كيف ستواجه غزة حربها المقبلة
"الحرب أولها كلام"، هذا ما قالته العرب قديمًا. وفي اللغة المعاصرة، يمكن تأويل الكلام إلى تهديد وحصار، وتجويع وابتزاز، وتحريضٍ واغتيالات، وقصف وقتل، واجتياحٍ وحربٍ برية. جميع هذا وأكثر شهدته غزة على مر أعوامها، وما زالت تعيشه اليوم، وستواجهه غدًا وبعد غد. فغزة تعيش حالة الحرب، وما سيأتي سيكون تتويجًا لهذه الحالة، وتصعيدًا لها إلى نهاياتٍ لها ما بعدها.
الجديد في ما تعيشه غزة أن الأمور تكاد أن تصل إلى خواتيمها، فبعد كرٍّ وفرٍّ استمرا قرابة اثني عشر عامًا، شهدت فيها غزة جميع أشكال الحروب، وصلت إلى مفترق الطرق، ولحظة الاختبار الحاسم، وبدا أن لحظة مواجهةٍ كبرى تقترب ساعتُها، وقد تحدث في هذه الأيام، وقبل الانتخابات الإسرائيلية، أو بعدها، سواء عاد نتنياهو على رأس حكومة أكثر يمينيةً، أو جاءت حكومة الجنرالات، أو تشكل ائتلاف حكومي صهيوني من مختلف الأحزاب، إذ ثمّة حاجة لدى هذه الأطراف لرسم معادلةٍ جديدة، وفرضها بالقوة بعد أن فشلت محاولاتها لفرضها، عبر الحصار والجوع والقصف شبه المستمر، وهي معادلةٌ قد تمتد أطرافها من حدود غزة إلى حدود لبنان، وتنعكس آثارها في مستقبل المنطقة وكياناتها.
بداية، تعرّضت غزة لثلاثة اجتياحات صهيونية، منذ إعادة انتشار جيش الاحتلال منها، فشلت
في تحقيق أهدافها، وخرجت منها المقاومة منتصرة، لكنها خلفت دمارًا وحصارًا مستمرا. خلال تلك الأعوام كلها، نجحت المقاومة في تطوير قدراتها العسكرية، وتمكّنت من تطوير قدرتها الصاروخية التي طاولت ضواحي القدس وتل أبيب، ومن بناء شبكة أنفاق كبيرة، في وقتٍ تراجعت قدرات سلاح البر الصهيوني على التقدم وكسب المعارك البرية، على الرغم من القدرة التدميرية النارية غير المسبوقة التي يمتلكها. ويعود الفضل في ذلك إلى أن الانتفاضات والهبّات الشعبية في فلسطين حولت قسماً كبيراً من جيش الكيان الصهيوني إلى ما يشبه قوات الشرطة، وأخرجته من ثكناته إلى الحواجز، وكُلف بمهمات حراسة المستوطنات، فضلًا عن الآثار النفسية لتلك المهمات التي يتعامل فيها الجندي مع مدنيين ونساء وأطفال، وتأثر قدراته القتالية وبرامج تدريبه.
بدا ذلك واضحًا في الاجتياح في عام 2014 الذي امتد نحو 50 يومًا، لم تتمكّن القوات الصهيونية فيها من إحراز أي تقدم ملموس على الأرض، على الرغم من نجاحها في تدمير أجزاء واسعة من القطاع، عبر استخدامها سياسة الأرض المحروقة، كما تمكّنت فيه المقاومة من إنهاء استراتيجية الحرب الخاطفة التي تُمكّن العدو من تحقيق النصر بساعاتٍ أو أيام معدودة، ومن إرباك جبهته الداخلية، حيث أجبرت نصف سكان الكيان على البقاء في الملاجئ أو قربها، وشلت الحياة في أرجائه. وفي النتيجة، اضطر إلى وقف إطلاق النار، والتراجع عن أبواب غزة، والتخلي عن أهدافه المعلنة بتدمير المقاومة فيها.
استمرت الحرب بعد اجتياح عام 2014 بأشكالٍ أخرى، كان اشتداد الحصار وإغلاق غزة شبه التام الشكل الأبرز منه، تعمّق الحصار بعد الثورة المضادة في مصر، وتسلّم الرئيس عبدالفتاح السيسي السلطة فيها، وتم تدمير الأنفاق التي كانت تشكل متنفسًا ضد الحصار، كما أُغلق معبر رفح بشكل شبه كامل أمام حركة الأفراد، فأحكمت بذلك دائرة الحصار.
أُعيد إحياء ملف المصالحة الفلسطينية، بعد فشل الاتفاقات السابقة. ولكن في هذه المرة تحول الفشل إلى قطيعةٍ كاملة، توّجت بعقوباتٍ فرضتها السلطة الفلسطينية في رام الله على قطاع غزة، ما فاقم في أزمتها المعيشية، وشهدت الساحة الفلسطينية حالة استقطابٍ حادّة بين الطرفين التي اتهم فيها كل منهما الآخر بالتواطؤ مع "صفقة القرن"، حيث توهمت السلطة الفلسطينية أن مسرحها سيكون قطاع غزة، فيما اتهمت سلطة حركة حماس السلطة بعدم اتخاذ إجراءاتٍ فعليةٍ في مقاومتها، والانصراف بدلًا من ذلك إلى افتعال معركةٍ مع سلطة "حماس"، عبر قطع الرواتب ووقف المساعدات، تحت شعار تمكين السلطة ونزع سلاح المقاومة.
ردت حركة حماس على ذلك بمسيرات العودة الكبرى التي شكلت لها قيادةً مشتركةً ضمت فصائل وفعاليات، وهدفت هذه المسيرات إلى رفع الحصار عن غزة، وتمكّنت، عبر تطوير
أدواتها الجماهيرية من مسيرات وبالونات حارقة وفعاليات ليلية، من إزعاج العدو، كما تمكّنت، خلال العام الماضي، من فرض معادلاتٍ جديدة على الأرض، على صعيد العمل العسكري، مثل معادلة القصف بالقصف، ما أربك حكومة نتنياهو التي اتُهمت بأنها أفقدت الكيان قدرته على الردع، وتسبّبت، في وقت سابق، باستقالة وزير الدفاع الصهيوني.
إذا كان الجهد المصري قد فشل في التوسط لحل معضلة المصالحة الفلسطينية، فإن الوفود الأمنية المصرية لا تكاد تفارق غزة حتى تعود إليها، حاملة الشروط الصهيونية للتهدئة وتخفيف الحصار، وناقلةً ردود المقاومة عليها، وساعيةً إلى تحقيق وقفٍ لإطلاق النار عند حدوثه.
باختصار، قرّرت المقاومة في غزة أن الأسلوب الوحيد لفك الحصار، وإنهاء العقوبات، يجري عبر فرض معادلاتٍ جديدة على الصعيدين، العسكري والجماهيري، تُنهي حالة الجمود التي سادت منذ اجتياح عام 2014. وعدم السماح باستمرار الوضع كما هو عليه، ولعل هذا يفسّر حالات الهدوء والتوتر التي سادت أحيانًا، أكان ذلك باتجاه تصعيد زخم المسيرات والبالونات الحارقة والإرباك الليلي، وصولًا إلى القنص والقصف الصاروخي، عندما يتشدّد الكيان الصهيوني في إجراءاته، أو يمتنع عن تطبيق التفاهمات أو تطويرها أو إدخال المساعدات. بمعنى آخر، أصبح استخدام هذا الأسلوب الاستراتيجية التي تستخدمها المقاومة للخروج من حالة الحصار والعقوبات، وهي استراتيجيةٌ تدفع الأمور أحيانًا إلى حافّة الهاوية، لكنها مبنيةٌ
على تقديرٍ عميق لوضع العدو المرتبك، وغير القادر، في هذه المرحلة، على الدخول في مواجهة شاملة.
من هنا، لا يعتقد كاتب المقالة أن الصاروخين اللذين أُطلقا على تل أبيب قد أُطلقا خطأ، بل كانا رسائل مقصودة، ضمن سياسة الجذب والشد التي يمارسها الطرفان. ولعل من المفيد هنا أن يُذكر أنهما أطلقا في وقتٍ حمل فيه الوفد المصري شروطًا صهيونية متشدّدة، لرفع الحصار كليا عن قطاع غزة، مقابل تسليم الأسلحة الثقيلة (الصواريخ). وجاء إطلاق الصاروخين ردّا على هذا الشرط، ورفضا لاستمرار المماطلة في رفع الحصار. وترافق ذلك مع إعلان تصعيد الحراك الجماهيري بمناسبة يوم الأرض الموافق 30 آذار/ مارس. وجاء رد الكيان الصهيوني باهتًا، ويعبر عن درجة تراجع القدرة على الردع لديه، كما يشير إلى عدم رغبة رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، في خوض معركةٍ قد تحمل، في طياتها، مفاجآتٍ تؤثر في نتيجة الانتخابات المرتقبة، واكتفائه بالعودة من واشنطن حاملًا بيده وثيقة اعتراف الولايات المتحدة بضم الجولان السوري المحتل.
يجب الانتباه إلى أن معادلة "تسهيلات مقابل هدوء" التي يتباحث حولها الطرفان بوساطة
مصرية ليست سوى هدنة موقتة، تنهي الجولة الحالية من التصعيد. وإن احتمالات الحرب اليوم هي أقوى من أي وقت مضى، وإذا ما أُجلت أسابيع أو أشهرا فذلك لاعتباراتٍ تكتيكيةٍ، يحتمها وضع الكيان الصهيوني وخططه في مواجهة أنفاق المقاومة وصواريخها التي أصبح يعترف بأنها ما عادت صواريخ عبثية، وإنما تحولت أداة ردع متميزة. الحرب هي الحل الوحيد المتاح له، بعد أن فشلت جميع الضغوط والإغراءات. ومن ناحية سياسية، فإن دعم الإدارة الأميركية الحالية غير المحدود، ونيتها الإعلان بعد الانتخابات الإسرائيلية عن مشروعها الذي عُرف باسم صفقة القرن، وهو وصفة حربٍ جاهزةٍ تحتاج إلى ترتيب الوضع الإقليمي لفرضها، وإدخاله في تحالفات ومعادلات جديدة.
وحتى تصمد غزة في هذه الحرب، وحتى تكون قادرةً على تحمّل نتائجها وتبعاتها، لا بد من اتخاذ إجراءاتٍ جذريةٍ لترتيب أوضاع غزة الداخلية، فالحرب ليست سلاحًا وصواريخ وأنفاقا فحسب، بل أيضا إرادة وتأييد شعبي واصطفاف واسع خلف القوى المحاربة. لذا، يجب الفصل بين المقاومة التي يلتف حولها الجميع والسلطة في غزة التي أصبحت عبئًا على المقاومة يثقل كاهلها. وذلك عبر تنازل حركة حماس عن السلطة، وتخويلها لقيادةٍ شعبيةٍ تشارك فيها الفصائل والفعاليات والنقابات، وعبر توسيع دائرة المشاركة في جميع المؤسسات، وتشكيل لجان شعبية في الأحياء. ويشترط لذلك أن تكون إدارة حقيقية، وليست ديكورًا ديمقراطيًا يخفي في ظلالة سيطرة فصيلٍ بعينه. .. هل ثمة مبالغة في القول إن هذا هو شرط الانتصار في المواجهة القديمة، وإنه سلاحٌ لا يقل أهمية عن أسلحة المقاومة الأخرى؟
وسوم: العدد 818