الإصلاح بالمعروف خير وأبقى
عندما بدأ التدفق الحضاري عند العرب على يد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- كان الحكم الاستبدادي الفردي الوراثي متحكماً ومتمكناً في المحيط الإقليمي، لدى ممالك الفرس، وامبراطوريات الروم، وكان الحكم القبلي سائداً في جزيرة العرب.
في ومضة الإشراق التنويري التي بدأت بإصلاح الحياة، وإسعاد الناس، وبناء النظام السياسي القائم على مبدأ الشورى الملزمة، وحق الأمة بالإختيار الحر، ورفض الإكراه، وتشييد النهضة واطلاق الحريات، ثم كانت الردة السياسية التي رفضها عدول الأمة وقاومها ثقات العلماء، وثار عليها المصلحون، ولكن جنون السلطة كان جارفاً، فاخذ في طريقه إلى الاستحواذ بالحكم كل معارض لهم، حتى لو كان صحابياً أو سبطاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وعندما تعثر المشروع، توقف الفكر عن البحث في القضايا العظمى، وتجمّد الإجتهاد في إستكمال البناء الحضاري، وإستطال الاستبداد السياسي، الذي أعاد سيرة الملك الوراثي العضوض، وأشغل الطبقات النخبوية، من الفقهاء والعلماء بالاختلافات الفرعية، والمسائل الجزئية، ونشأت فرقٌ ومذاهبٌ استفاضت في جدل التخصص، والفروع، واشتبكت في النتائج والأحكام، وتنازعت في احتكار الحقيقة، ونفيها عن المخالفين، وانتشر مصطلح الفرقة الناجية الوحيدة، والحكم بضلال البقية، وتزاحم الاخسرون اعمالاً الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بخوض معاركهم الهوائية بشراسة وإنفعال، وإطلاق النار في جميع الإتجاهات الخاطئة، فلم يسلم منهم إلاّ الأعداء، فاصابت قواعد البنيان، وأساسات الكيان، والنتيجة المريرة أن تصدر الحكم رجال لا تحركهم إلا غرائز طفولية من جنون العظمة والاستئثار بالسلطة، ثم تعصبٌ أعمى، وتنازعٌ مذهبي، وخلافٌ فقهي، واستقطاب سياسي، وصراع فكري
واصطفاف جهوي، وإشتباك طائفي، ونيران صديقة، وحروب أهلية
تفتك بالأمة وتقتل بالجملة أضعافا مضاعفة لضحايا الأعداء والعدوان.
في مراحل التخلف، يزدهر الإكراه، ويسود الظلم، وتستباح الدماء من أجل الوصول إلى السلطة او المحافظة عليها، ويدلهم الشيطان على غواية الأكل من (شجرة الخلد وملك لا يبلى)، في هذا الفضاء المشحون بالفساد المرافق
لمطلق السلطة، ينقطع الإهتمام بالإدارة العامة وتداول الحكم وتوزيع الثروة والمال، ( كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ).
ومن أجل المزيد من الاستنزاف الداخلي، تأتي نظرية إشاعة الفوضى الفكرية، التي تمهد لنشر الفوضى الإجتماعية والسياسية.
وهكذا فقد مضت سنة الله فينا كما مضت في كل مجتمع مختل،
فتدحرجنا من مكان الصدارة إلى ذيل القافلة الإنسانية، وأسأنا إلى ديننا بقدر ما أسأنا إلى أنفسنا، فإذا جاءت ساعات الصحو، والمحاسبة وتأنيب الضمير، وبدأنا نغضب لما أصابنا ونأسف لما ضاع منا، ونسأل عن المخرج وكيف العمل؟.
أصر البعض أن يواصل السير في ذات الطريق الذى انتهى به إلى الذل، وآخرون يرفضون بكبر غريب أن يعرفوا لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا، والبعض يعجز عن فهم الفطرة الإنسانية، ويحاول أن يصنع العجلة من جديد.
أيها السادة :
قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها اذىً.
تعالوا إلى كلمة سواء، وطاولة الإصلاح الحقيقي، التي تعرفون مفرداتها.
لا تنشغلوا بكيفية إجهاض الحراك الإصلاحي، ولا تكرروا منهج الاحتواء الفاشل والعصا والجزرة، لأن محركات الاعتراض الشعبي موضوعية ووجدانية، باقية ومستمرة ما دامت المقاربات السياسية تابعة للنفوذ الأمني.
الحراك الإصلاحي أجندة وطنية خالصة، والمراهنة على قوى التعطيل والشد العكسي مغامرة فاشلة ومقامرة خاسرة.
وما يُدرك اليوم لا يُحاط به غدا.
ورحم الله من فهم وادرك قبل فوات الأوآن.
وسوم: العدد 810