صوت من ذاكرة المجزرة.. كي لا ننسى
لا يمكن للضحايا أن يتجاوزا الذكرى، فالذكرى هي رد اعتبار لهم وهي عدالتهم المرتقبة، بها تعتبر الشعوب من مآسيها، ومن ذكرى تجاربها الدامية تستخلص البشرية حكمتها.
«أم علاء» فوزية حسين الخلف من أهالي مزرعة السد التابعة لبلدة الحولة في ريف حمص، زوجة «سمير حسين عبد الرزاق» أم لثمانية أبناء (سبع بنات وشاب وحيد اسمه علاء)، هي إحدى الناجيات من مجزرة الحولة، تعود بالذاكرة إلي ما قبل خمس سنوات، إلى تلك الليلة في 25/5/2012 لتستعيد وجوه أحبتها الذين قضوا ذبحاً وإعداماً واغتصاباً، ولتذكّر العالم بمعدن نظام الأسد وشبيحته، وبأحقية الثورة ووجوبها، بعد ما مر من زمن بدأ فيه الكثيرون يحاولون تجميل وجه هذا النظام وتنظيف آثاره.
ففي 27/5/2012 ظهرت أم علاء في مقطع مصور مع امرأتين مصابتين يسردن روايتهن التي يصعب على البشر استيعابها لشدة وحشيتها، عما حدث معهن في تلك الليلة.
تقول أم علاء في التسجيل المصور:
«قتلوا 20 شخصا في بيتنا، زوجي وبناتي الأربع (سوسن 21 سنة وهدى 18 سنة وندى 12 والصغيرة كانت بعمر العشر سنوات)، كما قتلوا زوجة ابني الحامل في شهرها السابع وطفل كان على صدرها اسمه سمير على اسم جده، وأختي وكنتي وأولادها الاثنين وابنة عمي وأولادها الأربعة وسلفتي وابنتها، في مجزرة لم نسمع أن مثيلا لها قد حدث.
حدثت المجزرة في مزرعة تبعد عشرة كيلومترات عن الحولة، نائية ومقطوعة ومتاخمة لقرى العلويين كـ «القبو والشرقلية والغور وفلة» ومفرزة المخابرات التي تعلوها والقريبة منها، لذلك لم يكن لساكني تلك المزرعة من مهرب حين بدأ التوتر يسود المنطقة مع بدء الاشتباكات بين الجيش الحر الذي حاول السيطرة على المفرزة وبين الجيش والشبيحة من أهالي تلك القرى.
وفي يوم الجمعة وقت آذان الظهر بدأ القصف، كان في البيت (فوزية وزوجها وأولادها وسلفتاها وأولادهما وابنة عمها وأولادها الأربعة وأختها وابنتاها وزوجة ابنها)، قصف بالصواريخ وقذائف الدبابات والمدفعية والقناصات، كان الخروج بمثابة الموت المحقق.
كنا نشاهدهم من نافذة المطبخ تقول «أم علاء» حينما دخلوا على «المزرعة» كانوا يطلقون النار على كل شيء حي، على الأغنام والبقر ومن ثم البشر، كنا نصرخ ونبكي ونستنجد لكن لم يكن هناك من يسمعنا، فالجيش الحر بعيد وأصوات القذائف والقصف تطغى على كل صوت.
الشهيد سمير حسين عبد الرزاق
وفي الساعة الرابعة من فجر السبت أتى الشبيحة بابن عمي «عمر» مكبل من يديه، رموه على الباب، ركضت ابنتي رشا لتفتح الباب لهم فامسكوها كغنيمة، لحقت بها سلفتي بيان لتخلصها لكنهم ضربوها كما ضربوا زوجي بأخمص البندقية فوقع على الأرض مغشيّاً عليه.
جمعونا في غرفة متطرفة بالقرب من درج السطح، وفتحوا النار علينا بشكل عشوائي، ثم هجم أربعة منهم على من بقي حيا بالضرب والإهانة والرفس والاغتصاب، كان زوجي على الأرض، حين توسلت إلى أحدهم أن يدع ابنتي سوسن وكان يهم باغتصابها، وشققت عباءتي وعرضت نفسي بدلاً عنها.
اغتصبني اثنان منهم ومن ثم اغتصبوا ابنتي سوسن 21 عاما أمام زوجي الذي كان يصرخ ويبكى قبل أن يطلقوا النار على رأسه، كنا 27 شخصاً في ذلك البيت لم يخرج منا سوى سبعة أحياء، كانوا يتفقدون الأطفال والنساء ومن بقي حياً كانوا يجهزون عليه بالسكين – «كانوا يعبرون بنا».
شقيقتي خلود هي وابنتها رهف وطفلتها زهرة النائمة في الغرفة الأخرى كانت قد جاءت لتختبئ في بيتنا، توسلت لأحد الشبيحة: «أرجوك دعني أجلب ابنتي زهرة واقتلني أنا وبناتي معاً» شتمها وسبها وشدها من شعرها وضربها بقدميه وأطلق رصاصتين على الطفلة زهرة التي بقيت حية، لا زلت أذكر ولن أنسى كيف كان أطفالي يتمسكون بي ويستغيثون بي يصرخون «ماما»، لكني كنت عاجزة أمامهم بينما كان أبوهم مقتولا عند الباب.
عذبونا بشكل سادي وتحرشوا بالصغيرات بوحشية، داسوهن بأقدامهم شدوا شعرهن إلى حد الاقتلاع ومزقوا ملابسهن، كان صراخ النساء والأطفال يملأ المكان والدماء متناثرة على الحيطان، «فاكر» الذي قام باغتصاب ابنتي سوسن قتلته رصاصة في رأسه أطلقها رفيقه بالخطأ، ليقوم أحد العناصر من الغوطة بذبح ابنتي سوسن بالسكين وهو يشتمها ويشتم الله أمام عيني.
شددت بعباءة أمعاء ابنة عمي الخارجة من بطنها، قالت لي أخذوا ابني مرهف معهم كانت تضع أولادها وتصرخ فوقهم وتنادي لزوجها سمير الميت تظنه حياً، كنا نصرخ معاً على أبنائنا الموتى، غادرنا الشبيحة هاربين بعد أن أصيب أحدهم وقتل.
وفي الساعة السابعة صباحاً استيقظت، أيقظتني ابنتي هبة من غيبوبتي، رأيت زوجي المرمي عند الباب والرصاصة في رأسه، ابنتي سوسن عارية مذبوحة، أنا وأغلب الفتيات عاريات، منفوشات الشعر ممزقات الثياب والدماء والأشلاء تملأ الغرفة.
جلست في وسط الغرفة كنت في حالة من الذهول والصدمة والرعب، حتى لم تعد لدي القدرة على الوقوف، وحين استجمعت قواي صعدت إلى السطح، كنت أبحث عن أي إنسان ينقذ من بقي منا، وكان القصف مازال مستمراً، وحين عدت إلى الغرفة وجدت السكين الذين ذبحوا بها ابنتي، لم يكن هناك سوى دماء أبنائي وأشلائهم الذين كانوا مكومين بداخل الغرفة كنت غارقة بدم أبنائي ولم يكن أحد هناك غير أصوات العصافير في ذلك الصباح.
حين سمعت كلام أحدهم وصوت يسأل لم أبواب بيتنا مفتوحة بهذا الشكل؟ لمَ لم يجيبوا على هواتفهم؟ خرجت عارية كما تركني المجرمين، وما أن رآني عناصر الجيش الحر حتى أخذوا يضربون أنفسهم ويصرخون مفجوعين، لفوني بالستائر وغطوني بأغطية رؤوسهم، فقلت لهم أخرجوا أبنائي الأحياء، ابنة أختي زهرة عمرها 42 يوماً التي أصيبت بطلقتين ما تزال حية في إحدى الغرف، كانت الصواريخ وقذائف الدبابات تتساقط في كل مكان وصراخ المصابين والأطفال والنساء تصم الآذان.
في طريق صخري وعر، حملنا شباب الجيش الحر على أكتافهم كنت أنا وابنتاي هبة ورشا وابنة أختي زهرة وابنة عمي فاطمة وأثنان آخران الأحياء فقط من بين 27 شخصاً، مشوا بنا مدة نصف ساعة وهم يدورون بنا بين الصخور حتى وصلنا إلى حافلة صغيرة أوصلتنا إلى كفرلاها.
الطفلة هبة عبد الرزاق الناجية من المجزرة
أوصلونا إلى المشفى وعالجوا جراحنا وخرجنا من غرفة العمليات على قيد الحياة كي نكون شهوداً على تلك المجزرة، كي نروي وحشية هذا النظام للعالم.
اتصل بي أحد الشبيحة واسمه «عماد» وهو من أبناء القرى القريبة منا وقال لي سأجعلك من أغنى الناس إن قلت أن من قام بهذا العمل هم الجيش الحر وهم من قتلوا أبنائك واغتصبوا بناتك، لكنني رفضت لأنني أخاف من الله وأخاف أن تموت الحقيقة وأن يموت دم الأطفال والنساء والمستضعفين الذين ماتوا بلا ذنب.
هربوني من الحولة إلى تل دهب ومن ثم إلى الزعفرانة ومن ثم إلى تركيا، كانوا يلاحقوننا أنا وبناتي ومن شدة خوفنا تخلصت من هاتفي الخليوي تحسبا من ملاحقتنا ولظني أنهم قادرون على تحديد مكاننا عن طريقه، واليوم أعيش في مدينة الريحانية في جنوب تركيا، أقوم بأعمال منزلية تعيلني مع بناتي وبنات أختي وبمساعدة من بعض الجمعيات الخيرية التي تكفل الأيتام.
لا أتمنى ما عشته لأحد ولا أريد لأحد أن يرى جزءاً صغيراً منه، لم أكن لأصدق أن البشر يمكن أن ينحطوا إلى هذا الدرك من السفالة والحقد الطائفي والوحشية، سأروي قصتي دائما منتظرة العدالة التي ستعيد لأبنائي الحياة، وسأحيي ذكرى المجزرة ما حييت.. فلا يمكن للضحايا أن يتجاوزا الذكرى.
وسوم: العدد 879