معركة المواقع وحرب المناصب
د.مصطفى يوسف اللداوي
إنها حربٌ في كل مكان، وفي كل زمان، وهي مرضٌ ووباء، ومصيبةٌ وابتلاء، وهي ظاهرةٌ سيئةٌ لا يكاد يخلو مجتمعٌ أو دولةٌ منها، مهما إدَّعى الناسُ الصدق والإخلاص، والتجرد والتفاني والولاء، وحب الوطن والتضحية من أجله، والفناء في سبيله، ومهما علا شعار "الله، الوطن، الشعب"، فإنهم يكذبون فيه، وينافقون برفعه، ويتظاهرون بالدعوة إليه، ويخدعون الناس بترداده، لأنهم في الحقيقة يعملون لأنفسهم، ويسعون لمصالحهم، ولا يهمهم الشأن العام، ولا مصالح العباد، إنما الذي يعنيهم من الأمر كله أن يكونوا هم في المواقع المتقدمة، ويتصدرون المناصب الرئيسة، والمراكز الأولى، ولو كان ذلك على حساب الكفاءات والطاقات، وأهل الفضل وأصحاب الحق، ممن يستحقون المنصب أكثر منهم، الذين ثبت إخلاصهم، وتحقق ولاءهم، وظهرت أمارات تجردهم، وصدق زهدهم وعفافهم.
في العراق صراعٌ على المكاسب والمناصب والمواقع، واختلافٌ بين الفرقاء على إدارة البلاد، وتسيير الحياة، والتحكم في مرافق الدولة، وثروات البلاد، لا من أجل خدمةٍ أفضل للمواطنين، ونهوضٍ بشأنهم، وتحسينٍ لظروف معيشهم، بل من أجل حيازة أعلى المناصب، وأفضل المواقع، حمايةً للمصالح الشخصية، أو المنافع المذهبية والطائفية، وهم على استعداد لتدمير البلاد، وقتل العباد، إذا شعروا أن مناصبهم في خطر، أو أن سلطانهم قد يتزعزع ويضعف، وأن ملكهم قد يزول.
وفي ليبيا يرفعون السلاح في وجه بعضهم، ويقاتلون أنفسهم، ويخطفون قادتهم ورموزهم، ويهددون بتقسيم البلاد، والعودة بها إلى عصور الظلام، وأزمنة الغاب، فتحكمها العصابات المسلحة، والجماعات والقبائل المتعصبة، بحجة عدم الأهلية، وفقدان الصلاحية، في الوقت الذي يحمل فيه السلاح، كلُ من يبحث عن منصبٍ، أو يسعى لموقعٍ ومكانة، أو يرغب في إزاحة غيره، وعدم تمكين منافسه، رغم أن الذي يدفع ثمن هذا التنافس، وضريبة هذا التدافع المقيت، هو الشعب وحده، الذي يفقد أمنه وسلامته، ويخسر استقراره وطمأنينة باله على نفسه وبيته وأهله.
أما في اليمن، بلاد الحكمة والعقل، وأرض العرب القديمة، وبلاد عدنان وقحطان التي إليها ننتمي، ولنا فيها جميعاً أصلٌ ونسب، فتأبى إلا أن تمزق بلادها شر ممزق، وأن تعيث فيها كأشد مما يعيث فيها عدو، وما ذلك إلا لاختلاف القبائل، وتنازع الأحزاب، وعدم صدق القادة والزعماء، الذين يبحثون عما يعزز سلطانهم، ويقوي وجودهم، ويحصن مواقعهم، ولا يبالون في سبيل ذلك بخرق هدنةٍ، أو نكث إتفاق، أو الغدر بالأهل والجيران، والإغارة على الآمنين المسالمين، من السكان الأبرياء، الذين لا يفكرون في المناصب، ولا يتطلعون إلى المراكز، وكل همهم في الحياة، مأكلٌ ومشربٌ وعملٌ كريم، وبيتٌ ودراسةٌ وتعليم، وصحةٌ وجيرةٌ وحجٌ وحسن ختام.
وفي سوريا احتراب واقتتالٌ وحرقٌ وسفكٌ وقتلٌ وذبحٌ وإبادة، وتدميرٌ للبلاد، وتهجيرٌ للشعب، وتخريبٌ لبلاد الحضارة، وأرض الإنسانية، وحواضر الإسلام الأصيلة، فالنظامُ يحرص على البقاء، ويرفض الرحيل أو منطق الاستبدال، ويصر على البقاء أو الفناء، وفي سبيل ذلك تهون كل الخسائر والتضحيات، ولا يهمهم ما يصيب البلاد من دمارٍ وخرابٍ، ولو عادت إلى الوراء عشرات السنين، وتطلب عمرانها أضعاف ذلك من السنوات، فلا شئ يهم، طالما أنهم سيبقون، وغيرهم لن يكون مكانهم، ولن يحل في الحكم محلهم.
أما المعارضة السورية بتشيكلاتها السياسية والعسكرية، فقد اهترأت اختلافاً، وتمزقت تبايناً، وأصابها عرض الدنيا، وزيف المناصب الغائبة، وبريق الوظائف التي يظنون أنها آتية، فاختلفوا على تقسم المواقع، وتبادل المناصب، وتوزيع الغنائم قبل أن يتحقق لهم منها شئ، بينما الشعب يقتل، والمدن تدك وتقصف، والحصار يشتد، والجوع قد أنهك الأجساد، والمرض قد نال من حياة الكثير، بينما اختلاف القادة يشتد، وصراخهم يرتفع، وضجيجهم يزداد، وكلهم يطالب بحصةٍ أكبر، ومناصبٍ أفضل، وبعددٍ من المقاعد يناسبهم، ويتساوى مع قدرهم، على أن يكون منهم الرئيس والوزير والحاجب والسفير، يختلفون ولا شئ بين أيديهم، وتتصارع أجنحتهم العسكرية قبل أن يحققوا انتصاراً، أو ينجزوا أهدافاً، والشعب المعنى المجروح الشارد الهائم الضائع اللاجئ، هو وحده من يدفع الثمن.
أما مصر الكنانة، فلا شئ مزقها وذهب بقوتها، وشتت أهلها وشعبها الطيب، سوى التنافس على المناصب، والسعي للمواقع، والحرص على إقصاء البعض والاستئثار بالكل، والتفرد في الحكم والقرار، رغم ادَّعاءات الصدق والصلاح، والإخلاص والوفاء للثورة ومفاهيمها، وللشهداء وأهدافهم، وفي خضم التنافس البشع المقيت، يقتل الشعب ويسحق، ويغتال المستقبل ويصادر، ويجوع الناس ويحرمون، ويقاسي الأحرارُ والصادقون، ويكافئ الكذابون والمرجفون، ولا يهم الحالمون بالسلطة، والساعون لها، لو كان ثمن ذلك آلاف القتلى، وخراب البلاد، وفقدان ثقة المواطنين بمستقبلهم.
أما فلسطين وهي قبلة العرب، وهمهم القديم، وجرحهم المفتوح من سنين، فقد اختلف أبناؤها وانقسموا، وتحاربوا واقتتلوا، وبنوا في بلادهم لبعضهم سجوناً، وبينهم سدوداً، وأصبح لهم في أرضهم المحتلة المغتصبة، المستباحة المدنسة برجس الإحتلال، حكومتان ورئيسان وسلطتان، وفيهما سجونٌ ومعتقلات، ومحرومون ومعذبون، ومطلوبون ومعاقبون، وهم وإن اختلفت أسباب انقسامهم، وظروف اختلافهم، فإن السلطة أساس الفرقة، والمناصب ومراكز القوة هي لب الاختلاف، ومناط الوفاق واللقاء إن قررا ذلك، إذ اختلافهم على عددٍ وحصة، وخوفٍ من فوزٍ وغلبة، أو إقصاءٍ وخسارة، كلهم خائفٌ من إتفاقٍ ومصالحة، لا يبقي لهم على سلطة، أو يذهب ويفتت ما بقي لهم من قوة، ولا يهم الأطراف كلها، معاناة الناس وضيق عيشهم، وكرب ظروفهم، والجوع الذي قرصهم بنابه، وعضهم بألمه.
لا نستثني لبنان أبداً ولا ننساه، إذ هو في مقدمة الدول التي تقتلها المناصب، وتمزقها المواقع، فكل شئٍ فيه مقسمٌ ومعلوم، وكل طائفةٍ تعرف حصتها، وتتمسك بمنصبها، وترفض التنازل عنه، أو القبول بمبادلته أو مداورته، ولو كانت النتيجة جمود البلد، وتعطل الحياة، وانكماش الاقتصاد، وتدهور أحوال الناس المعيشية، وانشغالهم جميعاً بلقمة العيش ونفقات الحياة، ولكنهم يتمسكون بقسمتهم الضيزى رغم أنهم يعرفون أن لبعض المناصب من هو أكفأ وأكثر صدقاً وإخلاصاً، ولكن الحرص على مكاسب الطائفة، ومكتسبات الحزب، تفوق مصالح الوطن، وتدوس في طريقها كرامة وحاجة المواطن.
كيف يريد هؤلاء من شعوبهم أن يكونوا مخلصين لهم، وصادقين معهم، ويضحون بحياتهم في سبيلهم، وهم يعلمون أن همهم في الحياة منصبٌ ومكانة، وقيادة وريادة.
أيظن هؤلاء أن الشعوب سوقةٌ ودهماء، وجهلةٌ وغوغاء، لا يفهمون ولا يعقلون، وكالبهائم يساقون، يقودونهم بعصا كالقطيع، ويغرونهم بالعشب والكلأ ظناً منهم أنهم جياعٌ فقط، يبحثون عما يملأ بطونهم، ويروي ضمأهم.
وتناسوا أن هذه الشعوب حرة أبية، لا تقبل الضيم، ولا تنام على الظلم، وتهمها كرامتها، وتسعى لتحقيق عزتها، ونيل استقلالها عن كلِ مستبدٍ جبار، وتبذل حياتها لتكون حرة طليقة، لا يستعبدها بعد الله أحد، ولا يصادر قرارها إنسانٌ مهما عظم شأنه، وسما نجمه، وعلا ذكره، فالبشر غير الأنبياء والرسول خطاؤون، وهم غير معصومين من الإنحراف والزلل، ومن الضلال والخطأ، خاصةً إذا توفرت عندهم السلطة، وتحققت لهم القوة، وأصبحوا يتحكمون في أرزاق الناس وأعمالهم، ظانين أن شعوبهم غبية لا تفهم، وسادرة لا تعي، وعبدةً مسلوبة الإرادة لا تثور ولا تغضب.