أوكلاهوما و«الحلم الأمريكي» المضرّج بالدماء
يوم 24 آذار/مارس الماضي، في مدينة كانزاس سيتي الأمريكية، اشتبكت مجموعة من عناصر «مكتب التحقيقات الفدرالي» مع تيموثي ولسون، 36 سنة، الذي رفض أمر القبض عليه وبادر إلى إطلاق النار، فقُتل. كان الرجل متهماً بالتخطيط لتفجير سلسلة مبانٍ عامة وحكومية وخاصة، بينها المشفى الجامعي في المدينة، والمركز الطبي الإقليمي، وأحد المساجد في المنطقة؛ وكان مكتب التحقيقات قد نجح في زرع عميل له واصل التنسيق مع ولسون طوال فترة الإعداد للعمليات الإرهابية، وخلال تحضير المواد الناسفة. وفي هذا كله، على صعيد الخلفيات السياسية والإيديولوجية مثل مزج مكونات التفجير الكيميائية، ظل الرجل يقتدي بشخصية تيموثي ماكفي، بطل تفجير «مبنى ألفريد ب. موراي» الحكومي، يوم 19 نيسان (أبريل) 1995، في أوكلاهوما؛ وهي العملية التي أسفرت عن مقتل 168، وجرح قرابة 680، وإلحاق الأضرار بـ 324 مبنى مجاوراً، و652 مليون دولار من الخسائر في الأملاك العامة والخاصة.
وقبل تفجيرات 11/9 الإرهابية الأشهر كانت عملية أوكلاهوما هي واقعة الإرهاب الأضخم في التاريخ الأمريكي، ولكنها واصلت الاستئثار بالصفة حتى بعد 11/9 على صعيد الإرهاب الداخلي الذي تتولى تنفيذه مجموعة إرهابية أمريكية. الأهمّ من هذا وذاك أنّ شخصية ماكفي، ورغم إعدامه في حزيران (يونيو) سنة 2001، يواصل إلهام شرائح أمريكية مختلفة، من حيث السنّ والمنبت الطبقي والحالة المهنية، تجمعهم عقيدة التفوّق العرقي الأبيض والنزوعات النازية وحسّ العسكرة وعبادة السلاح، فضلاً عن البغضاء العنصرية تجاه الأقليات العرقية والدينية. ويلوح، إلى هذا، أنّ حجم تأثيرات ماكفي تسلل إلى القضاء الأمريكي ذاته، إذْ سُجّلت أكثر من حالة تسامح من جانب القضاة إزاء موقوفين نُسبت إليهم مخططات إرهابية أو انحيازات عنصرية ونازية وميليشياتية صريحة.
ويوم 19 الجاري، هذه السنة، يكون ربع قرن قد انقضى على واقعة أوكلاهوما ويكون مداد كثير قد سال في توصيفها وتحليلها من جانب أخصاء السياسة وعلم الاجتماع وعلم نفس الإرهاب؛ إلى جانب أشغال مكتب التحقيقات الفدرالي ذاتها: 28 ألف مقابلة، 3200 كغ من أوراق التحقيقات، وقرابة مليار من المعلومات المفصلة. ومع ذلك، لا دلائل تشير إلى أنّ «العقل» الأمريكي، والمفردة لا تُلقى جزافاً هنا، قد تعلّم الكثير، أو حتى الحدّ الأدنى المطلوب، من دروس أوكلاهوما وشخصية ماكفي؛ الآن إذْ يجري تصعيد الترامبية إلى مستوى العقيدة الصماء المطلقة التي تضرب خبط عشواء، خاصة في أزمنة طارئة غير مسبوقة تواصل تكريسها جائحة كورونا، حيث لا منجاة للأمريكي القياسي نصير دونالد ترامب إذا تمترس خلف أسوار المحيط وتقوقع على ذاته وانعزل. فإذا كان يسيراً إدراك الأسباب التي تجعل تيموثي 2020 يقتدي بمواطنه تيموثي 1995 في استهداف مسجد، فهل اليسر ذاته يتيح استيعاب سبب استهدافه لمشفى جامعي متخصص بعلاج المصابين بفيروس كورونا؟ وأيّ «عقل» هذا الذي يقود ذهنية كهذه، لا تكتفي بتخطيط إرهابي يطال المشافي فقط، بل تذهب بصاحبها إلى درجة قتال رجال الأمن وملاقاة المنية على نحو عبثي مجاني.
والحال أنّ العقل كان أوّل الغائبين حين دارت طواحين أمريكا الرسمية، قبل تلك الإعلامية، لتوجّه أصابع الاتهام إلى «الإرهاب الإسلامي» في المسؤولية عن عملية أوكلاهوما؛ فسارع وزير الدفاع الأمريكي وليام بيري إلى الخيار الأسهل المتوفر أمام العقل المغيّب، واعتبر أنّ إرهاباً واحداً وحيداً يمكن أن يقوم بهذه «الفعلة الفظيعة»، وأنه لا يمكن إلا أن يكون… إسلامياً! ولقد تكفل اعتقال ماكفي (عن طريق الصدفة المحضة، للتذكير، ولأنه كان يقود بلا شهادة ويحمل سلاحاً غير مرخص)، بكشف النقاب عن دوافع التفجير المباشرة، من جهة؛ وبكشف سوأة الذين سارعوا إلى اتهام الإسلام والمسلمين، على نحو يقيني شبه مطلق، من جهة ثانية.
وسرعان ما اتضح أنّ ماكفي، وشريكه تيري نيكولز، ينتميان إلى ميليشيا شبه عسكرية، معادية لنظام الحكومة الفدرالية، واختارا للعملية توقيتاً يتناسب مع الذكرى الثانية لحصار مجمّع واكو واقتحامه، حيث قضى حرقاً 76 شخصاً، بينهم نساء حوامل وأطفال، من جماعة «الفرع الداودي».
غير أنّ ماكفي كان خرّيج مدارس «درع الصحراء» و«عاصفة الصحراء»، وقاتل ميدانياً في العراق، وتشبّع، أكثر فأكثر، أو أكثر من أيّ وقت مضى، بمكانة ثقافة العنف في دخيلة الأمريكي الأبيض، العنصري، نازيّ الميول، عسكريّ العقيدة. ولم يكن، أيضاً، بعيداً عن ثقافة رائجة يومذاك، ركائزها حكاية صدام الحضارات، والارتطام الثقافي المحتوم بين التراث اليهودي/ المسيحي (الغرب)، مقابل التراثات الإسلامية/ الكونفوشية (الشرق)؛ استناداً إلى تبشير أناس مثل صمويل ب. هنتنغتون، وبول جونسون، وبرنارد لويس، وفؤاد عجمي. ومن المعروف أنّ هنتنغتون كان، خلال الفترة ذاتها وفي مقالة بعنوان «الدين والموجة الثالثة»، قد اعتبر أنّ موجة الديمقراطية تجتاح العالم من أقصاه إلى أقصاه؛ باستثناء… العالم الإسلامي الممتدّ من المغرب إلى أندونيسيا، والعالم الكونفوشي الممتد في شرق آسيا.
على صعيد قانوني أسفرت عملية تفجير أوكلاهوما عن تشريع الكونغرس قانون مكافحة الإرهاب، الذي وقّعه الرئيس الأمريكي بيل كلينتون عام 1996، والذي يقول التالي في تعريف الإرهاب:
ـ تعبير الإرهاب يصف العنف المقصود مسبقاً، والذي تحرّكه دوافع سياسية، ضدّ أهداف غير قتالية، على يد منظمات محلية أو شبه محلية، أو عن طريق عملاء سريين، وذلك بقصد التأثير في الرأي العام.
ـ تعبير الإرهاب الدولي يعني الإرهاب الذي يصيب المواطنين أو الأراضي في أكثر من بلد واحد.
ـ تعبير المجموعة الإرهابية يفيد أية مجموعة رئيسية أو فرعية تمارس الإرهاب على نطاق محلي ودولي في آن معاً.
والحال أنّ تلك التعاريف ليست قاصرة وخرقاء فحسب، بل يمكن أن ترتدّ على أصحابها وتدينهم بما يدينون به الآخرين. إذْ، استناداً إلى حيثيات هذه التعريفات، سوف يكون من المشروع أن تُضمّ إلى لائحة الإرهاب جميع أجهزة الاستخبارات الغربية؛ التي مارست في السابق عشرات عمليات الاغتيال الفردي، وتدبير الانقلابات العسكرية، وزعزعة الاستقرار الداخلي للدول والأمم. ولسوف يكون من المشروع، والطريف أيضاً، أن تتصدّر اللائحة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية دون سواها، بوصفها «أمّ الوكالات» بلا منازع؛ وقد يليها في الأداء جهاز الموساد الاسرائيلي، ثم الـ MI5 البريطاني، والـ DST الفرنسي، وما إلى ذلك من مختصرات متمدّنة ذائعة الصيت.
ويوم أوكلاهوما، كما في يوم 11/9 وأيّ يوم إرهابي داخلي أو خارجي من حيث أدوات التنفيذ، ظلّ الخطاب الأمريكي الرسمي حول الإرهاب يبغض أيّ «تعقيد» يتقصد تأويل الأسباب الجوهرية الأعمق وراء الظاهرة الإرهابية؛ ولكنه، في المقابل، يعشق التعقيد كلّ التعقيد حين يتصل الأمر بالتحصين القانوني للحرب ضد الإرهاب. والإدارات المتعاقبة ترفض الإصغاء إلى دراسات (أمريكية مئة في المئة!) تشدّد على العلاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية والإيديولوجية وراء نهوض العنف، وانقلابه إلى إرهاب؛ وتُجمع على أن الإرهاب يهيمن، في ما يشبه الضرورة، حين تجد المجموعة الأضعف أنها مضطرة إلى استخدام العنف ضد المجموعة الأقوى في شروط من انعدام التكافؤ في موازين القوى. وأما حين تلجأ المجموعة الأقوى إلى استخدام المزيد من العنف ضد المجموعة الأضعف، فإنها تضيف إلى إرهاب الدولة الرسمي صفة القمع المطلق العاري.
25 سنة انقضت، إذن، وثمة العشرات من مشاريع الكمون الإرهابي تدغدغ أذهان أمريكيين حالمين بإعادة تجربة تيموثي ماكفي؛ حيث «الحلم الأمريكي» القديم/ الجديد ممتنع عن التحقق، إلا إذا تضرّج بالدماء.
وسوم: العدد 873