زلازل الإقليم الخمسة، تعليل ترتيب الزلازل الاستراتيجي
1-كان ينبغي أن أشرح في مقالة الأمس المبدأ الذي اعتمدته في ترتيب الزلازل. وها أنا استكمل المحاولة ببيان دلالة الترتيب الاستراتيجية. فقد بدأت بليبيا وختمت بمصر ووضعت بينهما سوريا فالسودان فالسعودية. فلماذا؟ وما العلاقة بين هذه الزلازل ولماذا بدأت بليبيا وختمت بمصر ثم وسطت بينهما من ذكرت؟ فما الرابط بين حجارة الدومينو التي ستتساقط تباعا في الاقليم كله؟
2-واضح أن البداية في ترتيبي بليبيا لا تحتاج إلى تعليل لأن الأمر في طريقه إلى الحسم في المدى القريب. لكن البداية به في ترتيبه مساعي تركيا الاستراتيجية هو الذي يحتاج إلى شرح. ألم يكن من الأكثر منطقية البداية بسوريا؟ هنا يأتي التعليل العميق: إيران وروسيا مستقران فيها وإسرائيل وأمريكا مستفيدان من دورهما. وكل مغامرة هناك لا يقدم عليها من يفهم التوازنات الدولية.
3-ولهذه العلة فالبدء بسوريا ليس في المتناول خاصة وما تحتاج إليه تركيا حققته فيها ويمكنها الاكتفاء به لأنها منعت الطوق الذي كان سيفصلها عن الاقليم بالحزام الإيراني الكردي حول حدودها الجنوبية وحالت دون تكوين دولة كردية تكون بداية لتقسيم سرويا ويليها ربما تقسيم تركيا والعراق. أكثر من هذين الهدفين مستحيل ما لم تضمن المساعدة الامريكية وهو ما تحول دونه اسرائيل على الأقل مؤقتا لخوفها من نجاح الثورة.
4-أما حصار تركيا البحري فهو لا يقل خطورة فضلا عن اهميته الاقتصادية. لذلك فقد كان بحاجة لحلف مع حكومة شرعية تمكنها من انجازه ضمن الشرعية الدولية. ولها بنحو ما ضوء أخضر أمريكي لقرب ليبيا من قواعد الحلف الأطلسي الأمريكية في غرب الأبيض المتوسط وأمريكا لا تريد حضور روسيا فيها حتى لو أغضب ذلك فرنسا واسرائيل. اما بقية المتدخلين من الأعراب فلا احد من الكبار يعنى بهم لعدم الوزن ولأنهم توابع صاغرة.
5-وكم يضحكني من يتكلم على شيطان العرب. الشيطان ذكي وتحدى حتى الرب وهو لا يتحدى حتى أدنى موظف اسرائيلي أو أمريكي. ولذلك كانت بداية الحسم في ليبيا لنفس الغرض لمنع الحصار البحري في الاتفاقية مع ثوار ليبيا بعد منع الحصارالبري في سوريا مع ثوارها. وفي الحالتين فتركيا كانت في وضع الدفاع الشرعي عن النفس وفي نفس الوقت شاركت في الدفاع عن الثورة بصرف النظر عن تبني مطالبها او عدمه: تطابق مصالح.
6-لكن دورها في الحسوم الثلاثة الموالية يمكن وصفه بكونه دورا هجوميا كالتالي.صحيح أن الثلاثة الباقية السودان والسعودية ومصر قضايا لها دور في السابقتين. لكنها لا تمثل خطرا مباشرا ومن ثم فدور تركيا هنا هجومي مع توسيع لفك الحصارين. والمشكل في الترتيب هو: لماذا جعلت مصر الاخيرة رغم أنها تعارض فك الحصار البحري وتحارب في ليبيا. والعلة هنا أيضا هي أن الوضعية أشبه بالوضعية في سوريا: لا يمكن لتركيا أن تحسم فيها لأنها لا تستطيع تحييد التدخل الاسرائيلي والأمريكي الحاميين لبلحة قبل أن يتغير التوازن في السودان والسعودية.
7-والمعلوم أن انقلاب السودان كان ضد تركيا بالأساس. فقد سعت تركيا في مساعدتها للسودان قبل الانقلاب فيه بالدخول من شرقه على واجهة البحرالاحمر الغربية. فسهل ذلك على خصومها من الثورة المضادة ضرب العلاقة بانقلاب المليشيات الشيوعية والجنجويدية وبتمويل الإمارات والسعودية وبمساعدة علنية مصرية إسرائيلية. ولم يكن لتركيا مدخل أكثر فاعلية من مدخلها عن طريق البحر الأحمر والقرن الافريقي. لكن الحسم في ليبيا سيمكنها من مدخل بري فعلي. فوجودها في ليبيا سيحادد للسودان في أقليم علاقة النظام الحاكم في السودان بأبنائه ليست على ما يرام.
8-هزيمة حفتر في ليبيا هي هزيمة بائع المواشي السوداني وعميل الإمارات وإسرائيل. وإذن فتحرير السودان بدءا بشماله المحادد لليبيا من العبث بأبنائه الذين تستعملهم الثورة المضادة مليشيات لمساعدة حفتر يصبح ممكنا خاصة والحضور في القرن الأفريقي حاصل. ومن ثم فالبداية ستكون بالتعامل الإنساني معهم وعدم اذلالهم ومساعدتهم في استرداد كرامتهم كبشر رغم وجودهم كمرتزقة في ليبيا.
9-وهذا في استراتيجية الحروب الحديثة أهم من القتال وقد يغني عنه. لذلك فالبناء على النظام الإسلامي في المرة السابقة لم يكن منطلقا موثوقا ومتينا لكن المنطلق الجديد أهم وهو الذي سيحسم مع الانقلاب في السودان لأن الشباب فيه فهم أنه قد خدع سعيد عميل الثورة المضادة بفرعيها شباب تونس.
10-سقوط الانقلاب الماركسي الجنجويدي في السودان سيكون المرحلة الثالثة في المواجهة مع الثورة المضادة العربية في الخليج وسيتغير التوازن الذي يمكن معه تحييد أمريكا وأسرائيل لأن سقوط نظام السودان الحالي مع ما يجري في الصومال سيجعل وجود تركيا في القرن الافريقي وفي البحر الاحمر وبحر العرب من ضرورات الامن في البحر الاحمر وبحر العرب فيقرب من الحسم في اليمن ليس قضيته الداخلية بل تدخل الحلف المتغادر قطباه والغادر بوحدة اليمن.
11-ولما كانت تركيا لا تعير أهمية كبيرة للإمارات لأنها لا وزن لها على الأقل معنويا فإن الإشكال كله هو مع السعودية بسبب الوزن الرمزي للحرمين والثقل الخليجي في استراتيجية الطاقة في العالم ولما كانت الأسرة الحاكمة نفسها ضد صاحب المنشار والشعب فقد ما كان يسكته بعد انهيار البترول فإن الحسم الرابع سيكون مع صاحب المنشار فضلا عن دافع الثأر لما فعله مع تركيا وقطر.
12-فلن تنسى تركيا عملية اغتيال خاشقجي على أرضها. ولن تنسى قطر حصارها الظالم. ففيه عبث بسيادتهما وهما لن يقبلا ذلك فضلا عن كونهما متحالفين وجيشه الاولى موجود على حدود السعودية في أرض الثانية. لذلك فالحسم سيكون في السعودية ليس بتدخل عسكري فيها بل بدور قد يطلبه اليمن الجريح والشعب السعودي وجيشه مل الحرب. ومن ثم فصاحب المنشار ساقط لا محالة.
13-فلا يبقى إلا بلحة. وهو لم يبق لأنه قوي بل لأن مصر بخلاف بقية بلاد العرب بينتها الاجتماعية والروحية يعسرأن تسمح بقيام ثورة فعلية حتى لو وقعت مجاعة. وذلك لأن أكثرمن ثلاثة أرباع شعبها ثقافته معادية لشروط كرامة الإنسان كما يحددها الدين الاسلامي والمسيحي بعد تحريفهما العجيب فضلا عن ثقافة حداثييا التابعة. والأمر ليس جديدا فما حكمت أبدا بشعبها بل بالقوة العسكرية دائما.
14-والأرباع الثلاثة هي: نصفهم تحكمه ثقافة الاستسلام للاقدار بالمعنى المعاكس لرؤية الإسلام للتغيير ممثلة بهيمنة علتها اقتصادية هي فقر الفلاحين الذين هم شبه عبيد لاسياد مسيطرين اقتصاديا وهيمنة علتها ثقافي هي الروحانية الزائفة للتصوف التي تجعل العامة شبه عبيد لأسياد مسيطرين روحيا. والنصف الثاني يتقاسمه المسيحيون والسلفيون والحداثيون بقيادات عميلة للغرب وللخليج: وإذن فسر حكم العسكر ليس طبيعيا في كيان الإنسان المصري بل هو تاريخي في ثقافته.
15-وما لم يفهم شباب مصر هذا الظاهرة فلن يستطيع تحريك ثورة إصلاحية كبرى تغير وجه مصر وتمكنها من دول هي أهل له. لذلك فمن العسير تصور ثورة شعبية ممكنة في مصر. فهي مستحيلة لأن هذه الثقافة العامة تعتبر ما يحصل قضاء وقدرا وتفرض الصبر المطلق مع تربية عجيبة رأيتها في مصر هي عبادة التاريخ الميت والمفاخرة بتراث لا يتجاوز دوره الدور السياحي واعتبار الآثار إنجازات رغم انها لا علاقة لها بشعب مصر الحالي.
16-ومنه تأتي خرافة أم الدنيا واستعظام أي شيء يفعلونه في حين أنه أدنى درجات مما ينتظر من أكبر شعب في الأقليم وأقدمهم تاريخيا ودولة. فكان من المفروض أن يكون رائدا ليس بالعنتريات الأيديولوجية كما في العهد الناصري بل بالمنجزات يجعل مصر متقدمة على تركيا بسبب مركزيتها بين جناحي الأقليم المشرقي والمغربي وأهمية موقعها بين العالمين الشرقي والغربي حتى قبل شق القنال.
17-وبدلا من أن يكون ذلك دافعا لدور رائد حقيقي شبيه بما سعت إليه تركيا في الماضي لما أسست الخلافة العثمانية ولما تسعى إليه حاليا من إرادة استرداد دورها ودور حلف في الأقليم -سعت إليه على الأقل مع السعودية ففشلت-يكون على شكل يشبه ما حصل في الوحدة الأوروبية فإن مصر بقيت تابعة إما لخرافة طه حسين حول غربيتها أو لخرافة "فلسفة الثورة" الناصرية مركزا لمجال حيوي تابع فكانت الحرب الاهلية بين العرب الهدامة للجميع.
18-فمفهوم العروبة الناصرية لا علاقة له بالعرب ولا بالاسلام. لما قرأت كتاب الثورة الذي لا شك في أنه من تأليف أكثر صحفيي مصر كذبا وخداعا حسنين هيكل لم أجد فيه إلا فكرة نازية تؤمن بها مصر الفتاة وهي جعل العرب والافارقة والمسلمين مجالا حيويا لمصر وليس سعيا لبناء قوة أقليمية يتساوى فيها الجميع في عصر العماليق. كل من يفكر في الحرب الاجتماعية قبل توحد أمته أحمق لأنها تفتت ولا توحد.
19-كلامي هذا قد يغضب الكثير من أصدقائي المصريين. لكنهم يعلمون أني أقول ذلك ليس تعييرا لشعب مصر -شتان بينه وبين ثقافة نخبه التي أذلته بها-بل توضيحا لما اعتبره عوائق دوره الذي يليق به. فمصر عزيزة على قلبي مثل تونس ومثل أي بلد إسلامي من اندونيسيا إلى المغرب. لكن إذا لم يصادق بعضنا البعض فإننا نواصل التكاذب وغش بعضنا البعض.
20-وتلك هي العلة التي تجعلني اعتبر ما يجري في مصر وخاصة بعد أن صار أغبى قائد يقودها من أكثر وضعيات العرب عواصة على العلاج. واعذر شبابها الذي كان له دور نقل الشرارة من تونس إلى كل العرب فكان لا بد من ضربه قبل الآخرين. ولذلك فإني اعتبر ما سيحدث فيها يقتضي تنظيف ما حولها كما يحدث عند قلع الضرس الخرب هو الشرط الضروري والكافي للتغيرالجذري في الثقافة الحائلة دونه ولكل شعوب الاقليم منها نصيب متفاوت.
21-حكم العسكر في مصر ليس قضية قوة وضعف بل هي قضية ثقافة ربت الشعب على الخضوع لنخب فاسدة ماديا وروحيا. ثقافة الاستسلام عند الفلاحين وعند المتصوفة وثقافة العمالة والاستلاب عند المثقفين الذين يدعون الحداثة -فكرة طه حسين التغريبية وفكرة مصر الفتاة النازية وعند قيادات المسيحيين والسلفييين هي العلة وليست قوة العسكر ولا ضعف الشعب. والأمر ملازم لتاريخ شعوبنا كلها لكنه أقوى في مصر وقد اعتبر ابن خلدون هذه الثقافة العنيفة في التربية وفي الحكم علة "فساد معاني الإنسانية"..
22-ومن اراد أن يفهم هذه الثقافة فليقرأ قصة"يوسف في التوراة" التي هي النقيض المطلق لقصته في القرآن. فهو نصح فرعون بأمرين جعلا الشعب المصري شعب أقنان بخلاف ما كان قبلهما شعب أحرار. نصحه بأن يجمع صابة السنوات السمان وأن يخزنها. ونصحه بأن يبادل بها في السنوات العجاب المزارعين الغذاء مقابل أخذ أرضهم.
23-فقد كان المزارعون مالكين لارضهم قبل السنوات العجاف فصاروا عبيدا فيها بعد أن صارت ملك فرعون: وهو مفهوم الاقنان.واعتقد أن ما حصل منذئذ لم يتغير.وبهذا المعنى فإذا لم يثر الفلاحون ضد تسليم رقابهم لأثيوبيا فإن مصرلن تتحررمن التصوف والقنانة وقيادات الحداثة والمسيحية والسلفية التابعة:فيحكمها أذل فراعنة مصر لقبه شعبه الواعي بـ"بلحة".
24-هذا رايي. وأعلم أن بعض أصدقائي سيغضبهم تصريحي به. وما أظنهم جاهلين به بل هم يخافون من أثره الذي هو شرط الزلزال الرهيب لثورة كبرى في الاقليم كله. وأهم شيء عجبت له لما زرت مصر أول مرة هو ما بين اغنائها وفقرائها من علاقة سيد بعبد لم أر له مثيلا. فاحتقار الغني للفقير ظاهرة كونية لكني أعتقد أنها تتجاوز كل ما يحكيه التاريخ ولا مثيل لها إلا في الشرق الاقصى وهي مضاعفة: عبودية احتقار مادية وروحية.
25-وتلك هي العلة في كلامي على عسر التغيير في مصر. واختم بحادثة حصلت لي في سفارة مصر بكوالالمبور. دعتني مكتبة الاسكندرية للمشاركة في ندوة حول الشيخ محمد عبده. طلبت التأشيرة. بقيت انتظر في مدخل السفارة. فجاء شخص تبين أنه السفير: كان تكبره على اعوانه عجيبا فحتى في عصر العبيد لا يعامل الناس بتلك الصورة. وخاطبني بما اجبرني على تأديبه بخطاب لن ينساه حياته إن كانت له بصيرة.
26-أعتقد أني قد شرحت الترتيب الذي اعتمدته في استراتيجية الزلازل التي أتوقعها وهو ترتيب ذو منطق مضاعف: ترتيب بحسب الفرص المتوفرة وهي يسر العلاج من الأيسر إلى الأعسر لأن علاج الأيسر ييسر الأعسر باعتباره مرحلة تكتيكية في العلاج الاستراتيجي. وترتيب بحسب الانتقال من صنف العلاج الذي يغلب علية مرحلة الدفاع إلى محرته التي يغلب عليها الهجوم: فمثلا المرحلة قبل الاخيرة تجعل دور تركيا في البحر الاحمر والقرن الافريقي وبحث العرب ضرورة استراتيجية عالمية.
27-وهو ما سيكون علة الصدام المباشر مع الثورة المضادة الخليجية. وفي الحقيقة فمن البداية الثورة المضادة التي تبدو مهاجمة هي ليست كذلك في الحقيقة بل تدافع وإن بصورة البدار أي بالحرب الاستباقية باعتبار بداية الثورة وخاصة شروع تركيا في استرداد ذاتها كلاهما بداية نهاية لاستئسادها الوظيفي في خطة إيرانية واسرائيلية وهي علة وجود الانظمة التي أنشأها الاستعمار بعد أسقاط الخلافة أو قبلها لأسقاطها حربا على الأمة.
28-ولأبدأ بما تقدم على سقوط الخلافة أي بما يفاخر به الكثير من المصريين. فنظام محمد علي ليس بداية النهضة ولا هو ثورة ينسبونها إليه. فهو لا يختلف عن المماليك إلا بالخيانة لأنهم على الاقل كانوا يدافعون عن دار الإسلام وحاربوا الصليبيين والمغول. أما هو فقد كان دمية مؤامرة ضد الخلافة خطط لها أكبر فيلسوف ألماني لايبنتس لتجحيم دورها من أوروبا في عصره اي في القرن السابع عشر وهي خطة لا تختلف عن خطة انجلترا ودورلاورنس العرب المعلوم.
29-واليوم نحن أمام خمسة لاورنسات: 1-في فرع الثورة المضادة الخليجي بقيادة اسرائيل 2-وفي فرعها بقيادة إيران في المشرق ثم بقيادة الانفصال العرقي 3-للعلمانيين الأكراد 4-والانفصال العرقي بقيادة العلمانيين الأمازيع 5-ثم كل عملاء فرنسا في المشرق وفي المغرب وخاصة في لبنان وفي تونس بالتعاون مع إيران وإسرائيل. وتلك هي عقبات الاستئناف الحالي: الثورة جعلتهم في رد الفعل.
30-وطبعا لولا وجود تركيا لتمكن السيسي من القضاء على أفضل من في نخبة مصر من المقاومين ومن في نخبة سوريا منهم ومن في نخبة اليمن منهم ومن في نخبة كل البلاد العربية التي ثارت شعوبها وتواصل جذوة الثورة بالوسائل الحديثة التي تعوض نسبيا الحضور المادي على أرض المعركة. وبذلك عدنا تقريبا إلى ما حصل في بداية الاستعمار حيث كانت تركيا المركز الذي يلجأ إليها جل المقاومين في كل أرض الإسلام: وهذا من المبشرات حاليا بسبب وسائل التواصل التي لم تكن موجودة حينها.
31-لماذا من المبشرات؟ لعلتين: أولا لم تعد النخب كما كانت وحيدة الثقافة وخالية الذهن من العلم بدواخل الغرب وسر قوته وكيفية التصدي له ولدور التواصل الحديث أهمية كبرى وثانيا وهو ربما العامل الأكثر تأثيرا اليوم هو أن تركيا وإن لم تعد بنفس الوزن الرمزي-الخلافة- فهي قد صارت بوزن كبيرماديا لأنها لم تعد الرجل المريض بل هي قد تعافت. وفي ذلك رمزية جديدة: نموذج يرجع الثقفة في حضارة الإسلام الحديث الذي يمكن أن يكون مبدعا للحداثة العلمية والتقنية دون حاجة للتبعية الحضارية.
32-وإذا كانت الخلافة قد جمعت المسلمين وهي الرجل المريض فتمكنت من هزيمة جيوش الغرب مجتمعة ومنعتهم من احتلال جزئها الأوروبي فكيف بها اليوم لا تستطيع اكثر حتى وإن لم تكن لها وظيفة الخلافة. لا أحد من الغرب حاليا باستثناء أمريكا وربما روسيا يمكن أن يربح حربا ضد تركيا. وقيادتها دارية بالرهانات لذلك فهي تناور ولن تقع في فخ الدخول في حروب قبل أوانها.
33-ودون أن ادعي علما في الاستراتيجية فعندي معرفة ببعض مبادئها. ولذك قدمت هذا الترتيب الذي يخضع لمبدأ معلوم وهو بالاساس تطبيق حرفي للتسلسل المنطقي الذي يجعل المراحل السابق منها معدا للاحق بحيث يكون كل نصر جزئي في الحقيقة خطوة نحو الضربة القاضية: وهذا المبدأ وضعه ابن خلدون جزئيا: المطاولة.
34-لكن ابن خلدون تكلم على المطاولة وكأنها ممثلة للطرف الأضعف ماديا في صراعه والمناجزة ممثلة للطرف الأقوى أي كما في الملاكمة لكأنه لا يرى الجمع بين الربح بالنقاط والربح بالضربة القاضية. وهذا ما ينقص رؤيته لذلك أضفت أن الجمع بينهما يجعل الثاني اضعف من الأول لأن هذا له فضل صمود القوة الروحية وذاك له عنف القوة المادية عديمة الصبر. لذلك اعتبرت جمع الخطتين سر الجمع بين القوتين. فالثورة الشعبية تطاول وتركيا تناجز وهما من صف واحد.
35- فتريكا تمد الحرب الشعبية بشرط البقاء إذ تحميها بمنع الاعداء من القضاء عليها والصمود الشعبي يعطي تركيا حرية اختيار فرصة المناجزة: النقاط في الملاكمة تقضي على قوة العدو المعنوية والضربة القاضية تقضي على قوته المادية. ولذلك كتبت على معركة ادلب وأكتب على معركة ليبيا لبيان أهمية الجمع بين نوعي الحرب. فلو لم تصمد المقاومة الشعبية أي لم تطاول بفضل المساعدة التركية لما ناجزت تركيا. ولولا قدرة تركيا على المناجزة لاستطاع النظام ومليشيات الملالي مع الطيران الروسي القضاء على المقاومة في ادلب وفي طرابلس. والله ولي التوفيق وناصر الحق.
وسوم: العدد 876