أيها المخلصون... مايزال فى الوقت بقية لإنقاذ مصر
أيها المخلصون...
ما يزال في الوقت بقية لإنقاذ مصر
أ.د. محمود السيد داود
أستاذ السياسة الشرعية المشارك
بجامعة البحرين وجامعة الأزهر
لو قدر لفنان عبقرى اليوم، أن يرسم صورة لمصر على أنها أم لكل المصريين، لجاءت صورتها على هيئة ثكلى واهية، فى غاية الحزن والكآبة، وقد طال نحيبها، واشتد بكاؤها، ونفد صبرها، واختلطت الدموع بالدماء فى عيونها، وذلكم بعد أن فقدت الآلاف من أبنائها، ومن زهرة شبابها، وطليعة أبطالها، هذا فضلا عن ضياع مكانها، والإطاحة بمكانتها، وتدهور دورها، ونحول جسدها، وضمور اقتصادها، وضعف شقائقها، وشماتة أعدائها، ولقال عنها كل من رآها، هذه هى الثكلى التى اكتوت بالموت لأبنائها، والسجن والاعتقال لفلذات أكبادها، والخذلان من جيشها، والتزييف والتزوير من إعلامها، والجور والظلم من قضاتها، والبهتان من أحزابها، والتضليل من بعض علمائها، والتعذيب والاضطهاد من شرطتها ورجال أمنها، والفساد من مؤسساتها، والأخطاء الفادحة وضيق الأفق من رجال التيارات الإسلامية جميعا بها، والانبطاح والاستسلام من كثير ممن ينتمى لها ويفخر بأمومتها.
والنار التى تكتوى بها مصر اليوم، ليست فى الذى يصيب فريقا دون فريق، ولا فى الذى ينزل بجانب دون آخر، خاصة بعدما انقسمت مصر فى صورتها العامة إلى فسطاطين كبيرين، وحزبين متناحرين، وفريقين متضادين، فريق مؤيدى الشرعية وفريق المنقلبين عليها، إذ الجميع أبناؤها، وكل خسارة من رصيدها، والموت الذى ينزل بواحد من الجيش أو الشرطة، أو بواحد من الثائرين والمتظاهرين ينزل بها، والتخريب الذى يحل بأبنيتها أو بمدرعاتها وسياراتها يحل عليها، والرعب والزعر الذى يصيب أطفالها وأبناءها وبناتها يصيبها، والسجن والاعتقال الذى يطول رجالها وشبابها يطولها، إذ الجميع فى هذا المشهد المصرى الحزين بمصر، ومن مصر، وفى مصر، وإلى مصر، وعلى مصر، بمصر يفخرون، ومن مصر الفضل يستمدون، وفى مصر يتنعمون، وإلى مصر يفزعون، وعلى مصر وخيرها ونيلها وأرضها يعيشون .
والعجيب فى هذا المشهد المصرى الحزين والأليم، أن كل فريق مهما اشتد النزاع بينهما ومهما كثرت الضحايا، ومهما اشتد الخطب، ومهما سالت الدماء، ومهما اتسعت السجون والمعتقلات، فلن يستطيع أن يمحو أى واحد الآخر، أو أن يستأصل شأفته، أو أن يسكت صوته، أو أن يخمد حركته، أو أن يزيل أثره، والتاريخ خير شاهد على ذلك، خاصة وأن الثائرين اليوم ليسوا جميعا من الإسلاميين فقط، أو الإخوان المسلمين، وأن القتل والحرق والجرح، والاعتقال والسجن طال الاسلاميين وغير الإسلاميين، بل طال بعض أبناء مصر الذى أيدووا الانقلاب فى بداية الأمر، لكنه التهمهم وكشر عن أنيابه لهم بعد ذلك فى وقت لاحق .
وإزاء هذا كله وجب على العقلاء فى مصر، من رجال الجيش ومن القادة والزعماء والساسة والمفكرين والعلماء والمشايخ، وغيرهم من الأحرار الذين مازال حب مصر فى قلوبهم، والشأن المصرى فى المقام الأول يهمهم، أن يفكروا فى الخروج بمصر من هذه الأزمة المستحكمة، والمعركة الطاحنة، التى لا تصيب فى كل جوانبها ومع انقسام الشعب فيها إلا مصر فى كبدها، وفى أغلى ما عندها من طاقات بشرية وثروة إنسانية.
والأزمة التى تعيشها مصر اليوم فى أصلها قانونية ودستورية، حيث إن الذين أطاحوا بالدكتور مرسى أطاحوا برئيس شرعى منتخب، أفرزته الديمقراطية وصناديق الانتخاب، ولا يقوى على إزاحته عن السلطة إلا الشعب نفسه وعبر هذه الصناديق نفسها، ولا يكفى على الإطلاق كوسيلة لإزاحة الرئيس، خروج جزء من الشعب مهما كثر، لأن هذه الوسيلة غير مضبوطة، والقول بأن هذا الجزء يمثل الأغلبية يحتاج إلى دليل، والقول باعتماد هذه الوسيلة يؤدى إلى ضرورة اعتماد خروج الجزء الآخر الذى يخرج اليوم لإزاحة حكم العسكر والسلطة الحالية، ولا يقال فى ذلك إن الرئيس مبارك قد خرج من السلطة دون صناديق، إذ القياس هنا فاسد ومع الفارق، فالرئيس مبارك بقى جاثما على صدر مصر ثلاثة عقود، والأصل أن تنتهى شرعيته بعد عقد واحد على الأكثر، لكنه التزوير والتزييف وخراب الذمم وشراء الضمائر وتفصيل القوانين والدساتير هو الذى أوصلنا بالمشهد إلى ما رأينا، هذا بالإضافة إلى أن معظم المصريين كانوا على قلب رجل واحد فى ضرورة الإطاحة به، أما الرئيس مرسى فكان فى ظل ولايته الشرعية بكل تأكيد، ولم يكمل إلا عاما واحد فقط، وليس هناك دليل قاطع على أن الذين لا يريدونه هم الأغلبية، ومع ذلك تمت الإطاحة به .
والمخرج من ذلك كله بطريقة قانونية وشرعية، تسكت الجميع، وتخرص كل الاتجاهات إن كان ما يزال حب مصر فى قلوبنا، خاصة وأن الوقت ما يزال باقيا قبل انتخابات الرئاسة، فإن حدثت الانتخابات تعقدت الأزمة وصارت دون حل إلا على حساب مصر، هذا المخرج هو أن نستدرك ما فاتنا بإضافة خطوة واحدة إلى خريطة الطريق التى أعلنها المشير السيسى، وهى استفتاء الشعب المصرى على شرعية الدكتور مرسى، ولابد أن تتم هذه الخطوة قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة، وعلى أسوأ تقدير وتوفيرا للنفقات والجهود يمكن أن تتم بالتوازى مع الانتخابات الرئاسية، على أن يكون إجراء الاستفتاء قادرا على إلغاء الانتخاب إذا كانت نتيجة الاستفتاء لصالح د. مرسى، وإن كانت فى غير صالحه أعلنت نتيجة الانتخابات فى وضوح وشفافية ونزاهة .
ولا يقال إن خريطة الطريق يصعب تعديلها، فهى ليست وحيا ولا قرآنا، وتم تعديلها بالفعل، حين تم تقديم الانتخابات الرئاسية على الانتخابات البرلمانية، وعليه فلا يضيرها هذا التعديل أيضا، بل ولا يزعج واحدا من الطرفين، خاصة وأن فيه المصلحة المرسلة فى إنقاذ مصر. ولو يتوافر أدنى قدر من الحكمة عند من بيدهم زمام الأمور اليوم لما ترددوا فى الأخذ بهذا المخرج، لأنها هى التى ستسكت الأخرين، وستكون حجتهم دامغة بعد ذلك فى وجة العالم أجمع، وسيصلون بذلك إلى الاعتراف بهم فى الداخل والخارج، ويستطيعون حشد جموعهم، والمؤيدين لهم، حتى يصلوا إلى تحقيق ما يريدون، ويومها سيثبتون للعالم أنهم لم يطيحوا بالدكتور مرسى هباء ولا جزافا، ولكنها الجموع الجارفة التى اضطرتهم إلى ما يفعلون .
بقى أن أتوجه بهذا المخرج إلى الأحرار والشرفاء عامة من الفريقين، وإلى المؤسسة الدينية الأزهرية خاصة وعلى رأسها فضيلة شيخ الأزهر، مؤملا أن يتبنى هذا المخرج، وأن يدعو إليه وأن يقف من ورائه كل شيوخ وعلماء وطلاب الأزهر، وقد يأتى حل الأزمة على يديه، عندئد يكون قد قام بأروع الأدوار فى حقن الدماء بالفعل، وفى إنقاذ مصر، وكان هذا الإنجاز فى ميزانه، وسيفتح له التاريخ أحسن أبوابه، وسيجعله فى سجل الخالدين.