مصر: من “غزوة الصناديق” إلى “غزوة الكراتين”!
رواه الترمذي: «لا تظهر الشماتة في أخيك فيعافيه الله ويبتليك»! فلعلكم تذكرون الواقعة التي جرت منذ أربع سنوات، عندما قامت مذيعة الأجهزة الأمنية في مصر، بالسفر إلى لبنان، وعرضت في برنامجها على قناة «النهار»، لحظة دخولها على متن سيارة نقل إلى معسكر اللاجئين السوريين، ونقلت صورة المحتشدين حولها والمسرعين اليها بهدف الفوز بما تجود به المذيعة، والتي من الواضح أنها ذهبت بعيداً، فلو ذهبت بها إلى أحد الأحياء المصرية الفقيرة، لكان المشهد نفسه، لكنها الرسالة التي أرادها المخرج لقناة كانت ملكيتها لأفراد، وقت بث هذه الحلقة، فاستولت عليها الأجهزة، يقولون بيعاً وشراء، لكن لا نعرف المدفوع فيها، ولا نعرف أين استقر الأمر بالمذكورة الآن، لكنها في العادة ستنتقل من قناة إلى قناة، وكل القنوات التلفزيونية في مصر، آلت ملكيتها للسلطة، ما عدا «صدى البلد»، التي لا تزال إلى الآن يملكها رجل الأعمال محمد أبو العينين، العابر للأنظمة، ومن مبارك، إلى مرسي، إلى السيسي! وتعليقا على الركض والجري والتدافع للفوز بـ «كرتونة» من «كراتين» السلع الغذائية، كان صوت المذيعة ريهام سعيد، يأتي مسكونا بادعاء الحزن: «هذه هي الشعوب التي تشردت، وتقسمت وضيعت نفسها.. هذا مصير الناس لما بلدهم تضيع»! لم يكن الهدف إذن من كل هذا هو مساعدة المحتاجين، أو الوقوف بجانب الأشقاء السوريين في محنتهم، فقد كانت رسالة تخويف، تتماشى مع رسالة القائد العسكري، الذي لم يتوقف أن يذكر المصريين بأنه أنقذهم من مصير سوريا واليمن، ويستهدف التخويف من الثورات بشكل عام، وكأن هذا ليس بسبب تمسك حاكم جائر مثله بكرسيه، ومستعد أن يدمر سوريا، الحجر والبشر، فلا يعنيه إلا قصره الرئاسي، ولو سيحكم أطلالاً! لقد توقفت هذه الدعاية الآن فمن السودان إلى الجزائر فإن التخويف هو من مصير مصر! لقد كانت المذيعة في مهمة وطنية، والأوطان تدور مع الحكام وجوداً وعدما، ويشاء السميع العليم، أنه بعد سنوات من هذا النقل التلفزيوني، ومن الصدقات التي يتبعها أذى، انتشرت الصورة نفسها في مصر على نطاق واسع، فأينما تولي وجهك، تجد تدافعا على «الكراتين»، فالحزب الذي أنشأه السيسي «مستقبل وطن» يوزعها، ونواب يفعلون، وكذلك رجال أعمال بدا أنهم كلفوا بذلك، بهدف جلب الناس للتصويت على التعديلات الدستورية، التي تمكن عبد الفتاح السيسي من البقاء في السلطة إلى سنة 2030، بعد أن تم تعبئة رصيده بدورة كاملة مدتها ست سنوات، وزيادة رصيده من هذه الدورة بسنتين اضافيتين، من خلال مادة انتقالية، تمثل اهانة للأعراف والتقاليد الدستورية، وتطعن في مقتل التعريف الذي تم الاستقرار عليه للقاعدة القانونية، بأنها عامة ومجردة، فضلاً عن أن هذه التعديلات تمثل ردة، إلى عصور ما قبل التاريخ، فمصر التي عرفت أول دستور في سنة 1923، تبدو الآن كما لو كانت محدثة نعمة، ومصر التي عرفت حكم العسكر منذ سنة 1952، لم يرتب دستورها أي دور للقوات المسلحة في الدولة، وقد جعلت منها تعديلات السيسي أنها في حكم «الولي الفقيه»، فالجيش فوق الدولة، وهو المرجعية العليا في الحكم!
الانصراف إلى «ماسبيرو زمان»
في صباح اليوم الأول للاستفتاء، الذي جرى على مدى ثلاثة أيام، كنت قد عقدت العزم على عدم الانشغال به، فقد كنت مشغولاً فيما سبق باظهار الحقيقة للناس، من خلال ذكر المهازل التي تحدث في الانتخابات التي أجريت في عهد السيسي، وقد أجريت ثلاثة انتخابات، رئاسيتين وبرلمانية، كما شهد انقلابه استفتاء على الدستور. الآن، تبين الرشد من الغي، فأي صريخ ابن يومين، لم تعد تنطلي عليه دعاية أهل الحكم، أو وعود السيسي بالرخاء، فالمصريون ينتقلون من ضيق إلى ضيق، ويكفي أن الموظفين في الحكومة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقد اضطروا للذهاب إلى الانتخابات مع تهديدات الأمن، أو تهديدات رؤسائهم بابلاغ الأمن عن الرافضين للتصويت، أن حوالي اثنين مليون موظف أبطلوا أصواتهم، فلم ينتخبوا السيسي أو من تم استدعاؤه لينافس. في الصباح رأيت صوراً عبر القنوات التلفزيونية لعشرات يقفون أمام اللجان، في طوابير لا تتحرك، فعرفت أنها لزوم التصوير، انصرفت إلى «ماسبيرو زمان»، فهذا يوم الراحة، فاذا كان الوعي هو موضوعنا طوال السنوات الماضية، فالناس في بلدي باتت على يقين أن السيسي يمثل خطراً على مستقبل البلاد، سيترتب على استمراره في السلطة مشكلات يتعذر تداركها! كنت قد انقطعت لفترة طويلة عن مشاهدة «ماسبيرو زمان»، لتكرار البرامج والمسلسلات، فعدت اليها، لأجد مسلسل «عيون» الذي عرض في فترة قصيرة أكثر من مرة، فضلاً عن برامج حوارية أخرى، شاهدتها أيضاً أكثر من مرة، وهذا إما أنه تعبير عن سوء إدارة، أو عن صحة ما كانت تنشره الصحف قديماً من تبديد تراث التلفزيون المصري! ومما ننشر أن الموظفين الجهال، الذين تم تعيينهم بالوساطة والمحسوبية في عهد خالد الذكر الرائد صفوت الشريف، كانوا يسجلون البرامج الجديدة على الاسطوانات الخاصة بالتراث، فضلا عن تهريب كثير من هذا التراث وبيعه لقناة «آي آر تي»، والتي أطلقها رجل الأعمال السعودي صالح كامل! قبل أن ينتهي النهار، قلت ألقي نظرة على الدنيا فوجدت السيوشيال ميديا، وقد ازدحمت بصور وفيديوهات (بالصوت والصورة) لتوزيع «كراتين»، خاصة بالسلع التموينية، كحافز لتحريض الناس على الاستفتاء، وإذ بكراتين حزب «مستقبل وطن»، وقد كتب عليها أنها «مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي»، فمثل الأمر فضيحة مضاعفة لأهل الحكم..إنهم – يا اللهي – يركضون في اتجاه توزيع «الكراتين» كما فعل اللاجئون السوريين في لبنان! بيد أن السوريين كان قد تم تهجيرهم من بلادهم، بسبب إجرام النظام الحاكم والأنظمة الخارجية التي ساعدته في البقاء، كما ساعدها في مهمة تمكينها من تدمير سوريا، فلا تصلح للثوار، وإن كانت تصلح لبشار باعتباره يريد أن يستمر حاكماً ولو في المقابر!
جلال شهدا من الزمن الجميل
لقد كانت الصور تظهر، أنه ليس استفتاء، وفق التقاليد الانتخابية التي تعرفها مصر ويعرفها العالم، لكنها غزوة من نوع خاص، فقد انتقلت مصر من «غزوة الصناديق» حسب السلفي الشيخ محمد حسين يعقوب في وصف نتيجة التعديلات الدستورية في بداية الثورة، وقال إنه كان يمزح عندما اشتد عليه الهجوم، إلى «غزوة الكراتين»، بحسب جلال شهدا، مذيع الجزيرة القادم من زمن «راحة البال» في برنامج «بلا حدود» وهو يحاور «أيمن نور» زعيم حزب «غد الثورة»! يعطي صوت «جلال الشهدا» لسكون الليل، مذاقه الخاص، فيذكرنا بزمن ولى، كان المذيعون فيه يتحدثون ليلا من طبقة من مختلفة، ربما لم يرصدها علماء الأصوات، ولو انتبهوا لها فربما أطلقوا عليها «طبقة سكون الليل»! قبل تقديمه بعض الحلقات في برنامج «بلا حدود»، كنت أعتقد أن «جلال الشهدا» مظلوماً بوجوده ليلاً، وباعتبار مشاهدي الليل قلة، لهذا يبدأ المذيعون الجدد العمل في الفترة من منتصف الليل وحتى الصباح، لكن جماهيرية «الشهدا» غيرت لدي هذا المفهوم، لا تنس أن ليلنا ليس ليلا لكل العالم، ففي أمريكا وضواحيها يعرفون «جلال الشهدا»، كأيقونة من أيقونات «الجزيرة»! ما علينا، فلم يكد صديق لي من حزب نظرية المؤامرة، يقول لي إن صورة التدافع على الصناديق مقصودة، لإظهار المصريين بأنهم لا يستحقون الديمقراطية، حتى استشعر الانقلاب العسكري الحاكم في مصر الأزمة، وقرر تعليق الاتهام في رقبة الإخوان، بأنهم من روجوا الصورة، وفي مصر لو عثرت دابة، أو تم ربط عريس في «ليلة دخلته»، لقال أهل الحكم إن الإخوان يقفون وراء ذلك، فالاخوان الذين نال ضعفهم من شعبيتهم، يسعفهم النظام بتقديمهم أقوياء وأنهم قادرون على الاضرار به، وإحداث اصابات في هيلمانه الجسدي، حتى أكاد الآن أصدق دعاية صاحب قناة «الفراعين» القديمة بأن السيسي إخوان، ويستحق إشادة الإعلام الاخواني به ووصفه بأنه وزير دفاع بنكهة الثورة! الدعاية المضادة، لصورة الكراتين، قامت على أمرين. الأمر الأول: إن الصورة مفبركة، وأنها صورة واحدة، فبركها الإخوان، وفي الوقت ذاته هى صورة قديمة في مناسبة أخرى، ولا علاقة لها بالتعديلات الدستورية، وهو ما قال به «فلتة عصره وزمانه» أحمد موسى، لأن «نزول حضراتكم يوجع العدو»، ولم يقتصر وصفه العدو على الاخوان وحدهم ولكن معهم «الطابور الخامس و6 أبريل». الأمر الثاني: يقوم على أنها ليست صورة وحيدة مفبركة، فالإخوان بمعاونة حزب يمولونه كانوا وراء هذه «الكراتين» بهدف الإساءة إلى التعديلات الدستورية، وقد نشر خبر في وقت واحد في صحف «الأهرام» و»الأخبار» و»اليوم السابع» و»صدى البلد» يؤكد أن الإخوان هم وراء «الكراتين» لتشويه العرس الديمقراطي.
الحزب الذي يموله الإخوان
وقد جاء هذا النشر متزامناً مع تهديد المستشار القانوني لعبد الفتاح السيسي بأنه جار اتخاذ الإجراءات القانونية، ضد حزب أساء إلى رئيس الدولة، لأنه استغل اسمه في موضوع «الكراتين» قبل أن يرفع تهديده، وقبل أن ترفع بعض المواقع هذا الخبر، وقبل أن يهاجم حزب «مستقبل وطن» الإخوان ويتهمهم بالمسؤولية عن التشهير به واتهامه بأنه يقدم «كراتين» كرشاوى انتخابية، ولم ينف أنه وزع كراتين فعلا.. فماذا يقصد القوم بالحزب الذي يموله الاخوان؟ هل هو «حزب مستقبل وطن»، وهو الحزب الوحيد الذي تردد اسمه ملصقا بالكراتين في الدعاية، وهل حزب «مستقبل وطن»، هو حزب موال للإخوان؟ إنهم قوم جبارون إذن، والدليل أنهم سيطروا على حزب «مستقبل وطن» مع أنه اختراع السيسي! إنه الارتباك، الذي أفقد القوم الرشادة، فقد أفقروا الناس، حد أن فقراء حكم العسكر صاروا كما اللاجئين السوريين مع شاحنة ريهام سعيد، فابتلاهم بذات الداء، مع أن مصر لم تشهد ثورة، ولم تخرج على حاكمها، وأن المصريين لم يتحولوا إلى لاجئين، ربما لجوؤهم من نوع جديد هو اللجوء داخل الوطن! يا لها من مأساة.
وسوم: العدد 822