هل تسقط أوروبا في قبضة ثقافة الحظر؟
ارتبطت صورة أوروبا بالانفتاح والديمقراطية والحرية وتكافؤ الفرص، لكنّ هذه القيم تواجه اختبارات شاقّة في الواقع الأوروبي الراهن؛ فمنذ بدء القرن الحالي صعدت مفردة "الحظر" في المداولات السياسية والإعلامية وحملات التعبئة في كافة أرجاء القارة الأوروبية.
وقد صارت حملات الحظر هذه خياراً مفضّلاً للاستجابات السياسية والتشريعية والإجرائية في مجالات معيّنة، بما أعاد إلى الأذهان ظلالاً قاتمةً من الماضي الأوروبي.
لا تستثير انزلاقاتٌ كهذه الأوساط المجتمعية العريضة في بلدها غالباً؛ لأنّ الشعب يحسب أنّ المتضررين المباشرين من إجراءات الحظر والتقييد محسوبون على مكوّنات مجتمعية هامشية أو بعض الأقليات بالأحرى، كما أنها تأتي مسبوقة بخطابات تبريرية مشبّعة بسوء الفهم والتحامُل إلى درجة التشويه والتحريض أحياناً.
في المحصِّلة تقوم ثقافة الحظر في الواقع الأوروبي الراهن على المبالغة في استعمال التشريعات والإجراءات والقرارات التي تنطوي على منع وتقييد وحرمان من حقوق وامتيازات عامّة، وهو ما يتنزّل على المكوِّنات المجتمعية المسلمة بصفة أوضح من غيرها.
تبدأ قائمة المحظورات المتفرّقة والمحتملة في بلدان وأقاليم ومحافظات متفرقة عبر القارة من اختيارات الملابس، مثل ارتداء قطع معيّنة من القماش، بما يترتّب على ذلك من قيود في فرص الالتحاق المدرسي والعمل في بعض الوظائف.
وتشمل القائمة عناوين متعددة؛ مثل تشييد المآذن، وبعض ما يتعلّق بالإمامة والخطابة في المساجد، وتلقِّي مساعدات خارجية لمؤسسات دينية وتعليمية وثقافية، وإجراء ختان الأولاد، ورفع شعارات ورايات معيّنة، وتوزيع المصاحف في أماكن عامّة دون غيرها من الكتب المقدسة، ومواصفات الذبائح وتجهيز اللحوم، وتمتد القيود إلى مجالات غير متوقعة أحياناً؛ مثل سفر الأبناء إلى مواطن آبائهم مُدداً معيّنة، وغير ذلك مما يمكن العثور عليه في بلد معيّن، أو محافظة محددة، أو مدينة مخصوصة.
وإن توزّعت هذه القائمة على بلدان وأقاليم ومحافظات عدة، فإنّ عدوى الحظر آخذة في التفشِّي التدريجي من بلد إلى آخر ومن مستويات محلية إلى غيرها، وهي حالة تتفاعل بأسلوب تناقُل الخبرات السيئة واستنساخها.
تمنح ثقافة الحظر المستشرية انطباعاً بأنّ الواقع الأوروبي يتّجه إلى تعزيز أنماط تعامل استثنائية مع المسلمين تحديداً، عبر قوانين وإجراءات تتنزّل بصفة حصرية أو شبه حصرية على المسلمين أساساً، وتتكبّد النساء أعباء مضاعفة؛ جراء ذلك في مجالات التعليم ومواقع العمل والحياة اليومية، بما يقلِّص حظوظ الاندماج والمشاركة والحضور المجتمعي.
لا تقتصر المعضلة على قائمة المحظورات والقيود، التي دخلت حيِّز التنفيذ بالفعل قانونياً وإجرائياً، فهي بمثابة قمّة جبل الجليد لا أكثر. فمقترحات الحظر التي تشغل مواسم جدل عامّة؛ هي في الواقع عصيّة على الحصر، حتى دعا بعضهم إلى "حظر الإسلام" ذاته في بعض الدول، أو إلى منع ترجمات معاني القرآن الكريم والاقتصار على ترجمة رسمية بمواصفات يقترحها سياسيون أوروبيون، علاوة على دعوات إلى حذف مئات الآيات القرآنية وحظر تداولها.
تفيض الخيالات الخصبة بمزيد من مقترحات الحظر، بما يشمل مقترحات بمنع "كباب الدونر"(الشاورما)؛ لأنّ "الأسلمة تبدأ من الكباب!"، بتعبير سياسيين تحدّثوا في البرلمان السلوفاكي ذات يوم. ويبدو هذا المنحى شبيهاً بحظر السباحة والاستلقاء على الشاطئ إن لم تكشف المرأة بدنها، لأنّ لباس البحر المحتشم هو بمثابة "أسلمة للشواطئ وحمامات السباحة!"، كما قيل أيضاً. يكشف هذا المنحى عن هوس الحظر الذي يجمح بخطابات مسموعة من منصّات سياسية وإعلامية وثقافية عبر أوروبا، فالمناداة بتشريع جديد للمنع أو إجراء معيّن للتقييد تأتي مشفوعةً بسردية تبريرية كفيلة بتسميم الأجواء المجتمعية، وإذكاء سوء الفهم والانتقاص من قيم المساواة وتكافؤ الفرص والاحترام المتبادل والحريات الدينية والشخصية.
تعبِّر ثقافة الحظر هذه عن مفعول الخوف من الواقع المستجدّ والقلق من التحوّلات المتسارعة، وتشي بتأثير الصدمات أو الخبرات غير المعهودة، التي تعاقبت على الوعي الجمعي للشعوب الأوروبية منذ مطلع هذا القرن، بصفة لا تنفكّ أيضاً عن تحوّلات العولمة في المجالات الاقتصادية والثقافية.
إنّ المجتمعات التي يغمرها التشاؤم وتستبدّ بها الهواجس تبدو أكثر قابلية للبحث عن مشجب لتعليق المعضلات عليه وتفريغ الإحباطات فيه.هكذا مثلاً تصدّرت كلمة "برقع" الأولويات السياسية والإعلامية والتشريعية في بلدان أوروبية عدّة خلال سنوات مضت، حتى ثارت مواسم جدل مديدة من حولها، على حساب شواغل سياسية واقتصادية واجتماعية مُلحّة أحياناً. إنّ إشغال الناخبين بجدل عن قطعة قماش يتعلق بالنساء والفتيات المسلمات؛ ظلّ خياراً مريحاً للسياسيين على أي حال، وهي فرصة مثالية للتسخين الجماهيري لحصد الأصوات في مواسم الاقتراع.
لكنّ ثقافة الحظر لا تتوقف عند هذا الحد، فقد تقضم من حرية التعبير المدني والسياسي للمواطنين كافّة أحياناً، كما يتّضح في محاولات دؤوبة تشهدها دول أوروبية عدّة لمنع انتقاد الاحتلال الإسرائيلي وتجريم مقاطعته، تحت تأثير حملات ضاغطة، بذريعة أنّ ذلك يدخل ضمن مفهوم "العداء للسامية"، رغم أنّ عدداً من أبرز دعاة المقاطعة ومناهضي الاحتلال هم من اليهود الأوروبيين أساساً.
لهذا التدهوُر سيرته؛ فيوم 11 سبتمبر/أيلول2001 كان منعطفاً حاداً في ثقافة الحظر عبر أوروبا، رغم أنّ وقائع المنع والتقييد والتفرقة تسبق هذا التاريخ فعلياً؛ أشاعت هجمات الطائرات المدنية يومها فزعاً في أوروبا أخذ يتفاعل لاحقاً مع سلسلة اعتداءات شهدتها بلدان أوروبية، وجاءت الاستجابة المباشرة لكل اعتداء منها بمزيد من مقترحات الحظر، التي تتجاوز مقترفي الهجمات المباشِرين إلى أوساط وفئات مجتمعية معيّنة أو إلى عموم الشعب أحياناً، تحت مبررات وقائية. تمكّنت وزارات الداخلية بشكل خاطف من تمرير حزمة مشروعات قوانين متعاقبة في البرلمانات ما كان لها أن تجتاز القنطرة التشريعية بسهولة بدون سطوة الخوف هذه، التي كان لها، أيضاً، مفعولها في تهاوُن المجتمع المدني، بما فيه من المنظمات الحقوقية والنسائية، مع بعض إجراءات الحظر والتقييد التي مسّت بمكوِّنات مجتمعية معيّنة، والنساء المسلمات على وجه الخصوص.
وإن بدت الحالة مستجدّةً فإنّ النظرة الفاحصة تمنح انطباعاً مغايراً، فثقافة الحظر لها تاريخ في أوروبا عبر مراحل متعددة، وتبدو التطوّرات المشهودة في الواقع الأوروبي الراهن شبيهة نسبياً بما كان يجري في خواتيم القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع تبديل في أدوار ضحايا الحظر والتفرقة، تسترجع طوائف يهودية أو بروتسنتانية ذكريات مؤلمة واجهتها في مجال الحريات الدينية والشخصية أو في تشييد دور العبادة مثلاً، وهي تشهد اليوم دعاوى الحظر التي تطارد المسلمين أو مآذن مساجدهم، لكنّ ثقافة الحظر لا تستهدف فئة مجتمعية أو أقلية معيّنة وحسب؛ فهي تنتقص بالأحرى من قيم ومبادئ والتزامات منصوص عليها في المواثيق والدساتير وصيغت منها شعارات مجيدة، بما يقضي بكبحها أو تعطيل اشتغالها في نطاقات معيّنة، وهو ما يقرع ناقوس التدهوُر القيمي.
إنّ استشراء ثقافة الحظر هو بمثابة معضلة لأوروبا ذاتها، فما كان لهذا المأزق أن يتفاقم، لولا تواطؤ أحزاب سياسية "معتدلة" مع ثقافة الحظر المستشرية، وهو سلوك انتهازي قصير النظر كان له مفعوله في تمكين اتجاهات التطرّف السياسي من فرض خطاباتها التصعيدية بالمزايدة الشعبوية، حتى صعدت بهذه الحيلة إلى مواقع صنع القرار. يعني هذا، ببساطة، أنّ أوروبا التي استبدّت بها ثقافة الحظر تستشرف مزيداً من ممارسات التفرقة، التي ستتمّ باستعمال مؤسسات الحياة "الديمقراطية" ذاتها وبأدوات "دولة القانون" أيضاً.
وسوم: العدد 815