الجزائر: الحراك وملامح الخارطة السياسية الجديدة (1من3)

علي عبد اللطيف اللافي

اختارت السلطات العليا بالبلاد عشية استقالة بوتفليقة تطبيق الفصل 102 من الدستور، ولكنه اختيار عارضه جزء كبير من الجزائريين، وهو ما حدا بالبعض بالضغط والتشاور مع بلعيز للاستقالة وبالتالي المرور إلى خيار التخلي المتدرج عن الباءات الأربع (بن صالح – بلعيز – بوشارب – بدوي) وهو خيار تجنيب البلاد تزايد الاحتقان خلال الأيام المقبلة ومزيد من بناء لحمة وتكامل وطنيين في ظل وضع إقليمي ودولي متطور، فأي خارطة سياسية واجتماعية يمكن أن تتبلور بناء على هذه المعطيات ووفقا لمستجدات الأيام المقبلة وكيف ستعالج قيادة الجيش مطالب الحراك وخاصة مطلبي “تنحي الوجوه السياسية القديمة” و”محاربة الفساد”؟

في هذا الجزء الأول من هذه الدراسة التحليلية سنكتفي بالتذكير بملاحظات أساسية في المشهد السياسي وعرض أهم مفردات المشهد الجزائري وتطوراته منذ 22 فيفري الماضي:

1- بتاريخ 09 أفريل/نيسان الحالي أصبح عبد القادر بن صالح، كما يقضي بذلك الدستور الجزائري في الفصل 102، رئيسا مؤقتا للجزائر لمدة 90 يوما، وهي فترة انتقالية يفترض أن تنظم خلالها الانتخابات الرئاسية والتي حدد موعدها ليوم 04 جويلية/يوليو القادم، وإذا ما كان هذا الاختيار يتميز باحترامه للقانون فهذا لا يمنع الاعتراف بكونه لا يًحظى بإجماع جزء مهم من الشعب وجزء أكبر من المعارضة، وهو أمر يعني أنه ستكون هناك تحركات طلابية وعمالية وشعبية قد ترتب عليها مخاطر بل أن البعض من المتابعين توقع مخاطر أكبر على غرار احتمالية مواجهات مع قوى الأمن يقف وراءها مندسون وأطراف خارجية لا تريد الاستقرار للجزائر، وكل ذلك عجل بمعالجة سليمة وهادئة ومتدرجة من طرف المؤسسة العسكرية فدفعت الى خطوات أخرى والتي بدأت باستقالة بلعيز وربما ستنتهي باستقالة وابتعاد الباءات الأربع…

2- عمليا أخذت القيادة العليا للجيش في حساباتها هذا النوع من السيناريوهات مبكرا، وربما ذلك ما يُفسر تركيز القيادة العليا على الفصلين 7 و8 من الدستور في وقت سابق (مساء 30 مارس/آذار الماضي)، وهو أمر أتى مباشرة عند بداية تكشف الخلافات بين فريق القصر بقيادة سعيد بوتفليقة ورئيس الأركان أحمد قايد صالح، وطبعا تم اللجوء للفصل 102 بعد كسب قايد صالح للصراع ومسكه بزمام الأمور سياسيا، ومعلوم أن الفصلين 7 و8 يؤكدان على حق الشعب في ممارسة سيادته، كما أنه ليس من المستبعد أبدا خلال الأيام القادمة أن تتصرف القيادة العليا ببراغماتية، فهي تعلم أن إعلان حالة الطوارئ (الفصل 107)، هو السيناريو الأقل تفضيلا، لأسباب سياسية وإستراتيجية، لدى مراكز القرار العُليا…

3- عمليا حصل الحراك على مكاسبه وتلبية أغلب مطالبه بسلميته التي ابهرت العالم رغم محاولات تلغيمه ودفعه نحو خطوط حمراء وبدعم المؤسسة العسكرية التي اصطفت معه، فتم رفع شعار “الجيش والشعب اخاوة” الذي لازم شعار “روحوا قاع” فالأول يؤكد عقلية الدولة القوية بينما أثبت التمسك بالثاني أن الجزاريين يريدون روح جديدة لثورة نوفمبر وأنهم رياديون مغاربيا وإفريقيا ومتوسطيا وعربيا وإسلاميا، وعمليا كانت مظاهرات الطلبة والقضاة والمحامين وانتشار الحراك سليما في كل مناطق البلاد خطوات حاسمة في بداية الدفع نحو استقالة الباءات الأربع والانسحابات المعلنة والصامتة للوجوه السياسية القديمة وبلورة خارطة جديدة من حيث المسميات والشخصيات ومن حيث طبيعة تركيبة المجتمع المدني والسياسي مستقبلا….

4- من جهة أخرى تراهن القيادة العليا للجيش على تغيير تدريجي للطبقة السياسية في حين أن الشارع، أو على الأقل جزء كبير منه، يطالب بالتغيير السريع والجذري، والسؤال المطروح هنا لماذا لا تتبنى القيادة العليا للجيش، بشكل أكثر صراحة، الضربات الموجهة للطبقة الفاسدة وشبكاتها أو ما يعرف فلسفيا وفكريا بـــ” اللأوليغارشيا؟، ومعلوم أن قايد صالح قام بخطوة أولية بتاريخ 10 افريل/نيسان الحالي في وهران، حيث طلب من المواطنين بشكل واضح وصريح أن ينخرطوا في المعركة ضد الفساد وهو ما سمح لاحقا ولأسباب أخرى مساندة ومتعددة بتحرر القضاء من كل أشكال التأثير والقيود، وفي هذه النقطة بالذات أو ميدان ومساحة تلتقي فوقهما إرادات الجيش والشعب بشكل واضح وملموس، وكأن مسارات تونس 2011 هي نفسها مسارات الجزائر 2019 مع خصوصيات وفوارق تفرضها الجغرافيا وطبيعة المجتمع وطبيعة الإرث التاريخي والسياسي…

5- كل ما سبق يؤدي بنا عمليا إلى التساؤل عن طبيعة وهوية المكونات السياسية التي لها المصداقية الكاملة لقيادة التغيير الذي يطالب به الحراك الجزائري؟، وللإجابة نقول انه من الناحية العملية “المصداقية” مثلها مثل “الشرعية” ليست خصلة مكتسبة، وهي في الفلسفة السياسية هي في أغلب الأحيان تُكتسب خلال العمل والحركة، أي بصفة بعدية، والثابت أنه من غير الممكن القيام بتغيير سياسي في الجزائر من دون الجيش وبشكل أكثر استحالة ضده في بلد مُحددة فيه بالإجماع شرعية ثورية هي شرعية ثورة نوفمبر والتي طردت الاستعمار وحررت البلاد بدماء مليون ونصف شهيد، وبالتالي من الصعب عمليا أن نُحدد بشكل علمي فاعلين سياسيين آخرين على الأقل حسب تعبيراتهم الحزبية نظرا لطول المدة التي بقي خلالها الحقلان السياسي والإعلامي مُغلقين (حتى جاء الحراك الشعبي) أمام التناقضات الأيديولوجية والسياسية التي تعبر أعماق المجتمع، وبالتالي يمكن التأكيد أن الشباب والنساء يمثلون القوى التي لا يمكن حصول أي تغيير جدي من دونها وبناء على كل ذلك من المنتظر أن تشهد الساحة السياسية إعادة ترتيب وفرز في المستقبل القريب والعاجل….

6- راهنا هناك تحولات بصدد الحدوث في عدد من الأحزاب السياسية الجزائرية على غرار حزب رئيس الوزراء الأسبق “علي بن فليس” أو حزب “عبد العزيز مقري” (أحد التجسدات السياسية للأخوان المسلمين في الجزائر)، لتنسجم مع التحولات العميقة التي تجري منذ أسابيع إضافة إلى ما يجري في حزب “جبهة التحرير الوطني”(FLN) والتجمع الوطني الديمقراطي (RND) كما من الوارد ظهور قوى سياسية قادرة على قيادة التغيير حتى بناء على التفاعلات داخل بعض الأحزاب التقليدية وخاصة في أحزاب المعارضة….

7- وبناء على ما سبق ولفهم أي خارطة سياسية قد تتبلور مستقبلا لابد من تفسير الشعبية المتنامية، صلب الحراك أو المراد إظهارها كذلك، لكل من “مصطفى بوشاشي” و”كريم طابو”، ولفهم ذلك لابد من التذكير أن كُل من “بوشاشي” و”طابو” بدأ مشواره السياسي في “جبهة القوى الاشتراكية” وهو الحزب الذي تأسس سنة 1963 وترأسه لمدة طويلة الراحل حسين آيت أحمد، ويُهيمن أبناء منطقة القبائل والفرنكوفونيون على هذا الحزب العضو في الأممية الاشتراكية منذ أكثر من 30 عاما، وكل منهما كان نائبا في البرلمان بل أن الاثنين تقلدا مناصب هامة في صلب الحزب/الجبهة، كما لابد من التذكير بأن “بوشاشي” نجح بعد 2005 رفقة آخرين في “جبهة القوى الاشتراكية” في الظفر بقيادة “الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان” بفضل الدعم الذي حظي به من قبل إدارة “الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان”، وكيف نفسر إذن تنامي شعبية هاتين الشخصيتين السياسيتين في حين أنهما لا تمثلان إلا أقلية من الشعب الجزائري؟ وهنا يمكن القول أنه فضلا عن العوامل السياسية والأيديولوجية السالفة فان تأثير وسائل الإعلام التي يتحكم فيها اللوبي الفرنكوفوني في الجزائر ذاتها، ومن بينها تلك المملوكة لــ”يسعد ربراب”، وكذلك القناة التلفزية اللندنية “المغاربية” المملوكة، على الأقل رسميا، لابن القيادي الأول في “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” سابقا عباس مدني….

8- وبالإضافة إلى تأثير وسائل الإعلام سالفة الذكر والتحالفات السياسية الداعمة لها، ومن بينها تلك التي صنعتها ما يسمى بتنسيقية  “أرضية من أجل التغيير” والتي ضمت هاتين الشخصيتين مع ممثلين عن حزب آخر ذو هيمنة قبائلية وهو “التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” وحركات سياسية أخرى في الموالاة والمعارضة الذي بالكاد يتم التستر عليه، المقدم من قبل ملياردير معروف وكما يُمكن أن نلاحظ ذلك بسهولة فإن هذا التجمع السياسي يستعمل بشكل مُفرط ومجحف الورقة المناطقية/الاثنية، كما كان عليه الأمر زمن الحقبة الاستعمارية، عبر تحريك (بدون تكاليف تذكر وبلا أي خجل) مئات آلاف الشباب، كوسيلة للضغط والابتزاز، وهم في اغلب الأحيان مهمشون اجتماعيا بلا أفاق مستقبلية، وضحايا لتحشيد أيديولوجي شديد ومستمر منذ عقود. أخيرا، يمكن أن نضيف إلى جملة هذه العوامل العمل الفعال جدا الذي تقوم به بعض بقايا لوبيات رغم تراجع فعلها السياسي والاجتماعي بعد التطورات الأخيرة خاصة وأن قيادة الجيش الجزائري وصفتها بـــ”العصابة”….

9- مواقف الفرنسيين والأمريكيين بدت متقلبة مما يجري في الجزائر، وهذا أمر ستكون انعكساته الكبرى على الخارطة السياسية، وعمليا وان التقت مصالح هاتين القوتين في عدة مجالات، خاصة فيما يتعلق برغبتهم في التصدي للنفوذ الروسي والصيني، وحتى إن كانت هاتين القوتين لا تريدان أبدا جزائر مستقلة وقوية خاصة عندما تقف إلى جانب الشعوب المقاومة، خصوصا الشعوب العربية-الإسلامية وبشكل أخص الشعب الفلسطيني، مما يفرض عليهما تقاسم المهام على المستوى الاستراتيجي، فإن الثابت أن باريس وواشنطن تدافعان عن خيارات سياسية وثقافية واقتصادية مختلفة، وللتذكير ففرنسا ماكرون دعمت علنا خيار العهدة الخامسة لبوتفليقة (بل أن الأمر يعود لفترة هولاند من حيث تبني الخيار) ثم خيار تمديد العهدة الرابعة قبل أن تعبر عن أملها في انتقال هادئ حسب العبارة “جان ايف لو دريان” (وزير الخارجية الفرنسي)، ومن الواضح أن الموقف الفرنسي والذي أثار امتعاض الأغلبية العظمى من الجزائريين نظرا لانحيازه لمعسكر بعينه، برؤية للمصالح على المدى القصير والمدى المتوسط، ولكن قراءة المؤشرات تؤكد أن التحولات الاجتماعية والثقافية الكبيرة التي يعيشها المجتمع الجزائري منذ عشرين سنة تتخذ اتجاها معاكسا للتأثير الفرنسي في الجزائر، وليس هذا التوجه الجديد والقوي نتيجة لعوامل خاصة بالجزائر فقط بل انه مرتبط أيضا بتراجع القوة الفرنسية نفسها وكذلك بالصعود السريع لقوى دولية أخرى، كالصين بالطبع، والحضور المتزايد لقوى كألمانيا وإيطاليا وتركيا في قطاعات أكثر فأكثر حساسية…

10- عمليا تبحث فرنسا عن وضعية جديدة تضمن لها على الأقل الحفاظ على مواقعها المكتسبة وتأمين إمدادات المحروقات خاصة الغاز، وهي مشاغل تتشارك فيها مع الولايات المتحدة التي لا تريد أن تكون فرنسا تحت رحمة روسيا، وكذلك استقرار منطقة المغرب العربي (الجزائر محددة فيه وهي عمليا محوره المركزي) الذي له انعكاسات مباشرة على فرنسا. وفي هذه الوضعية الجديدة سيكون للمجتمع المدني الفرنسي، الذي يضم جزءا من المهاجرين الجزائريين، وكذلك الأوساط المثقفة والفنية دور أساسي إلى جانب فرنسا الرسمية حسب ما يقال في قصر الايليزيه..

11- بالنسبة للولايات المتحدة فالمقاربة تبدو مختلفة ومنسجمة مع الفلسفة البراغماتية، فمنذ بداية الحراك لم تكف الولايات المتحدة عن التذكير بدعمها لحرية الشعب الجزائري، وكأنها تريد الظهور كبطلة الديمقراطية والحرية وتستغل بهذا الشكل الديناميكية في الجزائر لتعزز مواقعها في مواجهة الروس والصينيين وحتى الأوروبيين وخاصة الفرنسيين، وفي هذا الإطار تتوفر للولايات المتحدة نقاط قوة وفي نفس الوقت معوقات  كبيرة من بين نقاط القوة نجد جاذبية التطور التقني-الاقتصادي ومزايا الثقافة الأنغلو-ساكسونية، أما بالنسبة للمعوقات فهناك بالطبع السياسة الامبريالية والعدوانية تجاه شعوب الجنوب وخاصة الشعوب العربية-الإسلامية، فلسطين بشكل خاص، ومن المؤكد أن الأعلام الفلسطينية التي حضرت بقوة خلال الحراك الجزائري استرعت انتباه اللوبي الصهيوني المتنفذ بنسب مُعينة في واشنطن…

12- يمكن للجزائر، هذا البلد العربي الغني والمهم جدا بفضل موقعه الذي يتقاطع فيه عدة عوالم وحضارات، إن أحسنت لعب أوراقها الرابحة (خاصة تلك التي مكنتها منها سياسة عدم الانحياز) أن تتجاوز الأزمة التي تواجهها حاليا، بل وباستطاعتها أن تجعل من هذه الأزمة عائقا تستند عليه لكي تنهض وتقفز، كل هذا من أجل ازدهار شعبها وشعوب الأمة وكذلك أفريقيا (التي تعتبر الجزائر إحدى قاطراتها، وكما نتمنى كل الشعوب التي تريد العيش بكرامة، وهل يمكن لأي من الأحزاب الحالية أو الجديدة أن تبلور قدرات الجزائر الحضارية والتاريخية والجغرافية وموقعها الإقليمي مغاربيا وإفريقيا ومتوسطيا …

وسوم: العدد 820