حتى الانحطاط له مستويات والخيانات لها حدود
شعرت بغبطة وبهجة وأنا أقرأ أخبار وتفاصيل ـ إن كان هناك أصلا تفاصيل ـ مؤتمر «للتطبيع الشعبي العربي» مع دولة الاحتلال إسرائيل، الذي عقد في العاصمة البريطانية لندن في الأيام الأخيرة.
وقبل سرد أسباب هذه الغبطة لا بد من الإشارة إلى أن هذا المؤتمر، الذي لا يستحق حتى الذكر، روجت له أهم وسيلة إعلامية في العالم «نيويورك تايمز» بثلث صفحة، وهذه مساحة لا يستهان بها في صحيفة بوزن «نيويورك تايمز» التي كانت وسيلة الإعلام الوحيدة التي سمح لها (أمر مضحك) بحضور المؤتمر المشبوه، ونحن نصدقها لأنه لم يعرف به سوى دائرة ضيقة جدا من حلفاء إسرائيل والمروجين لها، طبعا في مقدمتهم توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي سخّر نفسه لدعم إسرائيل والترويج لها. ومن الأسباب الكثيرة التي تبرر هذه الغبطة،
*أولا: عدد المشاركين في المؤتمر لم يتجاوز الثلاثين شخصا، ومعظمهم إن لم يكن جميعهم من الوجوه البالية.
*ثانيًا: المشاركون في المؤتمر هم فئة ضالة جمعت ضعاف النفوس ومرتزقة وأسماء مجهولة على جميع الصعد والمثيرة للجدل، التي ترى في التطاول على الفلسطينيين وشتمهم، والإشادة بإسرائيل وسيلة «للصعود إلى الهاوية».
*ثالثا: الجرأة لم تصل بهؤلاء أو معظمهم إلى حد الكشف عن أسمائهم أو وجوههم خوفا كما يزعمون من الانتقام، وحقيقة أن الحديث عن الانتقام ليس إلا وسيلة للترويج لأنفسهم.
*رابعا: هؤلاء عقدوا مؤتمرهم التطبيعي في مكان سري في لندن ومغلق، ولم يفتح للعامة، أو لمن أراد الانضمام إلى حفلات التطبيع.
*خامسا: المشاركون ما كانوا ليدعون إلى هذا المؤتمر إن لم يكونوا مجهزين مسبقا، وعلى اتصال بأطراف ذات صلة؟
*وسادسا وهذا هو الأهم، أن هذا المؤتمر شاهد عيان على فشل «معاهدات السلام» التي عقدتها إسرائيل مع مصر السادات عام 1979 ومعاهدة وادي عربة مع الأردن عام 1994. فرغم السنين الطويلة، فشلت إسرائيل في تحقيق الاختراق الذي كانت تصبو إليه في التطبيع مع الشعوب العربية، فنراها تعلن بين الحين والآخر، وعبر طرق ملتوية عن زيارات يقوم بها صحافيون عرب، لتقنع نفسها بأنها تحقق الاختراق المطلوب،
ونقول لإسرائيل بإمكانك التطبيع مع مملكة البحرين وسعودية بن سلمان و«دولة الإمارات المتصالحة» التي تبين أنها تقف وراء هذا المؤتمر، سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة ودنيس روس، وهو من الشخصيات النافذة في لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (ايباك)، ويدير مركزا باسم «مركز اتصالات السلام»، واسمه يثير الشبهات، ومن تلك العناوين التي يختارها جهاز الموساد الإسرائيلي للإيقاع بضعاف النفوس وإسقاطهم في شراكه، وهو المركز الذي وجه دعوات لمؤتمر «التطبيع في لندن»، بامكانه أن يفعل كل ذلك، ولكن كل هذا لن يقود إلى شيء لسبب بسيط وهو أن الشعب الفلسطيني الذي يهاجمه المشبوهون هو صاحب كلمة الفصل بصموده فوق أرضه مقاوما ومدافعا عن حقوقه، طال الزمان أم قصر، وإن شاء من شاء وأبى من أبى. وسيظل الصخرة التي ستتحطم عليها كل المؤامرت، لاسيما تلك التي يحيكها محمد بن زايد ومن لفّ لفه. كما أن أيادي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان متورطة في هذه المهزلة عبر المصري مصطفى دسوقي، الذي يعمل مدير تحرير لمجلة «المجلة» الإلكترونية التابعة لمجموعة الشركة السعودية للأبحاث والتسويق في لندن، التي يملكها بن سلمان، وهو الذي يترأس «مركز اتصالات السلام» في لندن. وسيبقى هذا الشعب العقبة الكأداء، طالما بقي الاحتلال، وطالما بقي فيه عرق ينبض، وهذه حقيقة يعرفها القاصي والداني.
ومن أسماء المشاركين في قائمة العار، وهي الأسماء التي يجري تدويرها بين الحين والآخر: سعيدة غريبي الجزائرية المثيرة للجدل في أوساط الجزائريين في فرنسا، والشيخ التونسي حسن شلغومي، الذي سافر إلى إسرائيل أكثر من مرة وتجول في مستوطناتها، داعيا للتطبيع، ومريم الأحمدي الباحثة السابقة في وزارة الداخلية الإماراتية (لا أدري عما كانت تبحث طيلة السنوات الماضية) ومحمد أنور السادات، ابن أخ الرئيس المصري الراحل، ووزير الصحة الكويتي السابق سامي عبد اللطيف النصف، ومن أقواله غير الحميدة أن المتشددين من أمثال أمين الحسيني وأحمد الشقيري وياسر عرفات، هم من أضروا بالقضية الفلسطينية والعربية. ورسامة الكاريكاتير السعودية وداد البكر، والباحثة العراقية في ألمانيا سناء وجد علي. ولا يمكن أن تمر مناسبة لدعم إسرائيل بدون أن تكون لتوني بلير يد فيها. فما الذي توصل المطبعون إليه في هذا المؤتمر: ضرورة عقد سلام شامل مع إسرائيل، وإصلاح اتفاقيات السلام الموقعة من قبل. الحد من خطاب العنصرية والكراهية ضد إسرائيل، والتركيز على معاملتها الحسنة للعرب وفق حقوق الإنسان. الإجماع على اتهام الفلسطينيين بـ«نشر الكراهية». مطالبة العرب بتربية أجيال على حب إسرائيل.
رفض استغلال قضية اللاجئين الفلسطينيين في الحديث عن انتهاكات إسرائيل، والمطالبة بعودتهم خطأ كبير. إدانة المقاومة الفلسطينية لـ«عدم إبداء الندم» على عملياتها على مدار سنوات الصراع، من قصف للمطارات والسفارات وخطف الطائرات. إدانة حركة مقاطعة إسرائيل «بي دي إس». الاتفاق على عقد لقاء آخر في واشنطن العاصمة، خلال شهرين، للمراجعة ـ ولن أعلق على هذه النتائج وفهم القارئ كاف.
وكما قلنا مرارا وتكرارا إن من أراد التطبيع والمصالحة مع إسرائيل فله ذلك، ولكن ليس بهذه الأساليب الرخيصة وعلى حساب شتيمة الفلسطينيين والتقليل من أهمية قضيتهم العادلة، ومن وجد في دولة الاحتلال حبه القديم فهنيئا له، وإذا أردتم أن تغيروا دينكم فحلال عليكم، وإذا أردتم التعبير عن كرهكم للفلسطينيين فهذا من حقكم، فلتقولوا فيهم ما شئتم، حتى لو حاولتم تغطية الشمس بغربال في قضايا لا خلاف دولي حولها. ومن رغب منكم في «الأسرلة» فصحتين على قلبه، ولكن نقول لكم غيركم كان أشطر، ونذكركم إن نفعت الذكرى، بمن عمل في السابق لحساب إسرائيل، ومنهم من حمل السلاح من أجلها، هم الان يتسولون في شوارع تل أبيب. ونصيحة أخيرة لهؤلاء ومن أعماهم المال، ومحاولة الحصول على الشهرة، إن أرادوا بيع أنفسهم للشيطان فليكن، ولكن بثمن وثمن باهظ لا برخص شديد. ونذكركم بأن للخيانة حدود.
وأختتم دوما بالوجه المشرق التي يحاول أمثال هؤلاء تلطيخه، وبالمذكرة التي ستقدمها 50 سيدة إسرائيلية من أنصار السلام لمفوضية الاتحاد الأوروبي في القدس الشرقية المحتلة في الأسبوع المقبل، وتحمل دعوة خالصة للعمل من أجل تسوية الصراع وإقامة دولة فلسطينية فوق الأرض المحتلة عام 1967، وعودة اللاجئين لديارهم. وقالت رئيسة المجموعة التي تطلق على نفسها «هابوعالوت»، التي بدأت تحت شعار «دولة فلسطين الآن»، إن المذكرة تطالب الاتحاد الأوروبي أن يعترف من جانب واحد بدولة فلسطين. وتطبيق موافقته على تأسيس دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 بما في ذلك القدس الشرقية نطلب منكم أن تعترفوا بشكل عاجل بوجود دولة فلسطينية ذات سيادة في مؤسسات الأمم المتحدة ، وأن تدعموا تأسيسها بغض النظر عن موقف إسرائيل. وانتقدت الجمعية موقف الاتحاد الأوروبي بقولها «يحتفظ الاتحاد الأوروبي بعلاقات جيدة مع دولة إسرائيل في حدودها غير الشرعية، وبالتالي تتحمل حكوماتكم أيضًا مسؤولية معينة لهذا الاحتلال والضم والحصار والتطهير العرقي المذكور أعلاه».
وسوم: العدد 853