انتهت الانتفاضة كي تبدأ الثورة
الانتفاضة الشعبية اللبنانية التي انطلقت في 17 تشرين-أكتوبر أنجزت مهمتها وانتهت.
هذه هي الحقيقة التي يجب أن نعترف بها، كي لا يجرفنا الواقع اللبناني المتفجّر إلى القنوط، ويأخذنا أمراء الحرب ومافيا النهب الرأسمالي- المصرفي إلى القمع العاري والتفكك الاجتماعي الشامل.
الانتفاضة التي جمعت خليطا شعبيا جارفا وصلت إلى ذروتها مع إجبار حكومة الفساد والمحاصصة على الاستقالة. ومنذ تلك اللحظة الكبرى، بدأت الأمور تتخذ مسارات جديدة، تميزت بأمرين: الهجمات المتتالية التي شنتها عصابات القمصان السود التابعة للثنائي الشيعي على ساحات الاعتصام من جهة، وانهيار النظام المصرفي، عبر تحويل المصارف إلى زنزانات تصادر الودائع ومرتبات الموظفين الشهرية، بحماية الشرطة، من جهة ثانية.
الهجمات بالعصي والتخويف فشلت جزئيا، لكنها أعلنت أن ميليشيا النظام الأوليغارشي الطائفي ستخوض معركة الدفاع عن هذا النظام حتى النهاية.
أما انهيار النظام المصرفي فقد أعلن أن هذا النظام يحتضر، ولم يعد إنقاذه ممكنا.
الفكرة اللبنانية التي أسست لنظام حكم التجار والمصارف، صاغها ميشال شيحا، أحد مالكي بنك شيحا وفرعون تلاشت، وعندما تنهار المصارف فهذا يعني أن الفكرة نفسها فقدت ركيزتها الاقتصادية ولم تعد قابلة للحياة.
كانت الانتفاضة فعلا عفويا، فجأة يكتشف اللبنانيات واللبنانيون أنهم خُدعوا وُسرقوا وأُهينوا من قبل زعماء الطوائف الذين لم يكونوا أكثر من لصوص. فانتفض الشعب، وخلع اللغة الطائفية، ورفع شعارات محاربة الفساد مطالبا الطبقة المسيطرة بأن تتنحى طوعيا وتشكل حكومة اختصاصيين لم يتلوثوا بالفساد والنهب، من أجل تحقيق ثلاثة أهداف: إخراج لبنان من الانهيار الاقتصادي، واستعادة الأموال المنهوبة، وقانون جديد يكفل استقلالية القضاء عن السلطة السياسية ونزاهته. إضافة إلى هدف رابع بقي غامضا، وهو انتخابات نيابية مبكرة وقانون انتخابي جديد.
هذه الأهداف التي وحّدت الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، تحت شعار «كلُن يعني كلُن»، لم تكن تملك آليات التطبيق، وكان من الواضح أن العناد العوني-الباسيلي لن يسمح بإنقاذ النظام من نفسه، كما أن دور قيادة الثورة المضادة لعبه الثنائي الشيعي، سوف يجعل من شرطة البرلمان جزءا من آلة القمع والتشبيح.
الآلة السياسية الحاكمة انقسمت بين جناحي التسوية الرئاسية المشؤومة: الحريري وعون، وبدت السلطة عاجزة عن لملمة صفوفها. وبدا حزب الله، الذي يلعب منذ سنوات دور الحزب القائد للدولة، مترددا أمام هول فكرة أن يتحمّل منفردا عبء سلطة تتداعى، في ظل التراجع الانهياري لشعبية حليفه العوني، وانهيار سمعة حليفه برّي.
غير أن الأمور حُسمت مع تكليف السيد حسّان دياب بتشكيل الحكومة. ودياب هو أستاذ جامعي، لكنه ليس مستقلا، بل هو مرتبط بالسلطة منذ توزيره في حكومة ميقاتي عام 2011، وهو مستعد أن يلعب دور حصان طروادة، ويقدم للناس حكومة تكنوقراط كاذبة.
قررت السلطة أن تضرب الانتفاضة عبر الاستيلاء على شعاراتها، نأتيكم بتكنوقراط يشتغلون عندنا، ونتابع النهج نفسه ونعطي اللعبة القديمة اسما جديدا، هكذا نطمئن العالم. وفي المقابل يقوم نائب رئيس المجلس، الذي عُرف بقدراته الكلامولوجية، بتطمين إسرائيل عبر استخدام الحجة التي استخدمها نظام الأسد في بدايات الثورة السورية.
غير أن الحزب القائد وحلفاءه يواجهون معضلة لا يمكن حلها بالوسائل القديمة. المفارقة أن حزب الله يتصدى اليوم لحماية النظام الرأسمالي وآلته المصرفية المنهارة. واقع كابوسي ما كان ليحلم به ميشال شيحا وتلامذته من الانتلجنسيا الشهابية التي تحلقت حول الندوة اللبنانية ومؤسسها ميشال أسمر.
كذبة تكنوقراط باسيل ودياب وحزب الله لن تكون سوى الفصل النهائي من الانتفاضة. فالانتفاضة كانت إصلاحية في طروحاتها، رمت للنظام خشبة خلاص اسمها حكومة اختصاصيين من خارج أحزاب السلطة، قالت للنظام إنها لا تريد إسقاطه، جل ما تريده هو إصلاح عقلاني يوقف عجلة الانهيار. لكن النظام أعلن رفضه لإصلاح نفسه، واستعلاءه على الناس، وأخرج من شقوق تفككه الخطاب الطائفي من جديد.
أمام حائط التعنت والعناد، انتهت الانتفاضة.
لم يعد الكلام عن إصلاح النظام مجديا، كما أن الشعارات العامة وأهازيج الشبان والشابات لم تعد ملائمة. فالنظام أعمى وأطرش، والحزب القائد الذي رهن نفسه للخارج، مضطر باسم معادلة إقليمية تترنح أن يدافع عن الأوليغارشية والفاسدين وسارقي أموال المودعين.
هكذا انتهت الانتفاضة اللبنانية أمام جدار آلة النظام.
لكن نهاية الانتفاضة لا تعني أن الأزمة انتهت، أو أن الاحتجاجات ستتوقف، بل تعني شكلا جديدا من مقاومة الانهيار، له اسم واحد هو الثورة.
انتهت الانتفاضة كي تبدأ الثورة.
من الانتفاضة إلى الثورة مرّ لبنان بمنعطفات كبرى، لكنه اليوم أمام المنعطف الأكبر.
الطغمة المسيطرة سوف تواصل انقساماتها الحادة لأنها عاجزة وتافهة وتتحكّم بها المصالح الشخصية والطائفية، ولا تستطيع أن تتحد كي تواجه الثورة.
لن تكون الثورة حدثا مفاجئا أو انقلابا، الثورة مسار صعب وطويل.
على الثورة أن تمسك بشعلة الانتفاضة أولا، وتأخذها إلى نوع جديد من المواجهات، لقد فاض كيل الطبقات العاملة والوسطى، ولم تعد قادرة على تحمّل أعباء الأزمة والنهب الصريح الذي تمارسه المصارف عبر لعبة سعري الدولار، والتسريح من العمل، وفذلكة نصف المرتّب الشهري وجنون الأسعار، وأزمة المدارس الخاصة مع الأقساط، وإلى آخره…
نحن أمام نظام سياسي اقتصادي يتهاوى.
الحل الفاشي التقليدي غير ممكن نتيجة تكوين الأحزاب شبه الفاشية الطائفي.
الثورة الاجتماعية تملك وحدها مشروع حلّ جذري عماده تأسيس وطن.
الطائفية وأمراء المال والحرب لا يصنعون وطنا، بل يصنعون كارثة.
من الانتفاضة إلى الثورة، هذا هو المسار العقلاني الوحيد كي لا يتفكك المجتمع، ويتحول لبنان إلى غابة.
وهذه مسؤولية القوى الجديدة التي أفرزتها الانتفاضة.
ليس أمام الثوريين سوى أن يتوحدوا ويبلوروا برنامجا سياسيا اقتصاديا، فيما هم يخوضون المعارك في المصارف والمصانع والشركات والجامعات والنقابات والمدارس.
لقد أعطت الانتفاضة الشرعية للشارع، وعلى الثورة أن تملأ الشارع بالاحتجاج والمبادرات الخلّاقة، من أجل إسقاط ثمرة النظام المتعفنة.
لبنان أمام مسار جديد ومتعرّج، لكنه أمام أحد خيارين: إما الاندثار وإما الثورة.
والثورة يحبل بها الشعب، وما على الثوريين سوى أن يقوموا بواجبهم، التوحّد حول برنامج جذري، والانخراط في التحركات الشعبية وقيادتها.
ويجب ألا ننسى.. الثورة سلمية، حتى عنفها يجب أن يكون سلميا، فقوتها نابعة من عجز النظام وتهاويه. الشعارات الطائفية لا تطعم خبزا، وقوة السلاح لن تكون مجدية أمام سلاح الجوع والفقر والإرادة.
هذا هو التحدّي وهذا هو الرهان.
وسوم: العدد 857