وقفة مع لجنة النموذج التنموي في صياغتها للتقريرالذي ستعده عن وضعية البلاد
كما يحصل مع كل حدث تعرفه الساحة الوطنية ،أفاضت وسائل الإعلام المختلفة كعادتها في الحديث عن اللجنة التي كلفت بإعداد تقرير عن وضعية البلاد من أجل اعتماد مشروع تنموي يؤهلها لتنزيل الجهوية المتقدمة.
ولقد تعرف الشعب المغربي على أعضاء اللجنة من خلال ما عرضته وسائل الإعلام عن سيرهم الشخصية ، وما يحملون من شواهد ، وما يتقنون من لغات ومعارف ، وما لديهم من خبرات وتجارب ، وما ألفوا من مؤلفات ، وما جابوا من أقطار ... إلى غير ذلك مما جعل شأنهم يثير اهتمام الرأي العام الذي بات يسأل عما سيكون عليه التقرير الذي سترفعه هذه اللجنة بعد نصف عام أو يزيد .
وما يعرفه عموم الشعب لحد الساعة عن هدف هذه اللجنة كما قدمه أكاديميون عبر وسائل الإعلام هو الكشف عن وضعية البلاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ... من أجل إعطاء انطلاقة فعلية لما يسمى الجهوية المتقدمة التي لمّا تنطلق بعد كما أريد لها أن تكون . والذي يرجى من هذه الانطلاقة حسب ما صرح به عبر وسائل الإعلام دائما هو البحث عما يقلص الفوارق بين فئات الشعب المغربي اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ...
ومعلوم أن فئات الشعب المغربي ثلاث : هشة الحال ،وهي سواد أعظم ، ومتوسطة الحال، وهي دون الهشة عددا ، وميسورة الحال، وهي قلة قليلة . وباعتبار هذا التصنيف تعتبرالفوارق بين هذه الفئات شاسعة ، وتقليصها ليس بالأمر الهين ، ذلك أن التقليص إنما يحصل بالتقريب بين هذه الفئات إما عن طريق صعود الفئة الهشة الحال أو نزول الفئة الميسورة الحال لتلتقي الفئتان عند الفئة المتوسطة ، وهذا هو التقليص المنطقي والممكن، لأن غيره يبدو مستحيلا ، ذلك أنه لا يمكن صعود الفئتين الهشة والمتوسطة إلى مستوى الفئة الميسورة والإمكانات التي تحقق ذلك غير متيسرة في الوقت الراهن .
ومع أن الفقر والتوسط والغنى سنة الله عز وجل في الخلق ، وهي وضعية أرادها سبحانه وتعالى أن تكون كذلك لغاية اختبار الخلق في الحياة الدنيا لمواجهة المساءلة والحساب والجزاء في الآخرة ، فإنه سبحانه قد أمر بعلاج الفارق بين الهش والموسر بركن خامس من أركان الإسلام تعبد به الخلق، وهو ركن يتعلق بعملية تقليص هذا الفارق لتستقيم الحياة نسبيا . وما جعل سبحانه وتعالى هذه العملية عبادة واجبة وملزمة إلا ليكون التفكير فيها جديا ، وتحمل على محمل الجد .
ولقد وددنا لو كان ضمن أعضاء هذه اللجنة أعضاء من علماء فقهاء لهم دراية بطريقة تقليص الفوارق عن طريق عبادة الزكاة التي يؤخذ بموجبها من مال الميسورين ليعود على المعوزين كي يلحقون على الأقل بمن هم أواسط بين الغنى والعوز ، ونأمل أن يستدرك هذا قريبا لأنه وجد من الاقتراحات عند هؤلاء الفقهاء ما ليس في جعبة أعضاء اللجنة وهو ما يكون دعما لها ويكون من ضمن ما يحقق نجاحها فيما تريده .
والسؤال المطروح الذي يشغل الرأي العام المغربي هو الكيفية التي ستعمل بها هذه اللجنة ، فهل سيكون عملها ميدانيا أم سيكون خلف أبواب مكاتب مكيفة كما جرت عادة اللجان عندنا ؟ وهل ستستعين هذه اللجنة بلجان أخرى تمدها بمعطيات من الميدان لتفحصها هي في المكاتب على ضوء ما في جعبتها من خبرات ؟
ومعلوم أنه إذا عملت هذه اللجنة وحدها معتمدة الدراسة المكتبية فقط ، فلن تحصل على ما تريده في غياب معطيات ميدانية من شأنها أن تجعل تشخيص الوضعية أقرب إلى الواقع والحقيقة من مجرد توقعات أو فرضيات أو تخمينات .
ونريد هنا أن نثير انتباه هذه اللجنة إلى بعض ما قد لا تصل إليه من حقائق تخص الفئتين الهشة والمتوسطة وهي مستقاة من الواقع المعيش مع الإشارة إلى أن الوسط بين الهشاشة واليسار يجعله إما قريبا من الهشاشة ، وإما هو قريب من اليسار، ذلك أنه كلما مال التوسط نحو الهشاشة ذات الكثافة العالية ازداد عدد من يصنفون فيه ، وكلما مال نحو اليسار ذي القلة قل عدد من يصنفون فيه .
أما الفئة الهشة فهي عبارة عن طبقات كالآتي :
1 ـ طبقة في أدنى سلم الهشاشة ، وهم المشردون الذين يعيشون في العراء بلا مأوى يأوون إليه ،وهم إما مجانين أو ضحايا فقر مدقع أو عجزة متخلى عنهم أو طفولة ضائعة ... ، وهؤلاء إنما يقع عبء إطعامهم على المواطنين بدافع الرحمة والوازع الديني عند أبواب المساجد وفي الشوارع والطرقات والأسواق وباقي الأماكن العمومية ، وهذا كل ما يستطيعونه نحوهم ، فهذه الطبقة في حاجة ماسة إلى مأوى يؤويها حسب حالتها إما مصحات لعلاج المجانين سواء الذين ابتلاهم الله عز وجل بعلل في عقولهم أو في نفوسهم أو الذين دمروا عقولهم بالمخدرات والمسكرات وهم الأكثر، وهؤلاء يقتضي الأمر علاجهم وتطبيبهم ،فضلا عن إطعامهم وكسوتهم ، وتوفير ما يلزم ليحيوا حياة عادية تحفظ كرامتهم الإنسانية أو أماكن تؤوي غيرهم من المشردين ممن انقطعت بهم السبل بسبب فاقة أو بسبب عجز أو هرم أو يتم أو إهمال ... فهؤلاء أيضا لهم الحق في حياة تحفظ فيها كرامتهم الإنسانية . وهؤلاء جميعا لا نشاط لهم ، ولا كسب .وتقليص الفارق بالنسبة لهذه الطبقة هو تخليصهم من العيش من العراء ليلحقوا بمن يعيشون تحت سقف مأوى يحتضنهم ويحميهم .
2 ـ طبقة الذين يعيشون في دور الصفيح ووضعيتهم مزرية لا تختلف عن وضعية من يعيشون في العراء ولكن فيهم من يكدحون من أجل لقمة العيش كل على طريقته في الكسب ، فمنهم من يكسب الكسب الحلال ، ومنهم من يمتهن التسول ، ومنهم من يمتهن اللصوصية أو غير ذلك مما تربأ بذكره هنا صيانة للكرامة البشرية ، وفيهم العاطل والعاجز والمريض والصغير . فهؤلاء تقليص الفارق بالنسبة لهم هو تخليصهم من حيز الصفيح المفتقر إلى الشروط الصحية ، والممتهن للكرامة ... إلى حيز بديل ، ومن حقهم أيضا أن تحفظ كرامتهم الإنسانية .
3 ـ طبقة الذين يعيشون في أحياء عشوائية تسمى أحياء الفوضى ، وهي عبارة عن أحياء لا وجود لهندسة معمارية فيها حيث تقتني هذه الطبقة قطعا أرضية من ملاكها ، فتشيد مساكنها في غياب الرقابة أو في غياب ضمائر من يراقبون ، ثم تكثر هذه المساكن ، وتأتي التجهيزات متأخرة عنها من صرف صحي وإنارة وماء , وهؤلاء أفضل حال من الطبقتين السابقتين ، ومعظمهم ممن يكدحون من أجل لقمة العيش، وقد تشاركهم بعض الحيوانات الأليفة مساكنهم كالحمر الأهلية التي تجر عرباتهم أو قطعان الماشية التي يرعونها في ضواحي المدن وحتى في وسطها ، وهي مصدر قوتهم. فهؤلاء تقليص الفارق بالنسبة لهم هو تخليصهم من السكن الفوضوي علما بأنهم ينفقون عليه مبالغ مالية مهمة بالنسبة إلى وضعهم الاقتصادي الحرج ، فهم يقتنون نفس مواد البناء التي تشاد بها المساكن في الأحياء السكنية المنظمة والأحياء الراقية . ويقتضي تخليص هؤلاء التدخل لدى من ملاك القطع الأرضية لإجبارهم على إعدادها بالتجهيزات الضرورية قبل انطلاق عملية البناء لتجنب الفوضى ، وعلى الدولة أن تفرض خضوع الأحياء الفوضوية لضوابط الهندسة المعمارية المعتمد في غيرها من الأحياء . ومعلوم أن المدن المغربية عبارة عن أحياء منظمة تحيط بها أحياء فوضوية ، والفارق شاسع بين الحيزين ، والضرورة ملحة لزوال هذا الفرق في النموذج التنموي المنشود . ومعلوم أن العشوائية أو الفوضى في البنية التحتية لهذه الأحياء تتولد عنها فوضى اجتماعية وثقافية لأن ساكنة هذه الأحياء والأحياء الصفيحية تنشأ لديهم عقدة الشعور بالدونية والظلم حين يقارنون وضعهم بأوضاع غيرهم ممن يسكون في أحياء أفضل من أحيائهم ، ويتولد عن ذلك الشعور بالانتقام لكرامتهم الإنسانية ، فتكون في شكل اعتداءات وسطو وسرقة وفساد خلقي خصوصا مع استفحال ظاهرة الهدر المدرسي المتفشية في تلك الأحياء ، إلى جانب استفحال ظاهرة البطالة .
4 ـ طبقة الذين انتقلوا من دور الصفيح إلى ما بات يعرف بالسكن الاقتصادي ، وهي طبقة هشة لم يتغير من هشاشتها سوى استبدالها الحيز الصفيحي بحيز السكن الاقتصادي ، وتقليص الفارق لديها هو تغيير وضعها الاقتصادي والاجتماعي لتلحق على الأقل بأدنى درجة للطبقة الوسطى .
5 ـ طبقة سكان البوادي والقرى والأرياف المعوزين الذين حاصرتهم الفاقة المدقعة في مناطق نائية محرومة من التجهيزات الضرورية من قبيل الصرف الصحي والإنارة والماء ، ومن قبيل المرافق الضرورية للتعليم والصحة وغيرهما . وهي طبقة وضعيتها كوضعية طبقة ساكنة الصفيح وساكنة الأحياء العشوائية أو أسوأ منهما . وتقليص الفارق بالنسبة لها هو توفير السكن المناسب بالتجهيزات والمرافق الضرورية مع توفير مصادر رزق خاصة بالوسط الذي تعيش فيه خصوصا ما يتعلق بالقطاع الفلاحي وقطاع تربية المواشي .
6 ـ طبقة الأجراء الذين يشتغلون يوميا أو موسميا ، وهي طبقة منحدرة من ساكنة أحياء الصفيح و منساكنة الأحياء العشوائية ، ومن المهاجرين من الأرياف والبوادي إلى المدن . وهؤلاء تقليص الهامش بالنسبة إليهم هو إيجاد شغل قار لهم ، وتوفير التدريب اللازم بالنسبة لمن لا حرفة لهم .
7 ـ طبقة أصحاب البطالة المقنعة ، وينحدرون من نفس الأحياء ، ولا مهن لهم فيتقنعون من البطالة عن طريق ممارسة بعض الأعمال من قبيل حراسة السيارات أو بيع السجائر أو بيع أشياء أخرى بسيطة أو مسح الأحذية ... أو ممارسة تجارة المناسبات الدينية وغيرذلك مما لا يعد شغلا ولا تجارة بالمعنى الصحيح . وهؤلاء تقليص الفارق بالنسبة لهم هو إيجاد شغل قار لهم حسب مؤهلاتهم واستعداداتهم .
أما الفئة المتوسطة ،وهي التي تسكن الأحياء المنظمة فهي طبقات أيضا كالآتي:
1 ـ طبقة العمال والحرفيين والصناع والتجار والموظفين الصغار من أصحاب الدخل المحدود الذين يعيشون على الكفاف ، وهذه أدنى درجة التوسط . وبعض هؤلاء يقطنون في الأحياء العشوائية أو السكن الاقتصادي بسبب ضعف مداخليهم ، وبعضهم يسكنون أحياء غيرها ولكن غالبيتهم ممن يكترون المساكن ولا يملكونها علما بأن نسبة من يكترون السكن هي أعلى نسبة على الصعيد الوطني . وهؤلاء تقليص الفارق بالنسبة لهم هو حل مشاكلهم المتعلقة بالسكن لتخليصهم من ضغط اكتراء السكن الشيء الذي سيخفف من مصاريفهم التي تنهك مداخليهم المتواضعة ، وهو ما سيخفف أيضا من عيشهم الكفاف للحاق بمن سواهم ممن يستفيدون من بعض أسباب الراحة في حياتهم .
2 ـ طبقة التجار والصناع والموظفيبن المتوسطين وأصحاب المقاولات الصغرى من أصحاب الدخل المتوسط ،وهم طبقة فوق الطبقة السابقة فيهم من يملكون مساكن اقتنوها عن طريق القروض بفوائد أرهقتهم ، وفيهم من يكترون مساكنهم . وتقليص الفارق بالنسبة لهؤلاء هو إعفاء من يرغبون منهم في اقتناء مساكن تخلصهم من نفقات الكراء من الفوائد البنكية تشجيعا لهم على تحسين وضعيتهم المعيشية ، وتخليص المكترين منهم من غلاء واجبات الاكتراء لتحسين وضعية المعيشية أيضا.
3 ـ طبقة المهاجرين خارج الوطن الذين تعيش أسرهم داخل الوطن ، وهم غالبا من اليد العاملة في القطاعين الصناعي والفلاحي بالخارج ، وهؤلاء تتوزع مساكنهم بين الأحياء العشوائية وغيرها من الأحياء المنظمة ، وفيهم ملاك السكن ، وفيهم المكترون . وتقليص الفارق بالنسبة لهم هو تمكين من يسكنون الأحياء العشوائية من السكن في غيرها من الأحياء المنظمة هندسيا عن طريق تسهيلات بنكية دون فوائد ، فضلا عن البحث عن بدائل شغل لهم داخل الوطن والاستفادة من الخبرات التي راكموها خارج الوطن ،إلى جانب تشجيعهم على إنشاء المقاولات الصغرى واستثمار ما يجلبونه معهم من عملة صعبة .
ولا بد من الإشارة إلى أن موظفي وتجار وعمال هذه الفئة بطبقاتها لا يمكن أن تقوّم مداخيلهم دون الأخذ في الاعتبار أفراد أسرهم الذين يعولونهم ، فإذا كان الواحد منهم على سبيل المثال يصل دخله إلى عشرة آلاف درهم وهو يعول عشرة أفراد من أسرته ، فهذا في الحقيقة لا يتعدى دخله ألف درهم ، وتقليص الفارق بالنسبة له هو الأخذ في الاعتبار وضعيته الأسرية ، والتعامل معه بخصوص تكاليف الماء والكهرباء تعاملا خاصا بحيث لا يحسب عليه تخطي استهلاكه المقادير بموجب إجراء الزيادة في التسعير .
وبقي أن نقول كلمة في فئة الموسرين من كبار التجار والفلاحين وملاك المصانع وملاك العقار وكبار المقاولين و كبارالموظفين السامين ... وغيرهم ممن العلم بأوضاعهم المادية عند جباة الضرائب و عند إدارات الأملاك ، و عند الأبناك . وهؤلاء تقليص الفارق يبدأ منهم حيث تؤخذ منهم أولا الزكاة الشرعية المفروضة التي يجب أن يخصص لها صندوق خاص غير صناديق الضرائب المختلفة ،ويوظف هذا الصندوق في تقليص الفارق بينها وبين الفئة الهشة بالتدريج من طبقة إلى أخرى عسى أن تلج وضعية الفئة المتوسطة الحال .
وما لم يأخذ أعضاء لجنة إعداد التقرير بغرض تقديم المشروع التنموي المنشود بعين الاعتبارالوضعية الحقيقية للبلاد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، وما لم يطلعوا عن كثب على أحوال مكونات المجتمع المغربي بفئاته المختلفة فلن يصيب المحز ، ولن يدركوا المنشود .
وأخيرا يرجى من إعلامنا أن يكثف من توصيف وضعية المجتمع اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، ومن نقل آراء واقتراحات ذوي الاختصاص لتكون دعما للجنة المكلفة بإعداد التقرير المنتظر إذا ما تواضع أعضاؤها ، وأخذوا بنصح الناصحين ، وهو ما سيجعل قاعدة استشاراتهم واسعة ، ويجعل تقريرهم قريبا من الواقع وبأكبر قدر ممكن من الدقة والموضوعية ، وهو ما سيساعد على التفكير في برنامج تنموي واقعي وفعال وقابل للتنزيل. والله تعالى من وراء القصد .
وسوم: العدد 855