الجنة الفرنسية للمرأة العصرية!
امرأة خمسينية تسير في الشارع وتتعثر في مشيتها من ثقل حقيبتَيْ سفر تجرهما في أحد شوارع مدينة سياحية فرنسية، عرضتُ عليها المساعدة، وبينما أسير معها نحو وجهتها كان يسير أمامنا بخفة رجل يجر حقيبة واحدة صغيرة، اكتشفت بعد وصولي لوجهتها أنه زوجها، وعرفتني عليه بكل فخر وابتسامتها تعلو وجهها، وهي لا تشعر إطلاقاً بما أشعر به من غيظ تجاه زوجها الذي تركها تجر حقائبها الثقيلة مكتفياً بجر حقيبته هو، ثم تبادلنا التحية وانصرفت.
في جلسة سمر في المساء ذكرت الموقف لأصدقائي، فتقاطرت الروايات المشابهة، ومنها رواية نقلاً عن مهاجر عربي يعمل في توصيل الطلبات للمنازل، يلتزم بتوصيل الطلبات لباب الشقة ويستلمها أهل البيت، يقول إنه في العادة النساء هن من يقمن باستقبال الطلبات، بينما أزواجهن أو رفقاؤهن يكونون متكئين على الآرائك، وذات مرة كان يوصل كرتونة مياه كبيرة وثقيلة، وفتحت الباب امرأة حامل في شهورها الأخيرة، أشفق صاحبنا عليها حين همت بحمل الكرتونة، فعرض عليها مساعدتها في حمل الكرتونة لداخل المطبخ، وفي طريقه للمطبخ حياه زوجها أو رفيقها المتكئ على الأريكة وكأن الأمر لا يعنيه، شكرت المرأة صاحبنا وسألته سؤالاً ذا دلالة: أنت عربي أم تركي؟!
هذه الأفعال المُستَغربة وفق ثقافتنا تدخل في إطار المساواة بين الرجل والمرأة في الغرب، فهي عقد اجتماعي يوزع أعباء الحياة بالتساوي، وبالورقة والقلم، كل منهما يتحمل مسئولية نفسه ومتطلباته، وإذا دخلا المطعم يسحب الرجل (الجنتلمان) الكرسي لرفيقته بكل أدب وذوق، حتى إذا انتهيا من طعامهما قام كل منهما بدفع فاتورة ما أكله.
والجنسان متساويان تماما أمام القانون ولهما حقوق متساوية، ولكن في سوق العمل يختلف الراتب باختلاف الجنس لصالح الرجل رغم التساوي في المؤهلات!
وإذا انتقلنا إلى الطرف الثاني من الكرة الأرضية في الشرق الأقصى حيث ما يسميه علماء الاجتماع "المجتمع الأمومي".. في رحلتي لكمبوديا وفي طريقي من العاصمة "بونم بنة" إلى المدينة التاريخية "سيم ريب" كان بصحبتي شاب جامعي مسلم حديث التخرج أخبرني بأنه خاطب فسألته: متي الزواج؟
فأجاب: حين تأذن والدة العروس !
قلت له: وهل والدها متوفى؟
قال: لا، الكلمة في هذه الأمور للأم وليس للأب!
فمن عاداتنا المستقرة هنا أن الزوج ينتقل للعيش في بيت أم الزوجة (فالبيت هو مِلك الأم وليس الأب).
وأم الزوجة هي التي تتولى إدارة شئون البيت كاملة.
سألته: وما دور زوج البنت في عائلته الجديدة؟
قال: الزوج يعمل في خدمة أم الزوجة في الزراعة أو الصيد أو قطع الأخشاب أو أي وظيفة، وإن كان موظفاً يقدم لها راتبه كاملاً للمساهمة في مصروفات العائلة، ويأخذ مصروفه من والدة الزوجة!
ولا يستطيع تغيير مكان عمله أو وظيفته دون إذن من زوجته وأمها، وما زال في بلادنا (كمبوديا) بعض العائلات ينتقل فيها الإرث من الأمهات إلى أبنائهن الإناث دون الذكور (انتهى كلام صديقنا الكمبودي).
طافت بي تلك الأفكار وأنا تحت سطوة استفزاز متابعتي المستمرة لأجهزة الإعلام الغربية والفرنسية منها على وجه الخصوص، وما تنضح به من استعلاء الغرب بثقافته على سائر الثقافات، خاصة ثقافتنا العربية والإسلامية، وخاصة في موضوع المرأة على اعتبارهم نموذجاً للمساواة بين الجنسين في مقابل مجتمعاتنا الذكورية التي تمتهن المرأة وتجعلها مجرد أداة استمتاع.!
عقدة الغرب أنه يتوهم أن تفوقه الحضاري في هذه الحقبة الزمنية التي نعيشها تعطيه الحق في فرض نمطه الثقافي على العالم، وعلى العالم أن يستسلم للعولمة الثقافية كما رضي بالعولمة الحضارية، وهذا هو الغرور والحمق بعينه؛ فجمال هذا الكون في تنوعه، وهكذا خلقه وأراده خالق الكون .
وليس معنى هذا أننا نحن -العرب والمسلمين- واحة العلاقة المثالية بين الرجل والمرأة؛ فنحن في عصرنا هذا تفصلنا مسافات بعيدة عن إعلاء القيم الإنسانية بصفة عامة.
ولكن؛ لنا ديننا وقيمنا وثقافتنا الأصيلة التي نرتكز عليها في تطوير مجتمعاتنا نحو الأفضل إنسانياً، دون تقليد شرق أو غرب، أو السعي نحو طمس هوية غيرنا من شرق وغرب.
وسوم: العدد 842