الوطن العربي والمنطقة، لكن هذا الاصطفاف الذي أدرجناه يحمل تعسفا في قياس حجم الثقة الأمريكية خصوصا والغربية عموما في إسرائيل ومنحها وظيفة إقليمية تفوق قدرات دول عربية كبيرة مجتمعة، ذلك الدعم الذي تركز غربيا في تقديم آخر حلقات التكنولوجيا العسكرية وتحمل أعباء الأزمات الاقتصادية الإسرائيلية، في الوقت الذي تحولت اللوبيات اليهودية في العالم إلى مراكز دعم مالي وسياسي لمواجهة أعدائها والعالم على حد سواء، وبين الأدوار المحدودة التي أوكلت إلى كيانات عربية صغيرة دورها دفع الأموال للغرب بدلا من تلقيها، والتي تلخصت بمناكفة الدول الأم التي انسلخت عنها في ظروف السيطرة الغربية على أقاليم ما وراء البحار، أو المجاورة لها كما هو الحال بالنسبة للكويت مع العراق أو قطر مع السعودية وليبيا والعراق ومصر أو الإمارات مع سوريا واليمن ولا تتوقف القائمة عند هذ الحد، وذكر هذا الدول تم لأنها تمتلك فوائض مالية كبيرة بحيث أفقدتها البوصلة الناجحة لتوظيفها في مشاريع تنموية تخدم المجتمع والمنطقة الإقليمية، ومما يلاحظه المراقب السياسي أن تلك الاصطفافات تؤدي إلى نشوء تحالفات فيها من سوء التخطيط بقدر ما فيها من سوء الغرض والنية، كما حصل بعد نشوء أزمة دول مجلس التعاون الخليجي عندما راحت قطر بعيدا في تنسيقها مع إيران في الوقت الذي كانت علاقاتها تتراجع مع دول مجلس التعاون الأخرى.
وتتم عملية استدراج هذه الكيانات (المجهرية) لتقمص دور الكبار عن طريقين:
1 – تضخيم مشاعرها القُطْرية عن عظمة زائفة هدفها استدراج الدويلات الصغيرة لتلعب أدوارا تتناسب مع ثرواتها النفطية أو الغازية الهائلة والتي تفوق قدرة نظم الحكم فيها على تخيّل الكيفية المناسبة لتسخير هذه الثروات في بناء الداخل وإقامة ركائز لعلاقات ثنائية وإقليمية بناءة وعلى أساس التكافؤ، وبدلا من ذلك ومن أجل اثبات الحضور المستمر والمؤثر في الساحة الإقليمية، يتم التركيز على مشاريع عمرانية وإقامة أبراج شاهقة وتقليد الغرب في إقامة ناطحات السحاب، بل وبناء أعلى برج في العالم كما حصل في دبي على سبيل المثال، بدلا من إقامة مشاريع تنمية حقيقية في مجالات الصناعة والزراعة وتوطين التكنولوجيا، ولا تقف المسيرة عند هذا الحد بل تضاف إليها واجهات إعلامية ومراكز دراسات تعطيها احساسا بالانتفاخ وبضخامة دورها السياسي، وهكذا تُدخل نفسها أو يتم إدخالها لغفلة حكامها وجهلهم في لعبة سياسية أكبر من حجم دولهم وذلك عن طريق بعثرة أموال البلدان تلك على واجهات وحركات إرهابية لاهم لها إلا إثارة القلاقل وعرقلة خطوات الحلول الناجحة لتفكيك الأزمات وبذلك فإن هذه الكيانات الصغيرة تتقمص دور إيران في حضورها السياسي المشاغب ولعل تجربة الأزمة في ليبيا تلخص دور هذا الطرف أو ذاك في عرقلة أي حل يؤدي إلى حقن الدماء ووضع البلاد على الطريق الصحيح.
وهذه الممارسات تؤدي بالنتيجة إلى أن تدفع شعوبها هي وشعوب المنطقة أثمانا باهظة لإرضاء طموح مريض يعشعش في عقول زعماء محدودي الخبرة وعديمي التجربة في عالم يموج بالتيارات السياسية المسلحة بتراكم هائل من التجارب والخبرات الميدانية والأكاديمية لكل مشكلة يراد استحداثها ومن ثم إعادة تفكيكها وتركيبها على نحو مغاير لما كان الحال عليه قبيل بروز اختلاق المشكلات المرغوب بتوظيفها لخدمة مشروع أو مشاريع ما، وهنا سنلاحظ أن تحريفا حقيقيا للتاريخ سيقع إرضاء لنزوات مريضة، فتتم إضافة صفحات واختلاق أحداث وإيجاد شواهد وإقامة متاحف للآثار القديمة، كل هدفها إثبات درجة القطيعة مع الوسط القومي والإسلامي والإقليمي، وإلا ما معنى هذا التسابق على البحث عن التميّز وإعطاء شعور بالتفوق؟ هل يحصل كل هذا من أجل الشعب حقا؟ أو هو من أجل إشباع رغبة مريضة تلبست في نفوس حكام لبسوا أحذية أكبر من أقدامهم وراحوا يمشون فيها في حقول ألغام عشوائية أو مستنقعات الرذيلة السياسية؟
الثاني – دعم دور الأقليات والتركيز على مكانتها السياسية وثقلها في تحديد مستقبل بلدانها بل وفرض وجهات نظرها على الأكثرية مما ينسف أحد أهم مبادئ الديمقراطية التي تعتمدها الدول الديمقراطية الغربية نفسها في حكم الأغلبية، مما يجعلها ازاء مغالطة لن تجد بمقدورها الخروج منها بسهولة.
ويتم استدراج الأقليات عبر رسائل تخديرية وخطاب سياسي معلن تداعب عندها المخبوء من خزين الكرامة والشعور بالبطولة والغبن مثل:
1 – الظلم والتهميش اللذين تتعرض لهما في المجتمعات التي تتواجد فيها وخاصة الوطن العربي الذي تعيش فيه مكونات وأقليات قومية مختلفة.
2 – التركيز على بطولة أفراد هذه الأقليات وما يتحلون به من شجاعة فائقة وقتال شرس في مواجهة أعدائهم وهذا ما تم التركيز عليه من قبل الولايات المتحدة عند حديثها عن القدرة القتالية النادرة التي يتحلى بها أكراد سوريا بشكل خاص كما حصل خلال معركة عين العرب في شمالي سوريا والتي تم خلالها إخراج داعش منها، وكأن الولايات المتحدة أرادت إيصال رسالة أن هذه الشراسة القتالية هي التي أدت إلى تفضيل الحركة الكردية المرتبطة بحزب العمال الكردي التركي على فصائل الثورة السورية المسلحة مجتمعة، مع كل ما يعنيه ذلك من تفريط إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما بالحليف التركي واستبداله بالحركة الكردية، على الرغم من أن الأكراد في هذا الاختيار تسرعوا كثيرا في مراهنتهم على صدق الوعود الخارجية، كما حصل قبلا لأكراد العراق في الاعتماد على وعود الولايات المتحدة والدعم الإيراني، ولكن أحلامهم راحت أدراج رياح المصالح الدولية الكبرى والتي عند لحظة المفاضلة فإنها تلقي بمواقفها الإنسانية المعلنة عرض الجدار.
كل ذلك كان يحصل بتخطيط ذكي وبعيد المدى من جانب دول كبرى بهدف زج الأقليات القومية في معارك استنزاف لقدرات البلدان التي تنتمي إليها، ولكن عند ساعة الحسم يتم التضحية بهذه الأقليات وتركها منفردة في مواجهة مصير مجهول في معارك من دون نهاية ليست لها بها مصلحة لا من قريب ولا من بعيد.
وتعسف الإعلام الموجه إلى الأقليات التي يراد توظيفها لخدمة أهداف لا صلة لها بطموحاتها القومية أصلا أو أنها تخضع لخطط نفسية غاية في التعقيد لجرها للتصادم مع مجتمعها وكأن خلاصها لا يتم إلا في تمردها على البلدان التي هي جزء من نسيجها الاجتماعي، وذهبت أوساط معروفة إلى ترويج فكرة أن العرب أمة تجارة وشعر ليس إلا، ولا تجيد فن القتال ولا تصلح لخوض الحروب، مع أن الدولة العربية الإسلامية انتشرت في زمن قياسي لم تحققه أية دولة سبقها أو جاءت من بعدها على مر التاريخ، ومن الصين شرقا إلى الأندلس غربا في أقل من قرن من الزمن كما هو معروف وكما ذكره مستشرقون غربيون كثيرون ومن بينهم المستشرقة الألمانية زيجريد هونكه وما قالته في كتابها “شمس العرب على الغرب”، فمن هو الذي حقق تلك الانتصارات؟ وهل تحققت من تلقاء نفسها؟ وأين تلك الأسماء اللامعة من قادة الفتح مثل خالد بن الوليد وعقبة بن نافع وقتيبة بن مسلم وموسى بن نصير وغيرهم كثير، أليس هؤلاء من العرب؟ أم أن من يركز على أن العرب أمة شعر يريد أن يذمها في موطن يبدو وكأنه يمتدحها؟ وهل عرف تاريخ الأمم والشعوب أمة أكثر رحمة وتسامحا مع الأمم الأخرى من العرب بعد أن هذب الإسلام سلوكهم وصهر ما لديهم من شهامة وفروسية بقيم السماء السمحاء؟ فكانت الفتوحات العربية الإسلامية قرينا للعدل والتسامح ونقل العلوم والمعارف والثقافة والشعر، هل هناك أمة كالأمة العربية في ذلك التاريخ المشرق؟
وعلى الرغم من أن الحديث عن شدة بأس الأقليات كان يرتبط بالتضاريس الصعبة لمناطق تواجد الأقليات القومية التي يراد وضعها وجها لوجه مع بلدانها الأم فإن هذا الحديث لم يتوقف ولم تختف أهدافه عن ذوي البصيرة الثاقبة، ومع ذلك فإن ما تفخر به الأقليات في الوطن العربي هو جزء من تاريخنا الذي نشاطرها الاعتزاز به.
ولعل أسوأ التطبيقات التي تمت تجربة فرصها بالنجاح، كانت الساحة العراقية منذ عدة عقود من الزمن وأخذت بعدا دوليا استثنائيا بُعيد عدوان 1991 الثلاثيني على العراق بحجة إخراج قواته من الكويت، وما أعقبه من حصار ظالم ثم احتلال تم تحويل العراق فيه إلى بيئة مكونات بدلا من مجتمع منسجم، وكانت القضية الكردية من أكثر القضايا توظيفا من قبل أعداء العراق على الرغم من أن الأقليات القومية الأخرى انساقت إلى المطالبة بحقوقها أيضا عندما رأت أن الخطاب الأمريكي يسير في دعم هذا التوجه.
لكن المراقب يعي جيدا أن أكراد العراق تحققت لهم مكاسب منذ عام 1970 وضعتهم على قدم المساواة مع عرب العراق من دون تمييز، بل يذهب بعض خبراء القانون الدستوري إلى القول إن أمام المواطن الكردي فرصتان في حين أن أمام المواطن العربي العراقي فرصة واحدة فقط، ولو تابعنا ما يحصل للأكراد في الدول المجاورة بمن فيهم أولئك الذين تعيش لديهم أقليات كردية أكبر مما هو موجود في العراق، وتبرز هنا إيران كأسوأ نموذج لهذه الثنائية والانتقائية، لخرجنا بنتيجتين، أولاهما أن الظلم في إيران والذي يتعرض له الأكراد هناك هو ظلم مركب أي قومي مذهبي لم يمكّن كردي من تبوء مركز سياسي ذي قيمة، وثانيتهما أن تحريك الأقليات القومية في العراق من أطراف دولية أو إقليمية لم يكن في أي يوم من الأيام عن إيمان بحقوقها القومية أو لعامل إنساني، وإنما لإشغال العراق بفتن داخلية وصراعات دموية وإبقائه ضعيفا وتركه في دوامة الأزمات الداخلية والخارجية، فهذا مطلب إقليمي متعدد وليس لطرف واحد، كما أنه ليس محصورا في إسرائيل وحدها، بل يمكن تلمس مواقف عربية أكثر حماسة حتى من موقف إسرائيل نفسها كما أظهرت الحروب التي أدخل فيها العراق اضطرارا دفاعا عن وحدة أراضيه وسيادته وأمنه القومي.
فهل تبقى الأمة في هذا السبات الطويل؟ أم أنها قادرة على تجاوز كل هذه المحن والصعوبات؟
لكن السؤال الأهم هو كيف تنهض الأمة من كبوتها؟
الموضوع باختصار شديد لا يتم إلا في اعتماد مشروع وطني قومي يستمد من الإسلام روحا صافية بعيدة عن التوظيف السياسي الذي تأكد إخفاقه في تجارب الإسلام السياسي خلال الربع قرن الأخير على الأقل.
وباختصار شديد، إن معركة نهوض الأمة تتجسد في معركة العراق الراهنة ومواجهة الاحتلالين الأمريكي والإيراني وهي معركة المصير العربي كله وليس العراق وحده.
وسوم: العدد 808