تأملات موجعة في الذكرى الثانية والسبعين للنكبة
مخطئ من يظن أن النكبة كانت محصورة في الفلسطينيين، بل إن خطر الكيان السرطاني الذي زرع في قلب الأمة، ما زال يتمدد ويطيح بالدول والموارد والأحزاب ويهتك بالنسيج الاجتماعي لكل بلد، ويثير الطوائف والمذاهب، والأعراق والأديان والطبقات، ويطيح بالشرفاء ويعلي من شأن الخونة والسماسرة والقتلة والجهلة. لولا هذا الكيان لما نهبت الثروات، ولا دمرت المدن، ولا اجتيحت الحدود ولا تخلف التعليم، ولا تنمر الجبناء ولا وجد في أمتنا لا جائع ولا مشرد ولا أمّي ولا عميل. لولا هذا الكيان لظل العرب مسيطرين على أهم المواقع الاستراتيجية في العالم من قناة السويس، إلى باب المندب، إلى هرمز إلى الشاطئين الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط. ولامتلك العرب أهم المواقع التاريخية والدينية والمعالم الأثرية، التي دمر الدواعش الكثير منها.
لولا هذا الكيان، القاعدة المتقدمة لكل قوى الشر والهيمنة، والاستعباد والاستكبار، والتدخل وصناعة الحروب، لأصبح عالمنا العربي جنة الله في الأرض، يضم أجمل الأنهار وموائل الحضارات، ومواقع الأديان السماوية كلها، ولا وجد فيها قائد مستبد أو طاغية أو مهووس، ولتحولت مداخيل النفط العظيمة إلى نعمة لا نقمة، تبني وتشيد وتطور وتوحد.
زرع هذا الكيان في قلب الأمة، ليفصل جناحيها ويبقيها متخلفة متنازعة، تبدد ثرواتها وتحرف بوصلتها، وتعمل على ما يرضي الغرباء لا أبناء البلاد. قيادات رخوة مركبة على مقاس الأعداء في السر ثم العلن، سهّل كل هذا الخراب. لذلك فالنكبة الفلسطينية عام 1948 إنما كانت نكبة جماعية للعرب، ومن ظن غير ذلك فهو مخطئ لا محالة. وما تلك الأصوات الغريبة الشاذة، والخارجة عن السرب، التي تنعق في بلد أو بلدين، إلا زبد لا ينفع الناس وسينتهي به الأمر إلى مزبلة التاريخ.
نكبة فرّخت نكبات
في كل سنة وكل شهر وكل يوم وكل ساعة نتلمس ونعيش ونشاهد نكبة جديدة في مكان ما في الوطن العربي. وكلما نهض جيل ليحمل الراية، ويقسم على التغيير تعثرت خطواته، وواجه عقبات لها أول وليس لها آخر من خصم أمام عينيه، وخصوم من خلفه يطعنونه ويحاصرونه، أو يرمونه بالحقيبة خارج المخيمات.
صحيح، إن النكبة صنعها الغرباء أعداء الأمة والإنسانية، لكن الجسم العربي كان باليا وممزقا فتقبلها بسهولة. وصحيح إن النكبة نسجتها حبال الأقوياء المدججين بمنطق القوة والظلم، لكن وقع ضحيتها الأبرياء المعدمون، وثبتها الإخوة الحاضرون الغائبون. كان يمكن للخطيئة أن تصحح، وللشمل أن يلتم، وللقوى أن تتكاتف، لكن «العروش والجيوش» كانت في واد آخر لا علاقة لها بالبؤرة السرطانية. النكبة تجذرت أكبر في غياب القيادة، وانعدام الرؤية السليمة في المنطقة برمتها، ولاختلاف المسالك والمشارب والأهواء فلسطينيا وعربيا. كان يمكن تصحيح المسار، لو كانت هناك رافعة وطنية متينة، تلتف الأمة حولها وتقود مسيرتها.
وعندما تلاقى أبناء المخيمات والمشردون والمثقفون الجدد، ونهضوا ليصحّحوا شيئا من التاريخ، زجوا في معارك جانبية وخلافات قبلية، فاستفزوا في ساحات غير ساحتهم، وفي معارك ليست جزءا من معركتهم. استهلكت تلك المجموعة النظيفة الجادة في تفاصيل الوضع العربي، فأصبحت مطاردة ملاحقة من كل أجهزة المخابرات، فآثرت بعض قياداتها الرخوة، أن تتكيف مع الوضع البالي فقد أتعبها أن تكون «عكس المرحلة». أغدقوا عليهم ففسدوا وأفسدوا، وحمّلوا ورحلوا مرات تاركين وراءهم أبناء المخيمات للمقصلة.
اثنان وسبعون عاما والكيان يأخذ بأسباب العلم والتكنولوجيا والسلاح المتطور، وأمتنا تواجههم برزمة من الحروب الداخلية، والاستقواء بالأجنبي، وبالتضييق على أبناء المخيم أكثر وأكثر. هم ثبتوا القطع المسروقة، ونحن ضيعنا حتى الجزء الذي بقي في أيدينا. وها هم قادمون في الأول من تموز/يوليو ليقضموا مزيدا من الأرض الغالية على قلوبنا. ويخرج كبير(نا) بالتهديد بوقف الاتفاقيات. كم سمعنا هذه الأسطوانة المشروخة، مللنا. ما زالوا يستمدون أسباب وجودهم من الاتفاق الكارثة، وسراب السلام، ووهم الدولة والتكيف مع الواقع، رافعين شعار «الحياة مفاوضات». لقد نجح الكيان وصانعوه في إدخال الهزيمة إلى قلوب الأنظمة، واحدا تلو الآخر، فأغلقوا حدودهم، وأعفوا المحتل من تلك المسؤولية، ثم استداروا واصطفوا معه، ورحبوا به زائرا عزيزا في قصورهم. وعندما وصلت السكين عنق غزة، وقفوا يتفرجون على دمها المسفوك ببلاهة غير معهودة، ويطبقون الحصار عليها، ويقطعون عنها الماء والكهرباء والماء وقنينة الحليب.
النكبة أصبحت سطورا في الصفحة الأولى في دفتر المعاناة الكبير. ففي عام 1967 ولدت نكبة جديدة من رحم النكبة الأولى. ثم ما لبثت أن حلّت نكبة أخرى، يوم انهارت المقاومة في الأردن، وخسرت الحضن الدافئ الذي ضمها لأكثر من ثلاثة أعوام. وما لبثت المأساة أن تكررت في لبنان وسوريا، وخسرت المقاومة الدعم الشعبي الشامل لكثرة ما سُمي وقتها بالتجاوزات. أغرقت البترودولارات جيوب الكثيرين، فتحول البعض إلى مقاولين بدلا من مقاومين، ونزلاء للفنادق بدل الخنادق. النكبة تكرست بعدما خرجت قيادة أرض الكنانة إلى كامب ديفيد، لتوقع وثيقة الهوان وتختصر خطيا حقوق الفلسطينيين في «حكم ذاتي». وما لبثت القيادة اللاهثة وراء سراب الحلول، أن فكت عن النظام نفسه سور العزلة، بعد أن كان الموقعون على وثيقة الكامب معزولين وخائفين بعد حادث المنصة. النكبة تكررت عندما قام نظام عربي ليضرب مسمارا آخر في نعش التضامن العربي، عندما احتل بلدا عربيا آخر وألغاه من الخريطة. لقد حاولت الانتفاضة الشعبية العفوية، أن تصحح بعض الخراب الذي أنتجته النكبات المتلاحقة، غير أن الالتفاف عليها سرعان ما كتب نهايتها في مدينة في أقصى الشمال الأوروبي تدعى أوسلو. أوسلو كانت وما زالت أم الكوارث، ونكبة النكبات ومصيبة المصائب. لقد عبّدت القيادة الطريق للاتفاقية، بعد أن أعلنت من منفاها في الجزائر الاعتراف والتخلي عن «الإرهاب» وأعلنت «باسم الله وباسم الشعب» قيام دولة فلسطين. ولم يمض وقت طويل حتى تبيّنت كارثية إعلان دولة الوهم. ثم اختار القائمون على دولة الوهم تلك أن يدخلوا إلى قفص يملك السجان مفتاحه الوحيد، وأصبحت مهمة الدولة الوهم، ضبط الأمن داخل السجن الكبير، كي يعفى السجان من تلك المسؤولية. أوسلو لم يكن رخصة دولية لإقامة الدولة المستقلة، بل التخلي طواعية عن الوطن الجميل، الوطن الذاكرة، الوطن التاريخ، والتخلي عن ثلاثة أرباع الشعب في منافيهم الشتّى، والقـبول ضمنا وطواعية وبدون مقابل أن يوصف الكفاح العربي لحل النزاع بأنه «إرهاب» ذميم، وأنهم سيتخلون عنه وعن العنف وعن التحريض. لم يبق إلا أن يتغزل المحتلون بجمال ورقة وعدالة الاحتلال، وإلا فتهمة الإرهاب جاهزة. قيل لهم يجب أن تغيروا الخرائط فغيروا، وأن تبدلوا المناهج فبدلوا، وأن تسهروا على راحة وأمن المحتل فسهروا، وأن تسموا المناضلين بعد ذلك الاتفاق إرهابيين فسموهم بالمشاغبين والعبثيين والمتطرفين والخارجين عن القانون- قانون أوسلو.
إن أكبر نكبة حلت بالشعب الفلسطيني منذ أكثر من خمس وخمسين سنة هي في قياداته المتعاقبة. قيادات تنقصها الرؤية الصحيحة والوعي الشمولي والتصميم الجاد والعزم، الذي لا يلين، والتحليل الصائب، والتمسك بالوطن وتلك لعمري أمّ النكبات. وبعد سنوات النكبة هذه، ألا يستحق هذا الشعب قيادة فذة عصيّة على الكسر، قادرة على لملمة الشظايا وتوحيد المبعثر والانطلاق نحو هدف يجمع عليه الفلسطينيون في كافة سجونهم ومنافيهم؟ إن ثقتنا ما زالت راسخة في شعبنا الفلسطيني مدعوما بأمته. إن شعبا ينتج مفكرين وشعراء وروائيين ، وفنانين وقادة ميدانيين وقادة سياسيين وقادة فصائل شرفاء ، لن يصاب بالعقم أبدا، ولا بد أن ينتج حركاته الثورية الصحيحة وقيادات على مستوى المسؤولية والتحدي توصله يوما إلى برّ الأمان.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز بنيوجرسي
وسوم: العدد 877