أسئلة بعد اللقاء الفلسطيني في موسكو
ظهر على سطح ما انتهى إليه اللقاء الفلسطيني-الفلسطيني في موسكو أنه فشل حتى في إصدار بيان مشترك يكون أساساً لوحدة الفصائل الفلسطينية.
اتُّهمت بعض الفصائل برفض التوقيع على الإقرار بأن منظمة التحرير الفلسطينية م.ت.ف. الممثل الشرعي والوحيد. ولكن لم يتضح بالضبط هل جاء الرفض من حيث المبدأ، أي من حيث وجود المنظمة كإطار جامع، أم جاء الرفض على أساس عدم شرعية مجلسها الوطني القائم وعدم شرعية ما انبثق من مجلس مركزي ولجنة تنفيذية، أي ربط التوقيع بإصلاح المنظمة وسياساتها.
والسؤال لوفد فتح إلى موسكو: ماذا عن موضوع الميثاق الذي تأسست عليه م.ت.ف. وذلك بمعنى: هل تضمّن البيان التعامل مع ميثاق 1968 بوصفه ما زال قائماً، ولم يحدث أي تعديل عليه في مؤتمر غزة 1998، أو المجلس الوطني الذي دعي لتعديله؟
والسؤال الآخر المطلوبة إجابته من قِبل وفد فتح: هل يعني التعامل مع م.ت.ف.، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد، إعطاء الشرعية والتأييد تلقائياً لسياساتها وممارساتها؟، ولنقل منذ توقيع اتفاق أوسلو إلى اليوم، هل هما شيء واحد أم يجب الفصل بينهما؟، أو بكلمات أخرى هل وصف م.ت.ف. بالممثل الشرعي والوحيد يترتب عليه أن اتفاق أوسلو شرعي ووحيد (زمانه).
وبالمناسبة، الفصائل التي تحفظت على التوقيع على البيان المذكور وهي حماس والجهاد أبدت الاستعداد أن تنضم إلى منظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها. علماً أن قرار "الممثل الشرعي والوحيد" ليس من بنود العضوية في ميثاقي م.ت.ف. 1964و1968، فهو قرار قمة عربية بتحريض من السادات، أراد منه التحرر من الالتزام بتحرير القدس والضفة الغربية وقطاع غزة من جهة، وإلقاء عبء القضية الفلسطينية كله على عاتق م.ت.ف. من جهة أخرى.
كاتب هذه السطور، وعلى ضوء التجربة الطويلة الممتدة من قرار القمة العربية في الرباط لعام 1974 بالتعامل مع م.ت.ف. بوصفها الممثل الشرعي والوحيد، يرى أن مقولة الممثل الشرعي والوحيد كان لها سلبيات قاتلة، إذ تمت "فلسطنة القضية" بهذا القرار، وحُصر مصيرها بتمثيلية م.ت.ف. لها؛ ما سمح لمنظمة التحرير بأن توقّع على اتفاق أوسلو دون العودة إلى ميثاقها الذي يعدّ قضية فلسطين قضية عربية وليست قضية فلسطينية فقط. أي ليس من حق الفلسطينيين وحدهم أن يقرروا مصيرها كما يشاؤون. هذا دون الحديث عن ثوابت الميثاق ومخالفتها اتفاق أوسلو.
أما البعد السلبي الثاني فقد تمثل في إعفاء العرب والمسلمين من مسؤوليتهم بوصف قضية فلسطين قضيتهم وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. وبهذا حوّلهم إلى داعمين أو مؤيدين فقط. كما في إعفاء الأردن من مسؤوليته القانونية المباشرة عن الضفة الغربية والقدس. وإعفاء مصر من مسؤوليتها المباشرة عن قطاع غزة. فكل ما حدث من تداعيات سلبية كارثية، ابتداءً من المعاهدة المصرية-الإسرائيلية، ومروراً بمعاهدة وادي عربة، واتفاق أوسلو، وصولاً إلى ما يجري من هرولة وتفريط الآن من قِبل عدد من الحكام العرب، له علاقة ما بقرار الممثل الشرعي والوحيد وممارسته السياسية. حقاً إنه لقرار ملغوم ونكد ونتائجه كارثية إلى أبعد حد.
القضية الخلافية الثانية التي قيل بأنها السبب في عدم صدور البيان، دارت حول الامتناع عن توقيع البعض على استخدام "القدس الشرقية" لما تتضمنه من تفريط بغربي القدس والإقرار بأنه من حصة الكيان الصهيوني، مجانياً.
هنا ثمة مشكلة، ليس مع حماس والجهاد فحسب وإنما أيضاً مع الشعبية وقطاع واسع من الفصائل والفلسطينيين. بل قبل ذلك مع ميثاقيْ 1964و 1968.
على أن ما تعانيه العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية يتعدى كثيراً ما أُشير إليه من خلاف حول "الممثل الشرعي والوحيد" أو "القدس الشرقية"، فمعظم ما دار من أسباب الانقسام بين حماس وفتح هو في الحقيقة انقسام بين فتح ومن يؤيد خط أوسلو من جهة، وبين الفصائل التي تعارض اتفاق أوسلو وسياسة المفاوضات وحل الدولتين من جهة أخرى، فضلًا عن الرفض الواسع كثيراً للتنسيق الأمني.
الخلافات الفلسطينية تبدأ بالخلاف السياسي المتعلق بالتسوية والمفاوضات وحل الدولتين (أساساً الاعتراف أو عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني) من جهة، ومن ثم بإستراتيجية المقاومة والانتفاضة من جهة أخرى. وقد عبر عن ذلك بما أُرسي في قطاع غزة من قواعد عسكرية وصلت إلى حد مئات الكيلومترات من الأنفاق وعشرات الآلاف من الصواريخ، وخوض ثلاث حروب، واندلاع مسيرات عودة متواصلة من جهة، وإستراتيجية انتفاضة شعبية، ومقاومة متعددة الأشكال من جهة أخرى، في القدس والضفة الغربية بوصفها الإستراتيجية القادرة على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات (تحرير القدس والضفة الغربية) بلا قيد أو شرط.
هذان البعدان لم يتطرق إليهما البيان الذي لم يوقَّع تطرقاً يسمح بإظهار عمق الانقسام وعمق الخلافيات في الساحة الفلسطينية.
وأخيراً، كلمة نصيحة لروسيا: أن تفيد من تجربة الاتحاد السوفياتي بالتعاطي مع القضية الفلسطينية، إذ أدى إقناع فتح وفصائل أخرى بقرار 242 وحل الدولتين والتفاوض إلى أن ينتهي "التعب" في حضن أمريكا. وذلك ليس بسبب انهيار الاتحاد السوفياتي، ولكن لأن هذا المسار ينتهي إلى هناك لا محالة. أما النقطة الثانية فالإفادة من التجربة مع الكيان الصهيوني، إذ أثبتت الوقائع أنه يستدرج التنازلات الفلسطينية والعربية والدولية، وليس عنده أي استعداد لأي حل. فهو يريد كل فلسطين له، وليس للفلسطيني أي شيء غير الرحيل. وهذا ما يجب أن يُقرأ من تجربة الكيان الصهيوني مع اتفاق أوسلو إلى اليوم.
فالنصيحة إذن: إقامة أحسن العلاقات مع الفلسطينيين وعدم الخوض في التسوية أو إيجاد حل. فمع الكيان الصهيوني "فالج لا تعالج"، أو من ناحية أخرى، البدء بالعدو الصهيوني وإقناعه قبل البدء بالفلسطينيين. فقد أثبتت التجربة أنه يشجع على البدء بالفلسطينيين لاستدراج التنازلات منهم. ثم لا يعطي شيئاً، ويفشل جميع الوسطاء ويخدعهم.
وسوم: العدد 814