ثورة أم موقعة الجمل
منير مزيد / رومانيا
أُمَّةٌ تَعِيشُ خَلْفَ جُدْرَانِ الزَّمَنِ الْمُهْتَرِئةِ
تَنْثُرُ بُذُورَ الخَوْفِ فِي أَفْوَاهِ الجِيَاعِ
وَتَقُولُ لَهُمْ:ستَنْمُو السَّنَابِلُ عَلَىٰ أَفْوَاهِكُمْ
وَسيَملأُ الْسُّلْطَانُ جِرَارَكُمْ بِالعَسَلِ وَالحَلِيبِ
حِيْنَ تَتَوَقَّفُ شُمُوعُ الحُلْمِ عَنِ الْكَلاَمِ عَنِ الشَّمْسِ...
منذ بدء الحركة الاحتجاجية على نظام بشار الأسد في 18 آذار/ مارس عام 2011 ، ونحن نسمع عن قرب اِنتِصار الثورة السورية حَتَّى بلغ عدد القتلى والجرحى الذين سقطوا في سوريا، منذ بدء تلك الحركة الاحتجاجية ، نحو مليوني قتيل وجريح تبعاً لآخر إحصائية صادرة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يوثق هذه الحالات، وأشار المرصد أيضاً إلى أكثر من مليون ونصف المليون مواطن سوري قد أصيبوا بجراح مختلفة وإعاقات دائمة، وتشريد أكثر من نصف الشعب السوري، بين مناطق اللجوء والنزوح، وتدمير البنى التحتية مما أدى إلى نقص حاد في الكهرباء والمياه وحَتَّى المواد الغذائية.
هذا الوضع المأساويّ دفع المفوضية العليا للاجئين التابعة لـ«الأمم المتحدة» إلى إِطْلاق تحذيراتها من خطورة الوضع ووصفته «بالمنعطف الخطير» الذي تتخذه الأزمة السورية لأن نحو مليوني سوري تقل أعمارهم عن ١٨ عاما يمكن أن يصبحوا جيلا ضائعاً.
إن مفهوم اِنتِصار الثورة السورية في أيديولوجيّة قوى المعارضة يعني إِسْقاط نظام بشار الأسد ورحيله عن السلطة من دون الخوض في كيفية التخلص من مفهوم الدولة القاهرة أو الدولة البوليسية وتفكيكها ، وكيفية بناء الدولة المدنية وضمان الحرية الفكرية والسياسية والعمل النقابي ،بالإضافة إلى كيفية تعويض كلّ المُتَضَرِّرين من الأحداث، وكيفية التعامل مع كلّ المليشيات المسلحة وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية صاحب مشروع الخلافة . الذي يعتبر ذاته نواة لدولة إسلامية عابرة للحدود يجب أن تنمو.
خطاب تلك القوى لا يزال ضبابياً وملتبساً في مقولاته، فالأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الفكرية والسياسية لا تمتلك مشروعاً قادرا على بناء الدولة الديمقراطية التعددية، وتحقيق العدالة الاجتماعية ، والأهم في هذه المرحلة هو كيفية إخراج سوريا من الازمات والكوارث التي حلت عليها، وايقاف حمام الدم ، ووقف الحرب التدميرية الدائرة رحاها هناك من أجل إنقاذ سورية الوطن والإنسان.
هناك تحديات كبيرة ومشوار طويل لتحقيق أهداف الثورة ، وأمامنا شواهد تقول إن المشور طويل وشاق ومعقد تماماً مثل السير في حقل من الألغام، فالثورة التونسية التي أسقطت الديكتاتور زين العابدين بن علي لا تزال تناضل في سبيل إنجاز الثورة، وتحقيق أهدافها الاستراتيجية ، والديموقراطية الوليدة هناك لا تزال صغيرة وهشة على الرغم من وجود النضج، والعقلانية، والواقعية في خصال الشعب التونسي ، وكذلك الريادة التونسية في شتى المجالات الفكرية والسياسية والدستورية مقارنة مع بقية الدول العربية بينما غرقت ليبيا في صراع دموي، واليمن على شفا حرب طائفية "موقعة الجمل" . أما مصر فقد فشلت الثورة هناك فشلا ذريعاً وعادت الدولة القاهرة أو الدولة البوليسية بنظام فاشي أكثر فاشية من الفاشية مما سيؤدي إلى وجود حاضنة كبيرة للارهاب والتطرف.
لا أدري عن أي اِنتِصار يتحدثون ، المشكلة إن العرب يعشقون ما يريدون سماعه حَتَّى وأن كان مخالفا للعقل أو المنطق أو الواقع لأنهم أعداء الحضارة والفكر الإنساني الحر، وعباد الوهم والنفاق ، تتحكم بهم مفاهيم العصبيات والنعرات القبلية والقومية والطائفية على حساب المواطنة التي تحول المواطن إلى ذات حقوقية وكينونة مستقلة وتحدد حقوق المواطن وواجباته وخدمته لوطنه في أوقات السلم والحرب والتعاون مع المواطنين الآخرين عن طريق العمل المؤسساتي والتطوعي من أجل تحقيق الأهداف الوطنية العليا التي يصبو لها الجميع. فالمواطن يمتلك حقوقاً غير قابلة للأخذ أو الاعتداء عليها من قبل الدولة فهي حقوق مدنية تتعلق بالمساواة مع الآخرين وحقوق سـياسية تتعلق بالمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وحقوق جماعية ترتبط بالشُئون الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
يبقى السؤال الجَوْهَرِيّ : لماذا أصبح العرب على هذا الحال. ..؟
يقول العالم المصري أحمد زويل : " الغرب ليسوا عَباقِرة ونحن أغبياء. هم يدعمون الفاشل حَتَّى ينجح ، ونحن نحارب الناجح حَتَّى يفشل ."
أما أسباب تلك الحرب على الإنسان الناجح أو المبدع فتعود إلى جذور الثقافة العربية، فالقائمون عليها استطاعوا تحويل المؤسسات الثقافية إلى أَوْكار للدعارة الثقافية والاخلاقية من خلال ترسيخ ثقافة التسطيح والتعليب ونشر ثقافة الانغلاق والتعصب والكراهية وسياسة الاقصاء ، وتحويل المنابر الإعلامية إلى دكاكين تتاجر بدم الإنسان العربي وتتلاعب في وعيه.
قال جوزيف جوبلز، وزير الإعلام النازى لدى هتلر : "اعطيني إعلاماً بلا ضمير ، أعطيك شعباً بلا وعي. "
فالشعوب العربية قد أصبحت بلا وعي لا تميز بين الغث والسمين لهذا فشلت ثورات الربيع العربي في حين إن الوضع العربي الحالي ليس أسوء من وضع فرنسا قبل الثورة الفرنسية التي أستطاعت اسقاط النظام الملكي المطلق في غضون ثلاث سنوات والذي كان قد حكم فرنسا لعدة قرون، وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع، كما تم خلالها رفع ما عرف باسم مبادئ التنوير وهي المساواة في الحقوق والمواطنة، والحرية، ومحو الأفكار السائدة عن التقاليد والتسلسل الهرمي والطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية.
أما في الزمن المعاصر، وتحديدا عام 1989 فقد اندلعت ثورات في دول أوروبا الوسطى والشرقية
و أطاحت بالنظام الشيوعي ونجحت في بناء الدولة المدنية لكن العرب فشلوا وذهبوا للتناحر على السلطة.
إذن تتحمل المؤسسات الثقافية والإعلامية مع النظام العربي مَسؤوليّة خراب الشرق الأوسط ودماره وتحويله إلى ساحة حرب دائمة ومتكررة " لموقعة الجمل ". ناهيك عن امتلاك النظام العربي النزوع نحو إبَادَة كلّ المواطنين من أجل البقاء في السلطة . فنظام بشار الأسد في سوريا مستعد إلى إِحْرَاق سوريا وتدميرها بالكامل وإبَادَة الشعب السوري قبل التفكير في التخلي عن السلطة وهذا ينطبق أيضا على القوى الأخرى المناوئة للنظام إقليمياً ودولياً. فلا أحد يفكر في سوريا ومصلحة الإنسان السوري.
بالعودة إلى الثورة السورية فلم تعد هذه الثورة بالمفهوم الحقيقي "ثورة سورية " بل حرب مصالح ونفوذ بين قوى إقليمية ودولية وجدت في الأرض السورية ساحة لتصفية حساباتها. وهذا يعني لا يمكن الوصول إلى حل للأزمة السورية في داخل البيت السوري بل بتوافق كلّ القوى المتحاربة على الأرض، وبالتالي لن يخرج أحد منتصراً أو مهزوماً في موقعة الجمل المعاصرة مهما بلغت التكاليف. أما الخاسر الأكبر في هذه الموقعة فهو الإنسان السوري.
على الشعوب العربية أن تُعيد حساباتها على قاعدة الوعي العميق لأهمية مفهوم بناء الدولة المدنية وعدم الوثوق بالشعارات والوعود الدينية في حل مشاكل الدول العربية . فبناء الدولة المدنية هو الحل أي دولة تحافظ وتحمي كل أعضاء المجتمع بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينة أو الفكرية، ودولة تستند على مبادئ المواطنة والعدالة والتعددية السياسية والايديولوجية واحترام حقوق الإنسان إذ يرى المحامي السوري باسيل يوسف إِن حقوق الإنسان (تمثل تعبيراً عن تراكم الاتجاهات الفلسفية والعقائد والأديان عبر التاريخ لتجسد قيم إنسانية عليا تتناول الإنسان أينما وجد دون أي تمييز بين البشر لا سيما الحقوق الأساسية التي تمثل ديمومة وبقاء الإنسان وحريته).
قال الإمام الحُسين بن علي عليه السلام : إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما "
لهذا على مؤسسات المجتمع المدني البدء في إِعْدادِ لربيع أبيض قبل انقراض الحضارة العربية، والدعوة إلى مسيرات سلمية مناهضة للإرهاب وللشعارات الطائفية في كلّ العواصم العربية ، مطالبةً باسقاط كلّ الأنظمة العربية ورافعة شعارات ﺍﻟﻌﻴﺶ ﻭﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﻌﺪﺍﻟﺔ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴﺔ ﻭﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ.
وفي الختام ، أود التأكيد على أن نجاح أي ثورة مرتبط بقوة الوعي في ضرورة رفض الحياة مع الظالمين وسيادتهم ومرتبط أيضاً بقوة المجتمع المدني وتاثير ذلك على توازن المجتمع بكل مؤسساته وانشطته .