مرة اخرى.. وللفلسطينيين دور ايجابي في النهوض بالاقتصاد اللبناني
تسيطر الازمة الاقتصادية على كل مناحي الحياة اليومية للبنانيين، ويتفنن البعض، من خبراء اقتصاديين وسياسيين، في إقتراح المعالجات التي من شأنها اخراج لبنان من ازمته. ويبدو واضحا ان هناك قاسما مشتركا بين كل المعالجات المقترحة يتلخص في الدور الذي يمكن ان تلعبه الدول العربية، خاصة الخليجية والغربية وايضا دور المغتربين اللبنانيين وتحويلاتهم في هذه المعالجات.
وسط هذا النقاش المفتوح، يستحضر البعض، دور مجموعة هامة تقيم في لبنان، وقد يكون لها مساهمة مهمة، إذا ما اتيح لها ذلك. وهو دور سبق للكثيرين وان تحدثوا عنه قبل اشهر قليلة من اندلاع التحركات الشعبية اللبنانية، وتحديدا بعد اجراءات وزارة العمل اللبنانية بشأن العمالة الاجنبية وما رافقها من تحركات شعبية فلسطينية رافضة داخل المخيمات كانت الاضخم منذ النكبة.
ومع تكرار الاحاديث عن اموال لبنانية مهربة الى الخارج وصعوبة حصول اللبنانيين، تجار ومواطنين، على مدخراتهم من المصارف في ظل استمرار الضغوط المتواصلة على الليرة اللبنانية، يشير خبراء بايجابية الى بعض النماذج القادمة من الوسط الفلسطيني والتي يمكن ان تشكل اضافة لما هو مطروح، ومنها على سبيل المثال ان وكالة الغوث قامت مؤخرا بدفع رواتب موظفيها بالدولار (نحو 3000 موظف)، وهذا ما فعلته ايضا العديد من الفصائل الفلسطينية (اكثر من 15 الف منتسب)، والتي من المؤكد انها لم تحصل على العملة الصعبة عبر الاطر المصرفية والبنكية التقليدية. لكن بالمحصلة العامة، وفي اللحظة الراهنة، وبغض النظر عن مدى قانونية مثل هذه الامور، فان مجرد الحديث عن عملة صعبة تدخل السوق اللبناني، فهذا بحد ذاته عامل ايجابي بالمقارنة مع مليارات الدولارات التي يجرى تهريبها الى الخارج من قبل مسؤولين ومواطنين لبنانيين.
وبعيدا عن الدور الهام الذي لعبه الفلسطينيون سابقا، بعمالتهم وكفاءاتهم ومبدعيهم، في بناء وتطوير الإقتصاد اللبناني، فان السمة العامة لهذه الفئة الإجتماعية التي ما زالت تعيش على هامش الدورة الاقتصادية في لبنان، هي الحرمان المتواصل من حقها في العمل بحرية وفي توفير الحماية القانونية لها، بل إبعادها عن مجال عديد القطاعات الإقتصادية اللبنانية. وعلى هذه الخلفية، فإن الإستنتاج العام هو أنها باتت جماعة بشرية تعيش حالة تناقض وصراع متعدد المستويات، فهي تنتج وتنفق في لبنان، ويفترض أن إنتاجها – وهو كذلك - يصب في تدعيم إقتصاده، لكنها لا تستفيد – بالمستوى الذي يعود إليها حقاً وعدلاً - من منافع العملية الإقتصادية في البلد، لانحكامها الى بنية قانونية – سياسية مجحفة وتحتاج الى اعادة نظر.
في معظم الأحوال، ساهم فلسطينيو لبنان في بناء عديد القطاعات الإقتصادية: المصرفية والخدماتية والإعلامية والصحفية والهندسية وفي حقلي الصناعة والنفط وغيرها، هذا دون أن ننسى قطاع الزراعة؛ ولمع في لبنان أسماء الكثير من الفلسطينيين الذين كان لهم شأن مهم في الإزدهار اللبناني. لكن بعض اللبنانيين، وبخلفية عنصرية واضحة، ينكرون اليوم او لا يريدون لهذا الدور ان ينمو، حتى في جوانبه الايجابية المجانية، وما زالت تجربة بنك انترا، قبل عقود، والمآل الذي وصلت اليه تتردد اصداءها لدى الكثيرين من رجال الاعمال الفلسطينيين الذين تلمع اسماءهم في سماء اقتصاديات الدول العربية والغربية، وكان يمكن للبنان ان يستفيد منهم بقليل من الحنكة السياسية البعيدة عن الحسابات الطائفية والسياسية الضارة للجميع.
من جانب آخر، ومن المؤكد ان التجمع الفلسطيني في لبنان، يضخ ومن مصادر خارجية متعددة، سيولة لا يُستهان بدورها في الإسهام بتنشيط الدورة الإقتصادية في البلد. وأحد نماذج هذه المصادر وكالة الغوث، كما ذكر سابق، وهي المعنية بتأمين الخدمات التعليمية والصحية والإغاثية للاجئين الفلسطينيين، أو من خلال الإنفاق على القطاعات المختلفة الصحية والتربوية والإجتماعية؛ ناهيك عن الأموال المحوّلة من الخارج التي تنفقها في لبنان المؤسسات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني واللبناني (أكثر من 60 مؤسسة)، وأموال مؤسسات منظمة التحرير والفصائل الأخرى في لبنان. (حوالي 15 ألف متلقي)، والتي تشكل جميعها رافداً مهماً إستفاد ويستفيد منه الإقتصاد اللبناني، مع عدم إغفال دور التحويلات التي ترسلها مجاميع الجاليات الفلسطينية في الخارج إلى أسرها في لبنان.
تشكل المصادر السابقة روافد مالية مهمة لدعم الإقتصاد اللبناني.. ففي حين يرسل العمال الأجانب ما يتقاضوه من أموال إلى أسرهم في الخارج بما يدعم إقتصاديات دولهم، بل ان اهم مطلب شعبي مرفوع من قبل جميع الساحات المنتفضة هو حجم الاموال المسربة للخارج وضرورة استرجاعها، فإن الفلسطينيين ينفقون جنى عملهم كاملاً في لبنان، إلى جانب الروافد المتعددة للتحويلات المالية من الخارج سواء العائلية منها، أو من خلال المؤسسات العاملة في الوسط الفلسطيني. وفي معايشة ابناء المخيمات اليوم يمكن ان تسمع عن اخ ارسل خمسة آلاف دولار، وعن عم وخال بعث بعشرة آلاف يورو.. وذلك بهدف التغلب على تداعيات الازمة الاقتصادية على الفلسطينيين في لبنان. وبالامكان القياس على ذلك. وفي تقديرات بسيطة لحجم مساهمة الفلسطينيين في الإقتصاد اللبناني، يتبين أن مساهمة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان قد تزيد عن ثلاثة مليارات دولار.. وهنا يمكن ان نشير إلى مايلي:
1- وفقاً للأرقام الصادرة عن وكالة الغوث، فقد بلغت قيمة الأموال التي أنفقتها الوكالة خلال أعوام 2016، 2017، 2018 نحو 229 مليون دولار، 232 مليون، و155 مليون دولار على التوالي موزعة على الموازنة بأقسامها الثلاث (الصندوق العام، الطوارىء، المشاريع التطويرية).. ناهيك عن مصاريف ونفقات الموظفين الدوليين التي تمول من خارج الموازنة العامة.
2 - الأموال التي تنفقها المؤسسات المختلفة التابعة لمنظمة التحرير والفصائل الأخرى في لبنان والتي تزيد عن 80 مليون دولار سنوياً وفقا للمعطيات التالية: في حساب بسيط لعدد أفراد قوات الأمن الوطني الفلسطيني والمنتسبين إلى الفصائل وكوادرها، ومخصصات أسر الشهداء والشؤون الإجتماعية، والسفارة وغيرها من المؤسسات والإتحادات، فإن العدد يزيد عن 15 ألف مستفيد. ولو إفترضنا أن راتب الفرد الواحد، كمعدل وسطي، يبلغ 400 دولار شهرياً، وهو طبعا اكثر من ذلك، فإن قيمة الرواتب تصل وحدها ما بين 70-80 مليون دولار بعد إضافة الموازنات الإدارية والنثريات (تقديرات خاصة).
3- الأموال التي تنفقها مؤسسات المجتمع المدني العاملة في الوسط الفلسطيني والتي يتجاوز عددها نحو 60 مؤسسة، كحد ادنى، وتعمل بشكل جدي، فيما العدد اكبر من ذلك طبعا. ولو إفترضنا أن معدل الموازنة السنوية لكل مؤسسة نحو مليون دولار، فهذا يعني أن قيمة ما تنفقه هذه المؤسسات يناهز الـ 60 مليون دولار امريكي (تقديرات خاصة).
4- التحويلات التي ترسلها الجاليات الفلسطينية في الخارج إلى أسرها في لبنان والتي تشكل مصدراً آخرا من مصادر الإنفاق الفلسطيني في لبنان. وعلى سبيل المثال فقط فقد تكونت معطيات لدى لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني أن عدد الفلسطينيين الذين يحولون جزءاً من دخلهم شهرياً من دولة الإمارات العربية المتحدة إلى لبنان بحوالي 35 ألف شخص، بمعدل 550 دولار أميركيا شهرياً، وبذلك تبلغ تحويلاتهم سنويا حوالي مبلغ 230 مليون دولار أميركي. وبإمكاننا القياس على ذلك باحتساب عدد الفلسطينيين المقيمين في دول الخليج العربي وفي أوروبا وأمريكا وكندا والذين يرسلون أموالا الى أسرهم في لبنان من أجل تقدير تحويلاتهم، مقارنة مع نحو 7.2 مليار دولار قيمة تحويلات اللبنانيين في الخارج إلى أسرهم في لبنان، ومع حوالي 3.6 مليار دولار أمريكي قيمة تحويلات العمال الأجانب إلى خارج لبنان، وفقاً لتقرير صادر عن «الإسكوا» في عام 2016.
5- إضافة إلى ما سبق، فهناك مصدر هام جداً وقد يكون الأكثر أهمية بين مصادر إنفاق الفلسطينيين في لبنان وهو قيمة الإنفاق الإستهلاكي للأسر الفلسطينية في لبنان والذي يقدر بنحو نصف مليار دولار أمريكي وفقاً لاحتساب التالي: يبلغ عدد الأسر المقيمة فعليا في لبنان أكثر من 55 الف أسرة وفقاً للتعداد العام للسكان الذي أنجزته الحكومة اللبنانية عام 2017 وبمعدل وسطي للأسرة الواحدة يبلغ أربعة أفراد ما يعني أن العدد هو حوالي 200 ألف فرد. وقد أشارت دراسة صادرة عن وكالة الغوث والجامعة الأمريكية في بيروت عام 2015 إلى أن متوسط إنفاق الفرد الفلسطيني في لبنان يبلغ 190 دولار شهرياً، أي 2.280 دولار للفرد سنويا، بمعنى أن مجموع ما ينفقه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان يبلغ حوالي 500 مليون دولار أمريكي..
إنطلاقا مما سبق، يمكن إحتساب التالي:
- 200 مليون دولار متوسط قيمة ما تنفقه وكالة الغوث.
- 80 مليون إنفاق منظمة التحرير والفصائل.
- 60 مليون حجم إنفاق المؤسسات الأهلية.
- 500 مليون دولار قيمة الإنفاق السنوي للفلسطينيين..
زد على ذلك خسائر الخزينة اللبنانية من قانون الملكية العقارية الصادر عن البرلمان اللبناني عام 2002 والذي منع على الفلسطينيين في لبنان التملك ولو بحدود شقة. ورغم ذلك، فان النقاش الدائر بشأن قانون التملك يتعلق بالفلسطينيين خارج اطار المخيمات، الذين لا يزيد عددهم عن 100 الف نسمة، علما ان التعداد العام للسكان الذي اجري من قبل مركز الاحصاء اللبناني تحدث عن 174 الف نسمة، لكن لنسلم ببعض الاخطاء التي قد تكون حدثت، ونعتبر ان العدد هو نحو مئة الف، فان العدد المرشح للتملك هو التالي:
100 الف نسمة ٪ 4 وهو الرقم المفترض لعدد افراد الاسرة الفلسطينية، فان حاجة الفلسطينيين من الشقق العادية هو 25 الف منزل تقريبا. ولو افترضنا ايضا ان سعر الشقة العادية هو نحو 50 الف دولار وان قيمة الرسم الضريبي على املاك الاجانب تبلغ 5 بالمائة، فان خسائر الخزينة اللبنانية هي حوالي 250 الف دولار في حده الادنى.
وبالتأكيد فإن حجم مساهمة الفلسطينيين في لبنان بالإقتصاد اللبناني لا تقتصر على مصادر الإنفاق فقط، بل وأيضا على الموارد البشرية، بما تختزنه من خبرات علمية ومهنية وحرفية وتربوية، وتشكل رافداً مهما في دعم وتطوير الإقتصاد اللبناني. وبالتالي، فإن أي مقارنة ما بين العمالة الفلسطينية والأجنبية لا يمكن أن تستقيم إلا في إطار المساهمة الإيجابية للفلسطينيين في تطوير القطاعات المختلفة للإقتصاد اللبناني.. وهو امر نضعه برسم العقلية والذهنية العنصرية التي لا زالت تتحكم بتفكير البعص خارج اطار المنطق والمصلحة العامة التي يجب ان تتقدم على كل اعتبار، بعيدا عن المصالح السياسية والطائفية البغيضة.
وسوم: العدد 860