حماية الحق في تكوين الأسرة
مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات
تعد الأسرة المكون الأساسي واللبنة الأولى للمجتمع إذ يتكون الأخير بتجمع الأسر مع بعضها البعض، وكانت الأسرة ومنذ فجر الإنسانية السبب في ازدهار الحضارات المختلفة.
وتكوين الأسرة غاية حرصت السماء على إقامتها وفق أسس صحيحة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء)، وقال:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، والآيات المباركة تشير إلى تساوي الأفراد رجالاً ونساءً في أصل الخلق ما يؤهلهم لتكوين أسر وفق رابطة الزواج الشرعي، كما قام المشرع الإسلامي بتحديد حقوق وواجبات كل فرد في الأسرة بشكل دقيق وبالرجوع إلى رسالة الحقوق للأمام زين العابدين عليه السلام نرى أنه حدد حقوق الأب والأم والولد بشكل دقيق ونقتبس منها قول الأمام عن حق الأب "وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، وأحمد االله وأشكره على قدر ذلك".
وللأسرة معنيان أحدهما ضيق يقف عند الحلقة القريبة المتمثلة بالزوجين والأولاد والمعنى الواسع الذي يتسع باتجاه الأجداد والأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وكلا المعنيين مهم لإرتباط الحل والحرمة في إبرام عقد الزواج والتوارث بهما دون تمييز، والأسرة عموما هي جماعة من الأفراد تربطهم رابطة القرابة الناشئة عن النسب والبعض يصفها بأنها رابطة إجتماعية قوامها الترابط الإنساني المتأتي من زواج شرعي أنتج رابطة بين الزوج والزوجة، والحق في تكوين الأسرة يعد أحد أهم الحقوق الطبيعية للإنسان التي لا تحتاج إلى نص يقرها كون هذا الحق يعد مرتبطاً بالإنسان بما هو إنسان يأنس بالآخرين ويعيش معهم ولا يطيق حياة العزلة، لهذا القرآن الكريم يحدثنا أن آدم عليه السلام اقترن بزوجة بشكل مباشر بعد أن خلقه الله تعالى (وَقُلْنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا).
وللحق في تكوين الأسرة معنى عالمي تأسس بشكل خاص بعد ما لاقته البشرية من ويلات الحربين العالميتين وولادة منظمة الأمم المتحدة التي تتلخص أهدافها في تخليص الإنسانية من ويلات الحرب التي دمرت الشعوب وسحقت الناس، وبدأت منذ أربعينيات القرن الماضي مسيرة التأسيس لقواعد قانونية ضامنة لحقوق الإنسان ومنها الحق في تكوين الأسرة الذي نال الاهتمام الأوفى وسنعرض لبعض النصوص التي أسست لهذا المعنى الإنساني وكالآتي:
1- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 الذي أورد في المادة (16) ما نصه (للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ حق التزوج وتأسيس أسرة دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين.....) واعتبر الإعلان في البند الثالث من المادة السادسة عشرة ان الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة، وهذا يدل بجلاء ان الحماية من مهام المجتمع ذاته في الدفاع عن الأسرة التي تعد المكون الأول له وعلى صلاحها أو فسادها يتقرر مصيره.
2- وأكد العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للعام 1966على الحق في تكوين الأسرة إذ وردت بالمادة (23) من العهد الأول نصوص بذات المعنى الذي أشرنا إليه في الإعلان العالمي أعلاه أما العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية فقد تضمن المعنى ذاته بعبارات مختلفة، حيث ورد فيه ما نصه (وجوب منح الأسرة التي تشكل الوحدة الجماعية الطبيعية في المجتمع، أكبر قدر ممكن من الحماية والمساعدة، وخصوصاً لتكوين هذه الأسرة وطوال نهوضها بمسؤولية تعهد وتربية الأولاد الذين تعيلهم)، كما اهتمت المادة (17) من العهد الخاص بالحقوق المدنية بـضرورة حظر التدخل التعسفي أو غير المشروع في شؤون الأسرة، والمادة (24) من العهد ركزت على حماية حقوق الطفل بصفته صغيراً وعضوا في الأسرة.
3- وورد في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان 1950 التأكيد على حق تكوين الأسرة في مادتها (12) والتي تنص على أنه (للرجل والمرأة في سن الزواج حق التزوج وتكوين أسرة وفقاً للقوانين الوطنية التي تحكم ممارسة هذا الحق).
4- كما تضمن الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان لسنة 1948 الصادر بالقرار رقم (30)، الذي اتخذه المؤتمر الدولي التاسع للدول الأمريكية المادة (6) التي قضت بأن (لكل شخص الحق في تكوين أسرة، العنصر الأساسي للمجتمع والحصول على الحماية لها).
5- واعتبر نظام روما الأساس لعام 1998 الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في المادة (8) ان منع الإنجاب "التعقيم القسري" يعد من جرائم الحرب كونه يمس الحق في تكوين الأسرة.
إلا أن الملاحظ إن مفهوم الأسرة يختلف بين دول العالم الإسلامي والدول الغربية التي تسالمت على مفهوم شاذ للأسرة يسمى بـالأنماط الأسرية المتعددة أو المختلفة أي هو الاعتراف ان الأسرة لا يشترط تكونها من ذكر وأنثى يرتبطان برابطة مشروعة بل قد تتكون من ذكور فقط أو إناث فقط أضف إلى ذلك العلاقة بين الرجل والأنثى خارج رابطة الزواج وهذا الأمر أنتج تحديات عدة تتعلق بالإنجاب والنسب والإرث وغيرها ممن لا يسوغها المشرع الإسلامي إلا إن كانت ناتجة عن علاقة شرعية، والمؤسف أن الكثير من الدول الأوربية والغربية أجازت هذه الأنماط الشاذة المنافية للفطرة الإنسانية السليمة والشرائع السماوية جميعاً.
وكان المشرع العراقي موفقاً في قانون الأحوال الشخصية رقم (188) لسنة 1959عندما عرف الزواج في المادة الأولى بأنه (عقد بين رجل وامرأة تحل له شرعا غايته إنشاء رابطة للحياة المشتركة والنسل)، فالإنجاب والنسل ليس نتيجة للعقد فحسب بل هو حق مكمل للحق بتكوين الأسرة، كما اهتمت الاتفاقيات الدولية بموضوع الأسرة بشكل خاص إذ أكدت اتفاقية سيداو 1979 الفقرة (2) من المادة (4) أن التدابير الخاصة التي تتخذها الدول الأطراف لحماية الأمومة ليست من باب الإجراءات التمييزية ذلك يعني أن أي إجراءات تستهدف حماية الأمومة لا تعتبر من قبيل التمييز المحظور، وما تقدم شيء إيجابي إذ إن إظهار أهمية الأمومة ودعمها غاية سامية تستحق الوقوف عندها ولابد من التأكيد عليها والحرص على إنجاحها وتدريب البنات غير المتزوجات على أصولها ليكون ذلك سبب لنجاح الأسرة في المستقبل ودافع للمرأة نحو الزواج والإنجاب.
كما ركزت الاتفاقية على منح المرأة الفرصة الكاملة والحق في اختيار الزوج بعيداً عن الضغوط التي تحد أو تنتقص من حريتها، ولما صادق العراق على الاتفاقية بالقانون رقم (66) لسنة 1986 تحفظ وكأي دولة إسلامية على بندين وردا في المادة الثانية والتاسعة الأول تعلق بحرية الزواج من قبل المرأة بأي رجل بغض النظر عن دينه والسبب في التحفظ أن ذلك يتعارض مع ثوابت الشريعة الإسلامية الغراء فالسماح لغير المسلم بأن يتزوج بالمسلمة يعني ولايته عليها، الأمر الذي قد يتسبب في تغيير ديانتها أو إنجابها لأطفال غير مسلمين وما تقدم لا يتفق مع النص القرآني ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا﴾، كما تحفظ على منح الأم الجنسية لأولادها الوارد بالمادة (9) من الاتفاقية إلا أن قانون الجنسية العراقية الحالي رقم (26) لسنة 2006 أزال هذا التحفظ حيث ورد بالمادة (3) منه أنه (يعتبر عراقياً من ولد لأب عراقي أو لأم عراقية).
والحق في تكوين الأسرة وفق القانون العراقي مكفول بالدستور الذي صوت عليه الشعب العراقي العام 2005 وأمسى القانون الأسمى في البلاد والذي يقضي في المادة (29) بأنه ((أولاً/ أ- الأسرة أساس المجتمع، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية، ب- تكفل الدولة حماية الأمومة والطفولة والشيخوخة، وترعى النشئ والشباب وتوفر لهم الظروف المناسبة لتنمية ملكاتهم وقدراتهم.
ثانياً/ للأولاد حقٌ على والديهم في التربية والرعاية والتعليم، وللوالدين حق على أولادهم في الاحترام والرعاية، ولاسيما في حالات العوز والعجز والشيخوخة) وفيما تقدم وصف دقيق للأسرة بأنها أساس المجتمع، والتزامات محددة تضمنتها قواعد أمرة للسلطات العامة في العراق بان تحافظ على الأسرة وكيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية.
ولا مفر من الاعتراف ان المؤسسات العامة في العراق خطت خطوات بهذا الاتجاه وأقرت العديد من القوانين ومنها قانون الحماية الاجتماعية رقم (11) لسنة 2014 وغيره إلا أن الخطوات الحكومية لازالت ثقيلة ومتثاقلة نحو تحقيق العدالة والمساواة بين الأسر العراقية جميعا ونحو توفير الضمان الصحي والاجتماعي الذي أوجبته المادة (30) من الدستور والتي تنص على أنه (أولاً/ تكفل الدولة للفرد وللأسرة ـ وبخاصة الطفل والمرأة ـ الضمان الاجتماعي والصحي، والمقومات الأساسية للعيش في حياةٍ حرة كريمةٍ، تؤمن لهم الدخل المناسب، والسكن الملائم.
ثانياً/ تكفل الدولة الضمان الاجتماعي و الصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم، وينظم ذلك بقانون)، فلم يصدر قانون الضمان الصحي والاجتماعي المنوه عنه أعلاه بل ان السلطات العامة وبخاصة الوزارات المعنية بشؤون الأسرة بشكل مباشر كوزارة العمل والشؤون الاجتماعية ووزارة الصحة لم تأخذ دورها الحقيقي في التغلب على صعوبات الحياة التي تعترض حق الشاب العراقي في تكوين الأسرة وبخاصة الشباب العاطل عن العمل، ولم يبدٍ البرلمان العراقي اهتماماً حقيقياً بتشريع القوانين التي توفر مظلة الضمان الاجتماعي للجميع بعيداً عن التمييز أياً كانت صورته، فعلى سبيل المثال المصارف العراقية وبدل ان تأخذ زمام المبادرة وبتدخل من المشرع بمنح المقبلين على الزواج منح مالية تسهم في سد جانب من التكاليف ذهبت باتجاه منحهم قروضاً تستوفى منهم بعد حين بما يثقل كاهل البعض منهم لاسيما العاطلين عن العمل.
كما ان قانون الأحوال الشخصية العراقي ضمن الحق في تكوين الأسرة في عدة موارد منها الأحكام التي أوردتها المادة (9) والتي تنص على (1- لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار إكراه أي شخص ذكر كان أو أنثى على الزواج دون رضاه، ويعتبر عقد الزواج بالإكراه باطلاً إذا لم يتم الدخول، كما لا يحق لأي من الأقارب أو الأغيار منع من كان أهلاً للزواج بموجب أحكام هذا القانون من الزواج.
2- يعاقب من يخالف أحكام الفقرة (1) من هذه المادة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات، وبالغرامة أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا كان قريباً من الدرجة الأولى، أما إذا كان المخالف من غير هؤلاء فتكون العقوبة بالسجن مدة لا تزيد على عشرة سنوات، أو الحبس مدة لا تقل عن ثلاث سنوات)، كما أن قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل تضمن العديد من النصوص الضامنة للحق بتكوين الأسرة أو لاستمرار التمتع بهذا الحق فقد ورد بالمادة (376) من الفصل الرابع المعنون بالجرائم التي تمس الأسرة أنه (يعاقب بالسجن مدة لا تزيد على سبع سنوات أو بالحبس كل من توصل إلى عقد زواج له مع علمه ببطلانه لأي سبب من أسباب البطلان شرعا أو قانونا وكل من تولى إجراء هذا العقد مع علمه بسبب بطلان الزواج.
وتكون العقوبة السجن مدة لا تزيد على عشر سنين اذا كان الزوج الذي قام في حقه سبب البطلان قد اخفى ذلك على الزوجة أو دخل بها بناء على العقد الباطل) والمادة المتقدمة تحمي الأسرة والحق بتكوينها قبل إبرام عقد الزواج خشية ان تقع مخالفة للقواعد الشرعة والقانونية، حيث تمنع المادة المتقدمة الرجل أو المرأة من إبرام العقد ان وجد مانع شرعي كالنسب أو المصاهرة فهنالك نساء محرم على الرجل ان يتزوجها بسبب قرابة نسبية أو بالمصاهرة حرمة دائمة أو مؤقتة، وقد يكون المانع قانوني كما لو كان الرجل أو المرأة يعاني من أمراض سارية أو انتقالية أو غيرها كمرض الإيدز فيخفي ذلك على الطرف الثاني ويقع الزواج فينتقل المرض للطرف الأخر ويتسبب بموته أو تضرره بشكل فاحش.
كما إن المادة (377) تنص على إن (يعاقب بالحبس الزوجة الزانية ومن زنا بها ويفترض علم الجاني بقيام الزوجية ما لم يثبت من جانبه انه لم يكن في مقدوره بحال العلم بها، ويعاقب بالعقوبة ذاتها الزوج إذا زنا في منزل الزوجية) وليضمن المشرع العراقي نوع من الحماية للأواصر الأسرية أشترط في المادة (378) لتحريك دعوى الزنا ضد أي من الزوجين أو اتخاذ أي إجراء يتعلق بهذه الجريمة تقديم شكوى من الزوج الأخر، كما لا تقبل الشكوى في الأحوال التالية:
أ- إذا قدمت الشكوى بعد انقضاء ثلاثة أشهر على اليوم الذي اتصل فيه علم الشاكي بالجريمة.
ب- إذا رضي الشاكي باستئناف الحياة الزوجية بالرغم من اتصال علمه بالجريمة.
ت- إذا ثبت إن الزنا تم برضى الشاكي، ويقصد بالزوج لتطبيق حكم هذه المادة من تتوافر فيه هذه الصفة وقت وقوع الجريمة ولو زالت عنه بعد ذلك، ويبقى حق الزوج في تحريك دعوى الزنا الذي ترتكبه زوجته إلى انتهاء أربعة أشهر بعد طلاقها، أما المادة (380) فقد عاقبت بالحبس كل زوج حرض زوجته على الزنا فزنت بناء على هذا التحريض).
من كل ما تقدم نعتقد إن الوقت قد حان لتلتفت السلطات العامة والجهات المعنية في المجتمع إلى الحق بتكوين الأسرة في العراق بما يحفظ كيان المجتمع العراقي ويضمن ديمومة هذه الرابطة الإنسانية المقدسة، ويكفل للأفراد جميعا الحق في حياة حرة كريمة.
وسوم: العدد 840