كيف تواجه الأمة الهجمة عليها؟ ( الجزء الأول )
تعيش الأمة العربية والإسلامية فترة حالكة السواد من تاريخها، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق. ولسنا في معرض تعديد مظاهر هذا التردي في حال الأمة، فقد أصبح معلوما بالضرورة لكل ذي عقل وقلب.
هذا التردي لم يكتفِ بهدم البنيان والعمران، بل امتد إلى الإنسان ذاته، بل ذهب إلى أعمق من ذلك؛ إلى السعي الحثيث لاجتثاث البذور والجذور من دين وقيم وأخلاق، التي تقوم عليها المجتمعات، وتبنى بها الحضارات.
ووسط هذه الهجمة الشرسة التي لم يسبق لها مثيل في ضراوتها ووحشيتها، تقف جموع كبيرة من شعوبنا عاجزة عن الفعل، أو يائسة منه، أو نفضت أيديها وانشغلت بنفسها، وبما تحت قدميها.
وتحت وطأة المعركة المحتدمة، تظل هناك فئة قابضة على الجمر هنا أو هناك، ثابتة في الميدان، تقاتل وتكافح في كل سبيل، قد تختلط عليها الأمور، أو تلتبس عليها الأحوال، لكنها ماضية في طريقها، لا يضرها من خذلها.
لكن يظل هناك خلل كبير قائم، وهو أن الجهود مشتتة، والمعارك مبعثرة، وهو ما يجعل كثيرا من هذه الجهود لا تثمر تقدما في الميدان، ولا تعظيما للإمكانات ولا تركيزا للأهداف. وهذا المقال هو محاولة متواضعة للفت الانتباه إلى ما يجب أن يكون.
وبطبيعة الحال لا يكفي مقال، ولا عدة مقالات، ولكنها نقاط مضيئة لإنارة الفكر، وإثراء النقاش، و إنضاج الرؤى لدى المهتمين بشأن الأمة ومستقبلها.
والفئة المستهدفة من هذا المقال هم علماء الأمة ومفكروها وقادة الرأي والعلم بها، والمتصدرون للشأن العام، ثم شباب هذه الأمة؛ فهي تناقش مستقبلهم ومستقبل دينهم وأمتهم خلال الخمسين عاما القادمة على الأقل، وما يجب أن يفعلوه من الآن، إذا أردنا أن نكون أهلا لهذا الدين ولهذه المهمة الجليلة النبيلة.
الاستراتيجيات العليا لصد الهجمة:
أولا: تثوير الإقليم أو أقلمة الثورة:
لا حل حقيقيا ما لم يكن هناك تعاضد وترابط وتوحد بين الأمة، فلا يكفي أن يهتم المصريون بثورتهم، ولا السوريون بمعركتهم، ولا السودانيون بأزمتهم، بل يجب أن تكون هناك غرفة عمليات مشتركة لإدارة الصراع على كل الجبهات، والاستفادة من الخبرات والإمكانيات، وتوزيع الجهود.
فالعدو واحد، والخطة المطبقة على الأمة واحدة، والوسائل ثابتة، وهناك سعي حثيث وجهد في الشر مبذول من حلف الشيطان في القاهرة أو الرياض أو أبو ظبي أو دمشق أو تل أبيب أو واشنطن وغيرهم. فهناك تحالف وتعاضد وتوزيع للجهود والأدوار للقضاء على الأمة، وإماتة كل عوامل النهوض بها.
لقد كتبت في هذا المعنى مرارا منذ بداية ثورات الربيع العربي، وأسميته تثوير الإقليم، أي إن الحل لن يكون قُطريّا، بل إقليميّا. فهذه نقطة عليا في إدارة الصراع، ولا حل لما تواجهه الأمة من وجهة نظري سوى بتوحيد الجهود من المحيط إلى الخليج.
ثانيا: الحفاظ على القلاع الباقية وتقويتها (الدول الحاضنة):
من خلال التجارب المعاشة في عالمنا العربي والإسلامي خلال العقود الماضية، ثبت أن الأكثر صمودا ومرونة في مواجهة الهجمة الشرسة، هي المناطق التي تمتلك السيادة وأدواتها الفاعلة، أو حتى بعضها، وهي: الأرض، والسلاح، والمال، والرضا الشعبي، والعلم والتكنولوجيا، والمعلومات، والطاقة، والموارد.
وكل من افتقد أدوات السيادة هذه لم يستطع الصمود الميداني، وإن حافظ بعضهم على الصمود الأخلاقي المعنوي. وهذه الفرضية التي أطرحها تتطابق مع جميع الكيانات، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، سواء جماعات أو كيانات إرهابية أو جهادية أو سياسية أو اجتماعية أو إسلامية أو علمانية.
فالإخوان المسلمون، كحركة إصلاحية سلمية، لم تستطع الصمود الميداني في أي دولة وجدت فيها؛ بسبب افتقادها مظاهر السيادة، وإن كانت حافظت على صمودها الأخلاقي.
الجماعة الإسلامية في مصر، التي تبنت في بداية عهدها العمل المسلح في مواجهة الدولة، لم تستطع كذلك الصمود الميداني؛ لافتقادها كذلك مظاهر السيادة سالفة الذكر، وإن احتج البعض بامتلاكها السلاح كأحد مظاهر السيادة، فهو بطبيعة الحال احتجاج غير منطقي، إذا ما قورن بسلاح الدولة وقدراتها، فضلا عن افتقادها لمظاهر السيادة الأخرى.
في حالة تنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة (داعش) كانت النتيجة مشابهة، فبرغم امتلاكهم السلاح والتمويل والأرض، إلا أنهم لم ينجحوا ميدانيّا كذلك؛ بسبب الخلل الهائل في ميزان القوى، فضلا عن افتقاد الرضا الشعبي والطاقة والموارد (المستمرة).
على العكس، لدينا نماذج استطاعت الصمود في المعركة بدرجات مختلفة؛ لامتلاكها مظاهر السيادة كاملة، وإن تباينت نسب كل عنصر فيها. فتركيا كدولة امتلكت مظاهر السيادة كاملة، وإن كان بصور أضعف في عنصري الطاقة والسلاح، ولكن وفرة العناصر الأخرى ساعدت في صمود الدولة، والتغلب نسبيّا على نقاط الضعف لديها، حتى أصبحت تصنِّع 80 في المئة من سلاحها، وهي في طريقها لاستكمال الباقي.
قطر امتلكت كذلك مظاهر السيادة كاملة، وإن كانت بصورة أضعف في عنصر الأرض؛ نظرا لطبيعة الجغرافيا، والمحيط العدائي، والقاعدة الأمريكية بها. ورغم أن هوامش مناوراتها ضعيفة في ظل الهيمنة الأمريكية على الخليج، إلا أنها استطاعت الصمود كذلك، والمناورة للبقاء، والتعاطي مع الهجمة.
حركة حماس، رغم انتمائها الفكري لمدرسة الإخوان المسلمين، إلا أنها الوحيدة في فروع الإخوان التي استطاعت الصمود ميدانيّا؛ لامتلاكها كذلك لكل مظاهر السيادة، وإن كان بدرجة أقل في عناصر السلاح والطاقة والتكنولوجيا، لكن باقي عناصر السيادة الأخرى ساعدتها على المناورة والبقاء، رغم المحيط العدائي الكامل لها، الذي يسبقها بمراحل عديدة في مظاهر السيادة جمعاء.
وبناء على الفرضية السابقة، تكون استراتيجية إدارة الصراع في هذه النقطة، هي أنه ينبغي على الأمة الحفاظ على هذه القلاع الباقية، وزيادة تحصينها. ليس بالضرورة أن نكون متفقين معهم في جُلِّ سياساتهم، وليس بالضرورة أن كل ما يفعلونه صواب، بل هناك أخطاء بكل تأكيد، وبعضها كارثي كذلك.
لكننا هنا نتحدث عن الاستراتيجيات العليا، وليس عن نقاط تفصيلية، أو حدث بعينه قد نختلف معهم فيه أو نتفق.
ومهمة الأمة ونخبها الواعية المخلصة هي أن تكون أذرعا وروافد لتقوية القلاع الباقية والحفاظ عليها، مع التأكيد أن النماذج التي ذكرتها هي على سبيل المثال لا الحصر، فلا تزال هناك قلاع أخرى باقية بدرجات مختلفة من الصمود، ودورنا نحوها لا يختلف عن النماذج التي تحدثت عنها.
وهنا قد يتساءل متسائل عن العلاقة الاستراتيجية بين التصدي للهجمة على الأمة والحفاظ على الدول أو الكيانات التي أسميتها بالقلاع الباقية، وهو ما ينقلنا إلى النقطة الثالثة في الجزء الثاني بإذن الله.
وسوم: العدد 834