الضحايا قادرون على تحقيق النصر أحيانا!
في نهـــاية أيـــار- مايو مـــن العام الماضــــي، بــــدأت قــــنــاة نتفلكس بــثّ المسلســــل التلفـــزيوني القصـــــير (عندما يرونـــنا، When they see us) عالمياً، وسرعان ما أحدث المسلسل تأثيراً واسعاً في المجتمع الأمريكي بشكل خاص، لأن القضية التي تناولها متعلقة بأبعاد الطريقة التي يُطبق فيها القانون، والطريقة التي تفبرَك فيها التهم لتحقيق انتصارات مِهنيَّة لصالح المُحقِّقين، ودمار من الصعب إصلاحه للضحايا، وهنا هم المتّهمون.
خطورة ذلك المسلسل المكون من أربع حلقات، ويتناول قصة أربعة فتيان سود وواحد من أصل لاتيني، تكمن في باب الفرص الذي فتحتْه هذه الجريمةُ للفاسدين، من المحققين والمدعين، وما أصبحوا عليه بعد ذلك، (وهذه قضية لا يتناولها المسلسل درامياً، لكنها في الحقيقة حالات غير عادية، استثنائية، تستحق أن تُكتب روائياً وتقدم تلفزيونياً وسينمائياً)؛ فثمة مأساة معاكسة لمأساة الفتيان المتهمين زوراً، هي مأساة الناجحين زوراً أيضاً، وما آلت إليه أحوالهم بعد أن حققوا انتصارهم على الضحايا!
المسلسل متقن على المستوى الفني بصورة تدعو للإعجاب، وليس هناك شكّ في التقييم العالي الذي حصل عليه والجوائز التي حازها، والأداء الرائع لممثليه، وبخاصة ذلك الممثل الشاب الذي لعب دور كوري وايز، فقد كان ممثلاً مذهلاً استحق كل جوائزه.
.. ولا شك أن المستوى العالي للمسلسل هو ما ساهم في أن يكون مؤثراً إلى حدٍّ طاغ، فالقضايا الكبيرة، كما أردِّد دائماً، بحاجة إلى مستويات فنية عالية للتعبير عنها، وهذه قضية كبيرة بالتأكيد.
ما يعنينا هنا أن العدالة تحققت للمتَّهمين، ولكنها ليست العدالة الكافية؛ فأثر الضرر لا يمحى أبداً، لكن العار الحقيقي كان حصّة الفاسدين، باستثناء واحد لا غير! وهذا، دراميّاً، ليس داخل المسلسل، بل من نتائج ارتدادات الزلزال الذي أحدثه بعد بثّه، وهنا لا يستطيع الإنسان إلا أن يعتز بذلك التأثير، بل التغيير أحياناً، التي تحدثه أعمال أدبية، كما فعلت ذات يوم رواية «كوخ العم توم» وكما فعل هذا المسلسل، وكما يفعله الآن المسلسل الوثائقي، الذي بدأت نتفلكس بثّه عن خفايا اغتيال القائد الأسود مالكوم إكس.
الكاتبة الأمريكية، ليندا فيرستين، التي ارتكبت جريمة كبرى بحق الفتيان الأبرياء، حين كانت مدعية عامة ومحققة في الجرائم الجنسية، قبل تلك القضية، وخلالها، وبعدها، أصبحت كاتبة شهيرة فعلاً بعد تقاعدها، وأدرجت كتُبها ضمن قوائم الكتب الأكثر مبيعاً، وفازت بجائزة كبيرة باعتبارها واحدة من نساء العام 1993 لدورها الكبير في كشف القضية! هذه الكاتبة أتمنى أن يتناول عمل آخر قصة نجاحها الدامي، إلى لحظة سقوطها، حيث امتنع ناشرها عن نشر كتبها، فلا أحد يعرف من سيقرأ مؤلفاتها فيما بعد! مع أننا لا نستبعد أن تظل مقروءة!
حالة فيرستين هذه ليست فريدة في العالم، أبداً، بل لعلها جزء أساس من صعود رؤساء وكتاب ومدافعين وقادة للمجتمعات. وقد كان لزميلة فيرستين في القضية، إليزابيث ليدرر، ممثلة الادعاء حينها، نصيب من النجاح، إذ غدت أستاذة للقانون في جامعة كولومبيا الشهيرة، ولكن ظهور المسلسل دفعها للاستقالة من الجامعة أيضاً.
الضحايا قادرون على تحقيق النصر.. أحياناً.
الشريك الثالث لفيرستين وليدرر الذي نجا! وما زال ينجو من كل التّهم الموجهة إليه، هو رونالد ترامب، الذي ركز المسلسل على دوره في القضية حين كان (تاجر عقارات) في تلك الأيام، إذ راح ينشر إعلانات بعشرات آلاف الدولارات في الصحف، مُحرِّضاً، ومطالباً بتطبيق حكم الإعدام على هؤلاء الفتية الملونين الذي قُدِّموا كمجرمين اغتَصبوا امرأة بيضاء، وهو بذلك شريك في الجريمة بهذا التحريض، بتشكيله مناخاً عاماً ضد المتَّهَمين.
لقد تعامل الادعاء الأمريكي مع المتهمين باعتبارهم جزءاً من قطيع (أسود) هائج، قبيلة، اجتاحوا في ليلة الجريمة كل ما، وكل مَن صادفهم، كرعاع، منفلتين، لا كابح لهم، وهذه كانت أفضل طريقة لجرّ القضية إلى مسار عنصري، فهم أفراد قبيلة سوداء، وما الأولاد الذين تمّ القبض عليهم سوى عيّنة من أولئك الرعاع. لكن الحقيقة هنا تقول أيضاً إن كُلاً من رجال الشرطة والمحققين وخبراء الجريمة والمدّعين العامين والمدافعين عن ضحايا الجرائم الجنسية ضد الأطفال والنساء، تصرفوا كقبيلة بيضاء، إذ تواطأوا، تدعمهم صحافة وشخصية شهيرة، رونالد ترامب، بتحريضها ومالها، شخصية تستضيفها البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار، إضافة إلى شخصيات كثيرة معروفة، لا بدّ، لم يتطرق إليها المسلسل، لأن ترامب، هنا، ممثلها.
في بلد الحلم الأمريكي، يمكن أن يكون هناك عقاب أحياناً، لكن ذلك لا يحدث بالضرورة، فالتي أصبحت كاتبة، وزميلتها التي أصبحت أستاذة القانون، أكتُشِفتا وعُوقِبتا أخلاقياً على الأقل، أما ترامب فقد أصبح رئيساً وما زال، ولا تشكل هذه القضية الأخلاقية في جوهرها أي أثر على مساره، لأن هناك قبيلة تحميه، هي قبيلة الحزب الجمهوري، ومستعدة للدفاع عن جرائمه في مجلس النواب وفي الكونغرس، والأسوأ مستعدة للدفاع عنه في الشارع، وأعني الناخبين، وهو عدد مهول؛ عشرات الملايين!
يستدعي ذلك البيت الشعري العربي الشهير الذي تعددت تأويلاته، لكن جوهره المتداول يمتدّ إلى ثقافتنا الشعبية ويعشعش فيها، البيت الذي يقول:
ومَا أَنَا إِلا مِنْ غَزِيَّة إِنْ غَوَتْ…
غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّة أَرْشُدِ
البيت الذي تجدد في المثل الشعبي الرائج: «أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب».
هذا النزوع المتصاعد لفكرة القبيلة الذي وصل إلى ذرْوته في حالة ترامب، نراه في دول كثيرة في عالمنا الثالث، وما قبل الثالث بين حين وحين.
وهكذا من الطبيعي أن نصل إلى حقيقة أن ترامب الذي دعا إلى إعدام السود بماله، يمكن أن يقوم هو بنفسه بإعدام أي شعب على وجه الكرة الأرضية، وصفقة القرن هي قضية كبرى تتعلق بإعدام شعب، وهي بحاجة إلى ألف مسلسل.
وبعـــد:
لقد وجد ترامب، باعتباره زعيم القبيلة المنتصر في واشنطن، أفخاذاً لقبيلته الظالمة تلك، في قبائل عربية تدعم جريمته الجديدة بحق فلسطين، وتتبناها، وتكون في مقدمة غزوة القرن، وهي تهتف: أنا والغريب الظالم على أخي وابن عمي المظلومَين.
لكن المؤسف أن نتفلكس نفسها، التي تستطيع أن تفتح ملفات بهذه الخطورة في الغرب، لا تستطيع أن تنتج عملاً واحداً يقول الحقيقة عن فلسطين، أو أي مسلسل يمسّ دولة نفطية أو قمعية عربية، أو تلمّح إلى ذلك، وهذه الملاحظة ليست من الفراغ بل من وقائع إنتاجية حقيقية لا يتم تداولها إلا في نطاق ضيق.
وسوم: العدد 866