هل يعقل أن يتهم أو يجرم القائل بما جاء في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟
قبل الخوض في هذا الموضوع يحضرني ما حدثني به أحد الفضلاء ذات يوم عن طبيب مختص في جراحة الدماغ دعا عالم دين ليناظره في قول الله تعالى : (( لهم قلوب لا يفقهون بها )) وكان يرى أن الدماغ هو الذي يفقه وليس القلب ، علما بأن كلمة قلب في اللسان العربي تطلق على العقل أيضا ، فرد عالم الدين على دعوته بالقول :لست أنا قائل هذا الكلام لتناظرني فيه .
كثر هم الذين يرغبون في مناظرة غيرهم في كثير من كلام الله عز و جل، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على طريقة هذا الطبيب ، وتكون في الغالب خلفيتهم هي الاعتراض على حقائق الوحي قرآنا وسنة والتشكيك في مصداقيتها أو لنقل لبث الشك فيها لدى الناس . وغالبا ما يعتمد مثل هؤلاء أسلوب اتهام من يقول أو يعتقد بما جاء في الكتاب والسنة . ويتوجه الاتهام إما إلى الطعن في العلم الصحيح بهما أو بالقول بسوء استعمالهما أو توظيفهما .
والحقيقة أن الذين يمارسون هذا الاتهام لهم خلفيات إيديولوجية أو سياسية أو حزبية أو طائفية يحاولون إما الدفاع عنها أو تبريرها عن طريق أسلوب اتهام غيرهم بسوء فهم الوحي كتابا وسنة أو الجهل بهما أو بسوء توظيفهما . والغريب أن هؤلاء أنفسهم يوظفون هذا الوحي دفاعا عما يعتقدون أو تبريرا لما يعتقدون ، ولا يرون في ذلك ما يستدعي انتقادهم كما ينتقدون هم غيرهم ، وكأنهم وحدهم الذين يملكون الحقيقة والفهم الصائب للوحي ، بينما غيرهم إنما يخبط خبط عشواء في اعتقادهم.
ولقد سبق أن أشرنا في مقال سابق أن السبب الرئيسي في حدوث الخلاف العقدي في الأمة الإسلامية كان سياسيا محضا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحديدا بعد مقتل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث لجأت الأطراف المختلفة في أمر الخلافة إلى القرآن والسنة لتبرير كل طرف وجهة نظره أو لنقل لإضفاء المصداقية الدينية عليها . واستمر الأمر على هذه الحال ولا زال، وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة .
ودون أن نستعرض مراحل التاريخ الإسلامي لتأكيد هذه الحقيقة لأن الموضوع يحتاج إلى وقت طويل ومؤلفات كثيرة ، سنركز على استعراض اللحظة الآنية التي تعرف صراعات سياسية كبرى كانت قبل الربيع العربي ، وازدادت حدتها بعده لما وصلت أحزاب تتبنى المرجعية الدينية لأول مرة إلى الحكم على إثر انتفاضة الشعوب العربية ضد فساد أنظمتها، وهو أمر لم تستسغه الأنظمة التي ثارت عليها شعوبها ، كما أنه لم تستسغه القوى العظمى التي من مصلحتها أن تظل تلك الأنظمة ماسكة بزمام الأمور حرصا على مصالحها .
ولقد اندلع جدل فكري مرتبط بالإسلام على إثر الإجهاز على حزب الحرية والعدالة المصري التابعة لحركة الإخوان المسلمين عن طريق انقلاب عسكري دموي باركه الغرب و باركته أنظمة عربية وتحديدا خليجية كانت تخشى من أن تلحقها لعنة ثورات الربيع العربي، و تخشى تحديدا من وصول أحزاب ذات مرجعية إسلامية إلى مراكز صنع القرار ، وهو استمرار للجدل الفكري الذي بدأ إبان الفتنة الكبرى واستمر في كل العصور التالية .
ولقد تبنى الغرب الحريص على مصالحه في الوطن العربي وعلى رأسها دعم الكيان الصهيوني المحتل لقلب الوطن العربي النابض والتمكين له فيه فكرة رفض وصول أحزاب ذات مرجعية إسلامية إلى الحكم ، وقرر أن يتخذها عدوا يحارب، وأوعز إلى الأنظمة العربية التي تخدم مصالحه بمحاربتها بلا هوادة ، وأوجد لذلك ذريعة ، فصنع عصابات إجرامية مكونة من مرتزقة يرتكبون جرائم فظيعة باسم الإسلام ليجعل من ذلك مبررا لمحاربته وقطع الطريق على ظاهرة بروز الأحزاب ذات التوجه أو المرجعية الإسلامية بذريعة أنها تنهل من نفس المنهل الذي تنهل منه تلك العصابات الإجرامية ، وبها أعطت للأنظمة العربية المتوجسة من ثورات شعوبها ذريعة أيضا لملاحقة ومحاكمة كل من يتحدث باسم الإسلام دونما تمييز بين متطرف محارب أو معتدل مسالم .
ولنأخذ كمثال نموذج الجدل الفكري الدائر في مصر اليوم حيث صادر النظام الانقلابي كل القنوات الإعلامية التي كانت في ملك جماعة الإخوان المسلمين وغيرها ، وحولها إلى قنوات تابعة له وظيفتها الهجوم على تلك الجماعة والطعن فيها بشتى الطرق والأساليب . ولقد تجدد من جديد الجدل حول فكر سيد قطب رحمه الله ، وهو جدل كان في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر ومن جاء بعده . وتعج وسائل التواصل الاجتماعي اليوم بفيديوهات تتناول فكر سيد قطب بالمناقشة والتحليل والنقد ، وأغلبها يتهمه بأنه وراء انتشار الإرهاب والعنف في الوطن العربي . ويوظف لهذا الغرض بعض من كانوا منتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين ثم انفصلوا عنها، وصاروا يلعبون دور تبرير الانقلاب العسكري الدموي على الشرعية والديمقراطية .
ومما يؤخذ على فكر سيد قطب قوله بالجاهلية وبالحاكمية لله ، وهما عبارتان استعملهما في تفسيره: " في ظلال القرآن "، وفي كتابه : " معالم في الطريق " .
ومعلوم أن لهذا المفكر وجهة نظر ينطلق فيها من مقولة : " لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أمر أولها " وهي مقولة سلفية ـ ليس بالمعنى السياسي التنظيمي للسلفية الحالية بل بالمعنى الفقهي ـ وبناء على هذه المقولة يرى أن الإسلام يمكن أن يعود كما بدأ أول مرة حيث عالج المجتمع العربي الجاهلي لإخراجه من نمط حياة الجاهلية الوثنية إلى نمط حياة يسودها التوحيد الذي تترتب عنه تغييرات جوهرية في حياة الناس ، وهو ما اختصره سيد قطب في عبارة " الحاكمية لله " . والذين يخالفونه في وجهة نظره، يرون أن إضفاءه صفة الجاهلية على غير المجتمع العربي إبان نزول الوحي ، مبالغة في الوصف بل تجاوز للحقيقة ،لأن الوضع اليوم في المجتمعات خصوصا العربية منها يختلف عن وضع المجتمع في جاهلية العرب .
ولا بد من التنبيه إلى أن الذين يناقشون فكر سيد قطر نوعان : نوع يتهمه بل يجرمه لأنه كان منظرا للإرهاب والعنف ، وهذا النوع هو الذي يدعم الانقلاب العسكري الدموي ، ونوع ينصفه وفيه من ليسوا على عقيدته الإخوانية ، ويحاول أن يوضح الدلالة الحقيقية لما يعنيه بالجاهلية وبالحاكمية لله ، ويبرؤه من استعمال بعض الجهات المتبنية للعنف أفكاره لتبرير عنفها .
والمتأمل لفكر هذا الرجل يلاحظ أنه لا يزيد عما جاء في القرآن الكريم من أوصاف للأوضاع والأحوال البشرية حسب ما كان يصدر عنه الماضون من أفعال وأقوال ينعتها وينعت أصحابها بنعوت من قبيل : (مؤمنون / كافرون / منافقون / أهل الكتاب ... إلخ ) . ولما كان القرآن الكريم هو رسالة الله عز وجل للناس كافة إلى قيام الساعة ، فإن المعتبر فيه ليس أسباب نزوله ولا الحديث عن أحوال وأوضاع من نزل فيهم بل هو الأحكام المترتبة عن تلك الأحوال والأوضاع ، وعليه فإن سيد قطب يرى أن تكرار تلك الأحوال والأوضاع تقتضي الأحكام المترتبة عنها ، وهكذا أطلق نعت الجاهلية على كل المجتمعات في كل زمان تسود فيها مثل تلك الأحوال والأوضاع ، وهو ما لم يقبله منه خصومه حتى وإن تكررت في تلك المجتمعات أحوال وأوضاع جاهلية العرب . وقوله بالحاكمية لله هو دعوة صريحة لتحكيم شرع الله عوض غيره من الشرائع الوضعية ، وهو أيضا ما لم يقبله منه خصومه ، واعتبروه تكفيرا لما يعتمد غير شرعه خصوصا عندما يتعرض لمثل قول الله تعالى : (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ))، ويتهمونه بأنه لم يفهم سياق هذا القول ، وليس لديه من الزاد العلمي والمعرفي والتخصص ما يؤهله لتفسيره ، وأنه يسيء فهمه، ومن ثم يسيء توظيفه .
والحقيقة أن المتأمل فيما يقوله سيد قطب، وبكل موضوعية وتجرد ودون تحيز يرى أنه لم يأت بجديد من عنده بل اكتفى بما جاء في كتاب الله عز وجل واستعمل نفس اللغة ونفس النعوت والصفات التي أضفاها على الناس باعتبار أحوالهم ، وهو ما عده خصومه تكفيرا لا يحق له وصف الناس به في زمانه وإن أشبهت أحوالهم وأوضاعهم تلك التي كان عليها الناس زمن البعثة النبوية .
وغرضنا من ذكر هذا النموذج المصري على سبيل التمثيل لا الحصر إنما هو التنبيه إلى ما صار اليوم رائجا عند البعض من اتهام كل من يقول أو يعتقد بما جاء في كتاب الله عز وجل أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بشتى التهم مع التشكيك في أهليته وفهمه وعلمه ومعرفته وتخصصه، وكأن كتاب الله وسنة الرسول عبارة عن طلاسم أو رموز أثرية ضاربة في القدم لا يفكها إلا علماء الآثار . والحقيقة أن هذا الاتهام إنما المراد به النيل من الكتاب والسنة لجعلهما على هامش الحياة ليخلو الجو لغيرهما مما يخترع كبدائل عن شرعهما .
ولا يختلف موقف المعاصرين الذين يتهمون كل من يقول قول الكتاب والسنة عن مواقف كل الذين طواهم التاريخ ،وكانوا يلتمسون إضفاء المصداقية على وجهات نظرهم وتوجهاتهم إما بالإقصاء التام قول الكتاب والسنة أو باستغلالهما لصالحهم . فإذا كان الماضي قد عرف منكرين للوحي ، فالحاضر فيه من ينكرونه أيضا ، وإذا كان الماضي قد عرف من يأخذون ببعض الوحي ، ويعطلون بعضه ، فالحاضر فيه أيضا مثل هؤلاء ...إلى غير ذلك من الأصناف البشرية وما تصدر عنه من قناعات ومواقف .
وفي الأخير نقول لمن ينكر على القائل بقول القرآن أوقول الحديث أنه هو أيضا سينكر عليه القول بغير قولهما ، وإذا أعطى نفسه حق القول بغير قولهما ، كان من حق غيره أن يعطي أيضا نفسه حق القول بقولهما ، ولا مبرر بالتذرع لاتهامه وتجريمه والدعوة إلى مناظرته في قول ليس هو قائله بل هو ناقله فقط.
وسوم: العدد 849