الإعاقة البدنية بين الرفض والقبول المجتمعي
قبل أن أحط الرحال في العاصمة البريطانية لندن في التاسع عشر من شهر تشرين الأول أكتوبر سنة 1990م، في رحلة الهجرة في المنافي والبلدان، وهي هجرة قائمة حتى اليوم رغم زوال العارض بسقوط النظام البائد، علمت بوجود اقرباء لي فيها، وقد حرصت على مد حبل الوصال إلى ذوي القربى الذين هم الآخرون عانوا ما عانى كل مهاجر من بلده قسرا، ومن القربى أستاذ جامعي حكم عليه حادث سير في الجزائر ان يكون أسير الكرسي المتحرك، فقدم إلى لندن للعلاج، فلم يسفعه الطب في استعادة كامل صحته أو الوقوف على قدميه، لكن العلاج أتاح له أن يعيش مع حالته الجديدة عبر كرسي متحرك وسرير خاضع للسيطرة وأن يتأقلم مع هذا الوضع إلى الدرجة التي أتاحت له، مع الإرادة والعزيمة، الإعتماد على نفسه كليا حتى في الطبخ والتسوق وقضاء مشاغل البيت.
بعد أن استقر بي المقام جنوب غرب لندن في بادئ الامر قبل الإنتقال إلى شمال غربها، بدأت رحلة دق أبواب ذوي الرحم وكان هو أولهم، وكلما طرقته عبر الهاتف لأرتب معه موعدًا لزيارته كما هي عادة أهل الغرب كان يؤجل لي اللقاء إلى وقت آخر، ربما لأنه لا يرغب أن أراه في كرسيه المتحرك، وهو الذي كنت أراه بين الفينة والأخرى في العراق في مدينة الكاظمية مسقط رأسه أو مدينة كربلاء مسقط رأسي ومحل إقامة والده خال والدي.
حاولت تقمص العادة الغربية وأن لا أزوره حتى يأذن لي لكن الحنين حكم عليَّ العودة إلى عادة أهل الشرق وحملت نفسي إليه وطرقت بابه من دون علم مسبق، ففوجئ بي عندما فتح الباب وهو في كرسيه المتحرك، ومع أن الزيارة غافلته لكنها أوقفت حركة عجلة الحظر النفسي التي وضعها كرسيَّه المتحرك، وأكثرت بعدها الزيارة وكلما جلست معه تعلمت منه قوة الإرادة وصلابة الموقف وتجاوزه لكل المحن التي عانى منها رغم صعوبتها، وله الفضل في دفعي إلى استئناف الدراسة الجامعية وتوجهي الأكاديمي، إنه الدكتور حسن عباس حسن (1938- 1993م) صاحب المؤلفين الشهيرين: (الفكر السياسي الشيعي .. الأصول والمبادئ) المطبوع سنة 1988م، وكتابه الآخر (الصياغة المنطقية للفكر السياسي الإسلامي) المطبوع سنة 1992م، اللذان بهما نال شهادتي الماجستير والدكتوراه من القاهرة، إلى جانب العشرات من المؤلفات والمخطوطات والدراسات التي كنت أراها تحيط به من كل جانب، وكان يأمل أن يقوم بطباعتها، ولكن الأجل نقله في شهر رمضان سنة 1413هـ إلى رب رحيم وقد ترك كرسيه المتحرك شاهدًا على أن الإعاقة لا تحول دون العطاء، وإن الإنسان بإمكانه الإستفادة منها في إنجاز ما لم يكن بإمكانه ذلك وهو في كامل قواه البدنية.
وهذا الموقف أعاده إليّ بالذاكرة كتيب "شريعة المعوَّقين" للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر في بيروت نهاية العام 2019م (1440هـ) عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة بين أسطرها 88 مسألة شرعية، تصدّره مقدمة الناشر وأخرى للمعلق الفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مهّد له المؤلف بمقدمة وافية، وانتهى الكراس بـ (27) تعليقة.
نظرة صائبة
تحكي كتب التاريخ أن الرومان كانوا يتخلصون من المعوقين وأصحاب العاهات والتشوهات الخلقية، ومثلهم كان يفعل الفراعنة، إذ كانت النظرة إلى المعوق نظرة نقص، وهي نظرة قائمة حتى اليوم في بعض مجتمعاتنا حتى تصل الى درجة أن يحبس الأب وليده المعوق في الدار حتى لا يطلع عليه حتى أقرب الأقربين، إلى أن يتوفاه الله، ولا يتقدم خطوة واحدة لعرضه على طبيب مختص ربما وجد له شفاء أو بعض شفاء، وهذا الأب محكوم بنظرة مجتمعية جاهلية قاصرة تكشف عن البون الشاسع بين نظرة المجتمع ونظرة الإسلام الذي توجه إلى الفرد كإنسان وكتب على كل واحد حقوقه وواجباته، فإذا كتب على السليم الدفاع عن الأوطان فإنه رفع الكتاب عن صاحب الإحتياجات الخاصة، مثلما كتب الحج على الميسور ورفعه عن المعسور حتى وإن كان الثاني صاحب عضلات، مثلما كتب الخمس على المالك ضعيف البنية ورفعه عن الفقير صاحب القوة، لأن الإسلام ببساطة نظر إلى الجميع نظرة واحدة، لكنه كتب ورفع حسب الظرف.
وبشكل عام فإن العاهة التي تصيب الجنين ويخرج الوليد معوقا، هي من عمل الإنسان وما كسبت يداه، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (إنَّ الخلقة الناقصة لها أسبابها، وهي ليست من الله جلّ وعلا بل من أمور ارتكبها الإنسان فأدَّت إلى هذا النقص أو ذاك العيب، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم كما تصرح بذلك الآية المباركة: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم. سورة التين: 4).
إذن من أين يأتي الخلل؟ هذا السؤال يجيب عليه الفقيه الكرباسي بقوله: (إن تأثير أعمال الإنسان والبيئة عامل أساسي في إعاقة الإنسان سواء كان نطفة أو قبل ذلك، بحيث تكون مؤثرة على والديه ومن ثم تنتقل إلى نطفته، فعلى سبيل المثال، الأشعة الضارّة للجسم بأي نوع من أنواعها فإنها تؤثر في الإنسان، وتنقل آثارها إلى المنيّ الذي يُمنى فإلى الطفل، وهذا من فعل الإنسان وليس من فعله تعالى)، وهذا الأمر ينسحب إلى معاقر الخمور ومدمن المخدرات، وهي حقيقة أثبتها الواقع وسجّلها العلم الحديث والأرقام الطبية.
من هنا فإن بعض الدول ومنها دول إسلامية تشترط في إتمام عقد النكاح والزواج إستخراج ورقة سلامة طبية من الأمراض الوراثية والمعدية القابلة للإنتقال عبر الجينات الوراثية، فإذا جاءت النتائج طيبة أمضت العقد وإلاّ وقفت أمامه، وهذه نعمة من نعم العلم الحديث الذي يمكنه أن يحد من المعوقين ولاديا رحمة بالوالدين وبالوليد وسلامة المجتمع حتى وإن كان الزوجان أبناء عمّ، ولهذا كما يضيف الفقيه الكرباسي: (لا يجوز للرجل أو المرأة استغفال الآخر لدى الزواج، وإذا تبيّن بعد ذلك فهو من موارد الفسخ)، ومن موارد الفسخ الجنون والعُنَّة ومجمل العيوب الجنسية لدى الطرفين غير قابلة للعلاج.
وبإزاء ذلك وردت السنن والأحاديث تمنع بعض الممارسات أثناء المقاربة الجنسية بين الزوجين، وتحذر من بعض الأوقات لتأثيرها السلبي على تكوين الجنين، وتحظر بعض الممارسات الفعلية والكلامية أثناء الممارسة مع الزوجة الحامل لأن الجنين يسمع ويتأثر بالمؤثرات الخارجية، وتحذر من تناول الحامل بعض المأكولات، وما أشبه ذلك، ومن وصايا الرسول (ص) للإمام علي (ع) في الزمان: (يَا عَلِيُّ: لَا تُجَامِعِ امْرَأَتَكَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ وَوَسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَإِنَّ الْجُنُونَ وَالْجُذَامَ وَالْخَبَلَ لَيُسْرِعُ إِلَيْهَا وَإِلَى وَلَدِهَا)، ومن الوصايا عن التكلم عند الجماع: (يَا عَلِيُّ: لَا تَتَكَلَّمْ عِنْدَ الْجِمَاعِ فَإِنَّهُ إِنْ قُضِيَ بَيْنَكُمَا وَلَدٌ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ أَخْرَسَ، وَلَا يَنْظُرَنَّ أَحَدٌ إِلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ، وَلْيَغُضَّ بَصَرَهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ، فَإِنَّ النَّظَرَ إِلَى الْفَرْجِ يُورِثُ الْعَمَى فِي الْوَلَدِ)، وفي الجانب الإيجابي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم اللّه جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقنا، فإن قدر بينهما في ذلك ولد لن يضر ذلك الولد الشيطان أبدا).
وبالطبع فإن الإعاقة الولادية أقل من الإعاقة ما بعد الولادة، مثل العمى لمرض أو كبر سن أو نقص عضو بسبب حادث، وخاصة أثناء الحروب، وما إلى ذلك، وهذه كلها منظورة بعين الله، فأوجد لها التشريعات التي تحفظ لهذا المعوق شخصيته المعنوية والحقوقية.
حق وأكثر
المعوَّق أو العاجز أو صاحب الإحتياجات الخاصة، وغيرها من المصطلحات القديمة والحديثة، اللغوية والطبية، كلها تدل على المنع ووجود الإعاقة والسبب الذي يمنع صاحبها عن أداء وظيفة معينة يمارسها غيره السليم، وهذا هو المعنى اللغوي لكلمة الإعاقة التي وردت مرة واحدة في القرآن الكريم في قوله تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً) سورة الأحزاب: 18، فالإعاقة كما يعرّفها الفقيه الكرباسي هي: (عجز الإنسان أو قصوره عن القيام بدوره بالشكل المطلوب بسبب خطأ غير طبيعي)، وعليه فإن المعوَّق: (هو الشخص المصاب بالإعاقة)، ولاشك أن: (الإعاقة قد تكون خَلْقيا وقد تكون بفعل فاعل او حدوث حادث).
في الواقع إنَّ المعوَّق مغلوب على أمره، بخاصة إذا كانت إعاقته كبيرة تحدّ من حركته وتمنعه من التفاعل مع باقي أفراد المجتمع، وهنا تأتي مسؤولية المجتمع في التعامل المثبت مع المعوَّق وليس إشفاقًا، وبتعبير الفقيه الغدير في تعليقه: "فالمعوَّق لا يقدر على ما يريد تحقيقه في الوصول إلى الهدف المطلوب والمقصود من خلقه، فيعدّ من القصر موضوعًا وحكمًا، بينما هو كسائر المكلفين مع فارق القدرة في أداء مهامه وتكاليفه، والله سبحانه وتعالى جعل كل مَن خَلق من المزايا الوجودية لعيشة راضية ومرضية، ولا يحق لأحد سلب سلامته وراحته من دون سبب شرعي أو عقلي أو عقلائي، كما في سلب الحقوق والحريات الفطرية، فالفطرة السليمة تقتضي تحقيق كل ما يرتبط بكمال الإنسان بما هو، والإنسان بطبعه الوجودي يميل إلى كسب الكمال).
بل إن المعوَّق المعوز له حق على الناس يأتيه من بيت المال بالعنوان الإسلامي، أو مصلحة الضرائب بالعنوان المدني، ولهذا يضيف الفقيه الكرباسي: (يجوز صرف الحقوق الشرعية على المعوَّقين حسب شروطها إن تحققت فيهم تلك الشروط)، وهذا الأمر أولاه الإسلام إهتماما كبيرًا، ففي بريطانيا مثلا التي تمثل أعرق الديمراطيات في العالم الغربي فإن الإعانة المرضية بدأت منذ عام 1948م في حين أنها دخلت مجتمع الجزيرة مع ظهور الإسلام، ولكن يبقى الأمر خاضعًا للحاكم أو ولي الأمر المبسوط اليد لتطبيقه، وهو ما جرى العمل به في العهد الإسلام الأول، ويذكر التاريخ أنه في سنة 86 للهجرة أجرى عبد الملك المرواني حاكم دمشق الصدقات على الزمنى- الإصابات المزمنة والعجز- والمجذومين والعميان والمساكين واستخدم لهم الخدّام، وأقام المشافي والمستوصفات.
ويفصل الكتيب في بيان مسائل الخنثى بوصف الحالة عوق جنسي وجسدي، وحقه أو حقها في التحول الى ما ينسجم مع الميول الفطرية والجسدية، والأحكام الشرعية المترتبة على الخنثى صاحب الآلة أو الآلتين الذكورية والأنثوية وبعد التحول إلى أحد الجنسين، ومسائل المولود برأسين بمركز تحكم واحد أو مركزين، والمولود بجسمين ملتصقين، ومسائل زرع الأعضاء الحيوانية في بدن الإنسان المعوَّق وحكمها من حيث الطهارة والنجاسة، وحكم الأعضاء الإصطناعية عند التطهر من غسل ووضوء، ومسائل من هذا القبيل، أنار الفقيه الكرباسي مشاعلها.
لاشك إن هذا الباب من أبواب الفقه، قلّما بحثها الفقهاء بشكل مستقل، وإذا تم تداوله فهي في مطاوي مسائل أخرى، ربما من باب غلبة توجه الخطاب الشرعي إلى الإنسان السليم بدنيا وعقليا، وبتعبير الفقيه الغديري: "إنَّ موضع الإعاقة من المواضيع الحديث في المباحث الفقيهة أولا وبالذات وفي المعالم التحقيقية ثانيا، وبالعرض أو بعكس ذلك، ولله در المؤلف المحقق آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي أيده الله تعالى الذي فتح باب البحث عنها من جانبها الفقهي"، وهي دعوة للفقهاء في المدارس الفقهية كلها لطرق الأبواب المسكوت عنها، والإعاقة منها، من أجل إخراجها من دائرة الحرج والرفض إلى دائرة العلن والقبول، والتعامل معها بصورة سليمة ودعوة المجتمع إلى التعاطي مع المعوَّق كإنسان له كامل الحقوق وأكثر، ولا يكون مَثَلُ الأب مع وليده المعوق مِثْلَ الأب الجاهلي مع وليده الأنثى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ. يَتَوَارَى مِنْ الْقَومِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) سورة النحل: 58- 59.
وسوم: العدد 876