سماحة المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان متحدثاً في مؤتمر باريس للتضامن والسلام
لا بدّ من مقدّمة للدخول في صلب الموضوع، فالموضوع من الحساسية الدينية بمكان يجعله في مواجهة مع الخطوط الحمراء التي يتحصّن خلفها الكبار وكل صاحب لقب ومقام، وما أكثر الألقاب والمقامات في مجتمعنا، فكيف يجرؤ من ليس في عداد هؤلاء، والسلامة تقتضي منه الإنكفاء، على الرغم من الحق البيّن والمبيّن في الشكل والأساس، والمدعوم بالأسانيد والآيات، ينكفئ رغم علمه بأن الساكت عن الحق شيطان أخرس.
فهل الى خروج من سبيل؟ هل من نافذة أو باب لتعطيل مناعة وحصانة هؤلاء للنفاذ الى تطبيق «قاعدة وقفوهم إنهم مسؤولون»؟!
وما من شك ثمّة سبيل للتعطيل والنفاذ، فالخطوط الحمراء بدعة تسقط وتتهاوى على مذبح الأخطاء المميتة والأهواء، ولا نغالي إذا قلنا بذلّات وفلتان اللسان، إنها تتهاوى وتسقط بما تفوّق وقفز فوق العجب العجاب، فما نقرؤه تهتز له أهداب العيون، وما نسمعه يخترق مكامن اللامعقول، وما نراه يستفزّ المشاعر في النفوس.
ولقد اجتهدت مرجعيتنا الدينية، ونعتبرها ومواقفها حصن من حصون مقدّساتنا الإسلامية، وفي مقدّمتها القدس والقضية الفلسطينية، وما صدر عنها في مورد الثوابت غير جائز أمام صراحة النصوص القرآنية، اجتهدت هذه المرجعية، ولكن سهم اجتهادها أصابها وأصابنا وأصاب الأمة، وكم كانت بغنى عن الوقوع في فخّ ما يجري الترويج له من تخرّصات تجتاح في هذا الزمن الرديء عقولنا وأفكارنا وما استقرّ نهج الأمة عليه في محاولة للنيل من ثوابتنا الإسلامية والوطنية.
تساؤل مشروع
ونتساءل، هل ان مردّ هذا الاجتهاد انه أطلق في أحد العواصم الأوروبية، فهو برسم الغرب الذي لم تعد لنا هموم معه سوى أن يرفع عنّا اتهامه لنا زورا بمعادات السّامية، وهو الذي يدوس بأقدامه مباشرة أو عبر ربيبته إسرائيل كرامتنا ومقدّرات وثروات أمتنا؟!
ففي مؤتمر انعقد في العاصمة الفرنسية باريس تحت عنوان «المؤتمر الدولي للتضامن والسلام»، أدلى سماحة مفتي الجمهورية، والدقة تفرض علينا أن نقول بأنه نسب إليه، مع انه لم ينفِ ما نشرته الصحف على لسانه، أدلى: «في موضوع الديانات الإبراهيمية والإلتزام المشترك للقضايا الإنسانية، يعلم الجميع ان علماء المسلمين واصلاحييهم من قرن ونيّف الى الإصلاح والتجديد في شتى نواحي الحياة...». وأضاف: «نحن أهل الديانات الابراهيمية، ماضون ومن طريق توثيق العلاقات في ما بيننا الى إلتزام مشترك وقويّ بالقضايا الإنسانية بالسلام والتضامن والأخوة».
ناهيك عن تطرّق سماحته الى: «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان».
وفي البدء، لا بد من التذكير لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وليس للضالين الذين عاثوا في الأرض فسادا وإرهابا، لا بد من التذكير بأن أمتنا الإسلامية وفي إطار ما هو من الثوابت المحكمة في الشريعة الإسلامية، كانت ولا تزال تدعو للعيش المشترك مع الأقليات الدينية والعرقية سندا للقاعدة المبيّنة في الآية الكريمة رقم /8/ من سورة الممتحنة: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ* إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.
ان هذه الأمة بإستثناء بعض الفرق الشاذّة والمضلّلة والخارجة عن صحيح الدين فتحت ذراعيها للحوار الإسلامي - المسيحي توخيا للعيش المشترك، ولبث روح العدل والبرّ والتسامح، وهذا ما دأب عليه سماحة المفتي سواء في مواقفه أو في رعايته وتوجيهاته للجنة الحوار الإسلامي - المسيحي، وذلك سندا لهذا النص وسواه من النصوص القرآنية التي ترعى العلاقات والعمل على توثيقها بين المسلمين والمسيحيين.
وهذا ما يدعونا الى التوقف عند الذين يستشهدون بالآية الكريمة رقم /46/ من سورة العنكبوت: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ...}، فهؤلاء يردون في هذا السياق، سياق «الديانات الابراهيمية»، الشطر الأول من الآية، وبات على أفواههم كاللازمة، وهم كثر لكنهم يتغافلون عن شطرها الثاني الذي يحرّم الجدال - وتوثيق العلاقات - مع الذين ظلموا منهم، وأي ظلم أدهى وأمرّ من ظلم الذين خصّهم سماحة المفتي في خطابه في المؤتمر الباريسي لتوثيق العلاقة معهم، ذلك بأن العلاقات الإسلامية - المسيحية لا تشوبها شائبة، واتباع هاتين الرسالتين الحوار بينهم جار على قدم وساق، ولا موجب لمزيد من الكلام عن عيشهم المشترك.
من هنا، وعلى الرغم من ان خطاب سماحته شمل الرسالات السماوية الثلاث، فانه ومن دون اللبيب الذي يفهم من الإشارة، الجميع فهم ان الخطاب لم يكن المقصود منه لا المسلمين ولا المسيحيين.
أما القفز غير المبرر واللاشرعي فوق المعادلة الإسلامية - المسيحية، وفتح الأبواب باتجاه الخطأ الجلل، وتسمية الأمور بغير أسمائها، في ما سمّي على لسان سماحته «الديانات الابراهيمية» والصواب الرسالات السماوية، ففيه اجتهاد لا سند له من الشرع يفتي بتعطيل نص النهيّ المحكم عن إقامة هذه العلاقات ناهيك عن توثيقها مع من يستبيح الأرض ويحتلها ويهتك العرض ويدنّس المقدسات ويحتلّ الأرض ويقتل الشيوخ والنساء والأطفال ويدمّر الممتلكات.
توثيق مرفوض
وهل نتجنّى إذا قلنا بان الدعوة لتوثيق العلاقات هذه تنطوي وتستبطن من حيث لا يدري سماحته ولا يريد، التمهيد للانخراط في صفوف الداعين الى التطبيع الذي ما انفك سماحته يندّد به في المجالس والمناسبات.
نعم ان هذا التوثيق للعلاقات مع «الديانات الابراهيمية» يحمل في طياته فتوى بتعطيل النهي المبيّن في الآية رقم /9/ من نفس سورة الممتحنة نفسها: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}.
ومن المعلوم ان الوحيد الذي تجرّأ في هذه الأمة على التعطيل هو عمر بن الخطاب، وما أدراك ما عمر، تجرّأ في أمرين، وقف حدّ السرقة في عام المجاعة ومنع الزكاة عن المؤلفة قلوبهم.
اننا نسجل أشدّ الاستغراب تلاوة سماحته، المعروف نهجه ودينه، تلاوته في المؤتمر الباريسي لهذا الخطاب الذي وضع بين يديه، والذي أنتج هذه السقطة التي استهدفته واستهدفت مسيرته لأن الحديث عن «الديانات الابراهيمية» لا يمكن أن يفهم منه إلا إقحام اليهود الصهاينة الذين تخلّوا عن التوراة ويتبعون التلمود وباتوا إلا القليل منهم ينفذون وصايا حكماء صهيون.
وان كل من قرأ عن مقولة «الديانات الابراهيمية» من العسير أن يدرجه تحت قاعدة: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد».
وكيف لا، كيف لا يدرج وقد باتت الرسالات السماوية التي أنزلها الله على أنبيائه منسوبة الى النبي إبراهيم عليه السلام، فتبدّلت من اليهودية والنصرانية والإسلام وأصبحت ابراهيمية، وذلك على الرغم من صراحة الآية الكريمة رقم /67/ من سورة آل عمران: {مَا كَانَ إِبْرَهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ}.
أما عن كوننا من أهل «الديانات الابراهيمية» فعلينا إيراد ما ورد في محكم التنزيل في الآية /128/ من سورة البقرة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
أضف الى ذلك، فان هذا الوضوح في الآيات، رفضا لتسمية الرسالات السماوية بـ «الديانات الابراهيمية»، ان الفقهاء أجمعوا بعدم جواز تسمية المسلمين بالمحمديين. وأخيرا، ان سماحة المفتي الذي نقدّر، مدعو لإعادة النظر وانعامه بما أدلى به عن «الديانات الابراهيمية» لما نعهده فيه من حكمة ولعلمه بأن الرجوع عن الخطأ... مع اننا نتحدث عن ما هو أشدّ منه، نتحدث عن أمر عقدي... بان الرجوع فضيلة.
أما ما ورد على لسان سماحته عن «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» فنتناوله في مقالة أخرى.
وفي الختام، نسأل الله أن يوضع الخطاب الذي ألقاه سماحته في باريس على مسامع الأوروبيين في إطار الحديث الشريف: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
وسوم: العدد 845