أمريكا وتركيا، وأزمة الصواريخ S400
أزمة جديد تلوح في الأفق بين تركيا، والولايات المتحدة الأميركية بسبب مضيّ أنقرة في صفقة منظومة صواريخ S-400 الروسية، التي أحدثت قلقا لإدارة ترامب، والكونغرس هو الآخر يلوح بعقوبات في وجه تركيا بسبب اقتناء هذه المنظومة.
تعمل أنقرة على إنتاج أنظمتها العسكرية عالية التقنية بالاعتماد على الجهود الوطنية لإعطاء فسحة من الاستقلالية في سياستها الإقليمية. وقال وزير الدفاع خلوصي أكار: «سئمت تركيا من كونها سوقاً (لشراء السلاح). سنصبح دولة منتجة أيضاً». وارتفع الإنفاق العسكري التركي بنسبة 65% بين عامي 2009 و2018، وذلك بحسب معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، الذي يبحث في قضية الإنفاق العالمي على السلاح. وارتفع العام الماضي إنفاقها بأسرع وتيرة بين أكبر 15 دولة مشتريه للسلاح في العالم ووصل إلى 19 مليار دولار.
وفي عام 2013 أصبح إنتاج أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي بعيدة المدى وتطويرها؛ أولوية بالنسبة للبلاد، وأعلنت وزارة الدفاع التركية عن مناقصة للبرنامج التركي لأنظمة الدفاع الصاروخي بعيد المدى، ولقد مرّت تركيا بثلاثة شروط رئيسة:
الإنتاج المشترك ونقل التكنولوجيا والتسليم الجزئي في الوقت المحدد.
ولم تدرج شركتا الدفاع الأمريكيتان "رايثيون، ولوكهيد مارتن" نقل التكنولوجيا أو الإنتاج المشترك في عرضهما وطلبتا أيضاً مدفوعات أكبر على الأقل أربعة أضعاف ما ذكرته الشروط المالية التركية.
في ديسمبر 2017، وقعت تركيا عقداً مع روسيا لشراء "منظومة صواريخ S-400" لتلبية احتياجات الدفاعية لما لهذه المنظومة من مميزات عالية في التصدي للأهداف الجوية بكفاء عالية لا تتيسر في منظومات أخرى.
ومنذ ذلك الحين تمارس واشنطن ضغوطًا على تركيا وتهددها بالعقوبات، والتبعات السياسية والاقتصادية وغيرها من القضايا؛ مثل الإزالة من برنامج F-35 للطائرات المقاتلة على الرغم من أن تركيا شريك، ورغم أنها أوفت بجميع مسؤولياتها في مشروع F-35.
وقال حلف الناتو، وهو تحالف عسكري حكومي دولي بين الولايات المتحدة وتركيا: إن شراء تركيا لنظام S-400 هو "قرار وطني.
وأمهلت أمريكا تركيا لغاية شهر يوليو/ تموز المقبل، للتخلي عن شراء صفقة كبيرة من منظومة صواريخ إس-400 الروسية. وإذا كانت ستكمل صفقة مع رايثون لأنظمة باتريوت، التي ظهرت على الواجهة مرة أخرى، وهو أمر لم ترفضه تركيا حتى الآن، أو ستواجه عقوبات شديدة مثل فرض عقوبات أمريكية إذا استمرت أنقرة في الاتفاقية لشراء نظام S-400 من روسيا.
أمريكا تشعُر بقلقٍ كبيرٍ من تقدّم الصّناعات العسكريّة الروسيّة التي باتت تُشكّل تهديدًا خطيرًا لنظيراتها الأمريكيّة لتطوّرها التقنيّ اللافت، علاوةً على تدفّق عشرات المِليارات من الدولارات على الخزينة الروسيّة، وشِراء دولة مثل تركيا العُضو المُؤسّس لحلف الناتو، والحليف التاريخيّ لواشنطن وثاني جيش في الناتو صفقات صواريخ روسيّة سيُشجّع دُولًا أُخرى على السّير في الاتّجاه نفسه، وتراجع صناعة السّلاح الأمريكيّة التي تُشكّل أحد أركان الاقتصاد والنّفود الأمريكيّ.
وتعارض الولايات المتحدة الصفقة بقوّة، لأنها تشعر أن منظومة S-400، المعروفة أيضاً داخل الناتو باسم SA-21 Growler، تمتلك رادارات متطورة ولا تتوافق مع تكنولوجيا الناتو. وسيُمثِّل نشر المنظومة في تركيا مزيداً من التقدُّم في مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لهندسة دور أكبر في الشرق الأوسط. ويُعَد مبعث القلق الأكبر لدى الولايات المتحدة هو إمكانية استخدام المنظومة الروسية لجمع معلومات استخباراتية بشأن قدرات التخفِّي الخاصة بمقاتلات F-35.
يقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنَّ حلفاء تركيا الغربيين لم يُزوِّدوا بلاده بالدفاعات الضرورية في وجه التهديدات الصاروخية من دول الجوار إيران والعراق وسوريا. وأحبطت الولايات المتحدة لسنوات بيع منظومة الدفاع الجوي باتريوت لتركيا وتقاسم تكنولوجيا المنظومة في الوقت نفسه.
وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، أخطرت الخارجية الأمريكية الكونغرس أنَّها اقترحت السماح بعملية البيع، في مناورة تهدف على ما يبدو لإلغاء أردوغان صفقة S-400. لكنَّ تركيا لم تتحرك، واستشهدت بالغموض المحيط بنقل التكنولوجيا والجدول الزمني للتسليم. ويعكس ترددها كذلك رغبة تركيا في دورٍ مستقل على نحوٍ متزايد في السياسات الإقليمية، ورغبتها في علاقاتٍ اقتصادية مع روسيا، التي ترسل الغاز الطبيعي والكثير من السياح والمنتجات الزراعية إلى تركيا.
الكثير من القضايا. يتعرَّض التحالف الامريكي التركي الممتد على مدار ستة عقود بين البلدين إلى التأزُّم، والأسباب الحقيقية تبدو أقرب للملفات الخلافية بين الشريكين الاستراتيجيين، وخصوصاً تقارب أنقرة مع موسكو (بما في ذلك شراء منظومة S400) ومعارضتها العقوبات الأمريكية على إيران، فضلاً عن الخلافات في عدد من الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها سوريا، والقضية الفلسطينية، والدعم الأمريكي لميليشيا كردية سورية تعتبرها عدواً، حيث كانت أنقرة قد قادت الحراك الدولي في مواجهة قرار ترمب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. بكلمات أخرى، تبدو واشنطن غير راضية عن السياسة الخارجية التركية مؤخراً وخصوصاً نزوعها نحو الاستقلالية والندية، وما زالت تحاول التعامل معها وفق منطق الحرب الباردة وتسعينات القرن المنصرم، متجاهلة التغيرات الكبيرة التي حصلت في تركيا في السنوات الأخيرة.
ومع ما شهدته البلدين من توترات إلا أن الولايات المتحدة مازالت تعتبر أن علاقاتها مع تركيا ما تزال استراتيجية وليس من السهل التخلي عنها لأسباب عدة أهمها أن تركيا تشكل حسب الرؤية الأمريكية منفذًا لسياستها الخارجية تجاه القوقاز والشرق الأوسط، والدور المحوري الذي تطّلع به تركيا في المحافظة على أمن الرقعة الممتدة من وسط أوروبا إلى أطراف الهند وروسيا. وفي هذا تأمين للمصالح الحيوية لأمريكا في هذه الرقعة والموقع الاستراتيجي لتركيا المطلّ على الممرات الملاحية الهامة في البحر الأسود، وبحر القوقاز، والبحر المتوسط، فضلا عن كونها ممرًا بديلًا في حال تعرضت الملاحة للخطر في مناطق أخرى، ونجاح تركيا في مسعاها لتصبح نقطة التقاء لخطوط أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى لأوروبا عبر خط جيهان باكو مما يضعف الدور الروسي في هذا المجال، وهذا أيضًا حيوي للمصالح الأمريكية كونه يقلّص من الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية لروسيا.
كما أن هنالك تباينا كبير في وجهات النظر بين الجانبين التركي، والأمريكي إلا أن ذلك لا ينفي وجود كثير من القضايا التي يتفقان عليها ومن أبرزها ضرورة حل الصراع العربي الصهيوني بالطرق السلمية.
استفادت الولايات المتحدة الأمريكية من موقع تركيا الجيوستراتيجي، والجيوسياسي المهم. لأهمية مصالحها في الشرق الأوسط وأوسط أسيا وليس لمشاعر الصداقة، والقيم والأيديولوجيات المشتركة، القوّة المحركة للسياسة الأمريكية تجاه تركيا تحديداً. ولم تكن تركيا في نظر الأمريكيين، وضمن المخطط الاستراتيجي الأمريكي تجاه منطقة الشرق الأوسط، تحديداً في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، إلا إحدى أدوات احتواء العراق وإيران، وتدعيم عملية السلام المحتضرة في الشرق الأوسط.
تتبع أميركا اليوم سياسة خشنة مع تركيا لسببين رئيسين: أولهما، ثنيّ تركيا عن اتخاذ سياسات مستقلة، تعتبرها أميركا غير متوافقة مع مشاريعها في المنطقة، وبالأخص في سورية والعراق. وثانيهما، محاسبة تركيا على اتخاذها سياسة مستقلة عن أميركا وحلف الـ (ناتو) بتقاربها مع روسيا وتعاونها العسكري معها، وبالأخص شراء تركيا منظومة دفاع جوي روسي متطورة، إضافة إلى المشاريع الاقتصادية العملاقة.
وعليه يتعين على الولايات المتحدة مراجعة علاقتها وسياساتها مع تركيا، لأنه لا يمكن لكليهما الاستغناء عن بعض، على المديين القريب والمتوسط، ويجب أن تكون هذه المراجعة منطلقة من إدراك الأهمية الاستراتيجية لتركيا وما تتمتع به من قبول في المنطقة، وضرورة التعامل معها على أساس لما لتركيا في الاستراتيجية الأمريكية المعاصرة. لأن البديل هو ترك فراغ يملؤه الحلف الروسي- الإيراني في المنطقة.
هل هناك مسار للتسوية؟
تعتقد تركيا أنَّ لديها أوراق مساومة قيِّمة، تتضمَّن رادار الإنذار المبكر Kurecik، الذي يُعَد جزءاً مهماً في قدرات الدفاع الصاروخي الباليستي للناتو، إلى جانب قاعدة إنجرليك. ونقل أردوغان قضية شراء صواريخ S-400 الروسية مباشرةً إلى ترامب، في محاولة أخيرة لمنع أو على الأقل تخفيف أي عقوبات قد تُفرَض. وقال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في واشنطن: «العلاقات التركية الأمريكية لا يمكن تجاوزها».
ولكن، ورغم كل ما سبق، تظلّ تركيا حريصة على عدم وصول العلاقات مع الولايات المتحدة لقطيعة كاملة، أو أزمة مستفحلة، ليس فقط بسبب التباين الكبير في موازين القوى ولا فقط خوفاً من تداعيات ذلك السلبية على الاقتصاد تحديداً، ولكن أيضاً لأن تركيا تدرك أنها لا تستطيع الوثوق تماماً بروسيا، وأن تقاربها معها كثيراً واضطراراً وعلى خلفية الأزمة مع الولايات المتحدة سيتيح لها – أي لروسيا – استثمار الموقف وفرض رؤيتها في سوريا، أو في مجال العلاقات الثنائية ما قد يضعف الموقف التركي أمامها، وهو ما لا تريده أنقرة بالتأكيد.
ما الذي تريده أنقرة إذن؟
ستتضح الأمور أكثر خلال والأيام والأشهر القادمة، لكن الأرجح أن تسعى تركيا – بعد ردة الفعل الأولية – إلى تهدئة متبادلة ثم حوار مع واشنطن ينبني عليهما تسوية جزئية أو شاملة لعدد من الملفات الخلافية من بينها ملف S400 بطبيعة الحال. فتركيا لا تريد مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة ولا تريد خسارتها، كما أن الأخيرة تدرك أن مزيداً من الضغوط والتهديدات لن تدفع أنقرة إلا إلى مزيد من العناد والتقارب مع موسكو، وهو الأمر الذي لا تريده تركيا ولا الولايات المتحدة. وعليه، فيمكن توقع تهدئة بشكل أو بآخر بين الطرفين مع الوقت – إلا أن قرر ترمب تجاوز كل الخطوط – تعيد العلاقات إلى سابق عهدها وحالتها الوسطية بين الشراكة والخصومة وتتابع حالات المد والجزر فيها.
قد لا يكون مفاجئاً أيضاً تراجع ترمب عن مسار التصعيد بشكل غير مفهوم، إذ عودنا مؤخراً على قرارات مضطربة وغير متناسقة، وعلى التصعيد الشديد قبل فتح مسارٍ ما للتفاوض، كما فعل مع كوريا الشمالية وإيران مؤخراً، لكن ذلك يبدو احتمالاً ضعيفاً في ظل الظروف الحالية وما سبق شرحه من عوامل على الأقل على المدى القريب.
وسوم: العدد 828