هل صحيح أن الشعوب العربية لا ينفع معها إلا الحديد والنار؟
بعد أعوام على سقوط بغداد وبعد أن ساءت أحوال العراق، وتشظت البلاد على أسس طائفية ومذهبية، واندلعت الحرب الأهلية بدعم وتشجيع من الغزاة الأمريكيين والإيرانيين، وصار العراقيون يترحمون على أيام صدام حسين، ظهر كاريكاتير شهير يصوّر تمثال صدام حسين بأنه كان ينتصب فوق برميل مليء بالأفاعي والحيوانات المفترسة والحشرات وكل أنواع المخلوقات الضارة. وما أن سقط التمثال حتى انفجر البرميل الذي كان يجثم فوقه صدام، فخرجت منه كل أنواع الوحوش لتفعل بالعراق الأفاعيل. وقد أراد الرسام طبعاً أن يقول لنا إن شعوبنا لا تختلف عن المخلوقات التي كانت محشورة داخل البرميل الذي كان يقف فوقه تمثال الرئيس العراقي الراحل. ولا شك أن الكثير من الجنرالات والطواغيت والمستبدين العرب أعجبهم الكاريكاتير جداً، فوزعوه على وسائل إعلامهم كي تقول للشعوب وللعالم انظروا ماذا يحدث فيما لو سقط الذين تسمونهم طغاة وديكتاتوريين. إن هذه الشعوب لا ينفع معها غير العنف والطغيان والسياط والحديد والنار، وفي اللحظة التي تضعف فيها أيادي أجهزة القمع والوحشية ستتحول الشعوب إلى وحوش ضارية تحرق الأخضر واليابس، وتتقاتل فيما بينها وستحول بلدانها إلى غابات، وفي النهاية إلى ركام، وستعود بها إلى عصور الظلام والبربرية.
كثيرون طبعاً عندما ينظرون إلى حال الشعوب العربية في بلدان الربيع العربي سيتذكرون الكاريكاتير العراقي، ولا شك أن بعضهم سيترحم على صدام وعلى القذافي وعلي عبد الله صالح وعلى حافظ الأسد وأمثالهم. وسيقولون لنا قارنوا بين أوضاع بلدانكم أيام من كنتم تسمونهم طغاة، وبين أحوالكم الآن بعد سقوط الأنظمة. أيهما أفضل؟ أليست الديكتاتوريات القديمة أفضل بعشرات المرات؟ ألم يصبح في كل بلد الآلاف من صدام حسين وحافظ الأسد والقذافي وغيرهم. أليس حرياً بكم أن تترحموا على تلك الأيام الخوالي في ظل الطغيان. والعجيب الغريب أن كثيرين سيهزون رؤوسهم بالموافقة على هذا الطرح. لكن السؤال الجوهري الذي يبرز هنا والذي يسأله كل من في رأسه ذرة عقل: كم حكم هؤلاء القادة؟ ألم يجثموا فوق صدور شعوبهم لعشرات السنين؟ لماذا لم يصنعوا شعوباً حضارية عصرية واعية ومثقفة لا تفعل ببلدانها الأفاعيل بعد سقوط الأنظمة؟ من المسؤول عن تربية تلك الأجيال التي تتهمونها بحرق بلدانها والاقتتال فيما بينها وعدم قدرتها على قيادة مجتمعاتها بعد سقوط الحكام؟ أليس الطغاة الذين تترحمون عليهم؟
لماذا فقط أغلقوا البرميل الذي كانت تنتصب فوقه تماثيلهم على الوحوش والأفاعي بداخله، بدل أن يحولوا تلك الوحوش والأفاعي كما تسمونها إلى شعوب حديثة واعية مدربة وقادرة على النهوض بأوطانها مهما حدث بعد سقوط الطواغيت؟ هناك مقولة شهيرة للقذافي عندما سأله الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة: لماذا «لا تفتح مدارس وجامعات ومكتبات للشعب بدل شراء السلاح».. فقال القذافي: «أخاف أن يتعلموا ويفهموا ويثوروا على حكمي»… فقال بورقيبه: «يثور عليك شعب واع أفضل من أن يثور عليك الرعاع؟». ولا داعي هنا أن نستذكر الطريقة التي مات بها القذافي، وماذا وضعوا له في مؤخرته بعد أن ألقوا القبض عليه.
لماذا نلوم الذين اقتتلوا فيما بينهم بعد سقوط النظام على أسس مذهبية وطائفية؟ لماذا نلوم الشعب على ما فعل بالعراق؟ أليس حرياً بنا أن نلوم القيادات التي فشلت في انتاج أجيال جديدة خالية من الأحقاد والضغائن وقادرة على النهوض ببلدانها؟ أيهما أفضل: التعامل مع الشعوب بالحديد والنار بحجة أنها كالوحوش لا تفهم سوى لغة العنف والقمع، أم تربية أجيال حضارية قادرة على التعامل مع المستقبل بأدواته وعقليته الحديثة؟
لقد جثم البعث في سوريا ومازال جاثماً فوق صدور السوريين منذ ثلاثة أرباع القرن تقريباً. وقد حكم حافظ الأسد ومن بعده ابنه منذ عام 1970. لماذا لم يصنعوا جيلاً جديداً؟ هل طبق البعثيون أياً من شعاراتهم «التقدمية» المزعومة في سوريا، أم كرّسوا كل أنواع التخلف والجهل والطائفية، ولعبوا على التناقضات القومية والمذهبية والطائفية للشعب السوري، وعاشوا عليها كل تلك العقود السوداء؟ لماذا لم يلغ البعثيون التقدميون المزعومون العصبيات الطائفية؟ لماذا دقوا الأسافين بين الأكثرية والأقلية كي يعيشوا على صراعاتها؟ ألم يكن النظام الأسدي أكثر من استخدم السلاح الطائفي على مدى العشر سنوات الماضية من الثورة كي يضرب السوريين بعضهم ببعض وكي يعيش على تناحرهم؟ هل بنى النظام ما يسميه بـ»سوريا الحديثة»، أم عمل على ترسيخ كل الأمراض والآفات الاجتماعية والدينية والثقافية التي كانت عماد حكمه وسلاحه القذر؟ لقد كان آل الأسد كالقذافي تماماً يخشون من تربية جيل عصري، لأنهم كانوا يخشون من الشعب الواعي والخالي من العقد والسرطانات الطائفية والمذهبية العفنة.
لقد تساءل كاتب علماني سوري في عز الثورة قبل سنوات: لماذا نجح رجل دين متخلف أن يجمع حوله من السوريين أكثر من النظام، وهو بذلك يتهم النظام بأنه فشل في تربية جيل موال منفتح، لكن الحقيقة أن العصابة الحاكمة هي من صنعت المتخلفين الذين ركبوا الثورة ولعبوا بها لصالح النظام.
لم يكن يهم هؤلاء الطغاة سوى الحفاظ على عروشهم القذرة، وكان التجهيل والتطويف والتقوقع والانغلاق سلاحهم الأقوى في سبيل ذلك. ولا نستبعد مطلقاً أن مشغليهم في الخارج اشترطوا عليهم عندما سلطوهم على الشعوب أن يحافظوا على التركيبة القديمة المريضة والامتناع امتناعاً باتاً عن التحديث والتربية الحديثة. فمن السهل التحكم بشعوب منقسمة ومتصارعة ومتناحرة، بينما من الصعب التحكم بشعوب واعية وخالية من الأمراض والعقد الاجتماعية والدينية والثقافية البائدة. وعندما تجد الكثير من المعارضين يقلدون كل تصرفات النظام لا يسعك إلا أن تقول: هذا الجرو من ذاك الكلب.
الزعيم الوطني الحقيقي عندما يجد شعبه مزيجاً من التخلف والتطرف والطائفية والجهل لا يحكمه بقبضة حديدية قذرة بدعوى أن هذا النوع من الشعوب لا يمشي إلا بالعنف والتعذيب والسجون، بل يعمل على إعادة تثقيف الشعب وتطويره والرفع من مستواه وتخليصه من تقاليده وثقافته الظلامية وتخلفه ليصبح شعباً حضارياً متطوراً…لكن الطواغيت الذين حكموا العديد من البلدان العربية لم يستخدموا سوى العنف وأقبية السجون لتأديب شعوبهم بحجة أنه لا ينفع معها سوى الحديد والنار…وكانت النتيجة أنه عندما سقط الطغاة أو نفقوا خرج إلى السطح كل أنواع التطرف والجهل والتخلف والعصبية والطائفية التي ظلت تعتمل في نفوس الشعوب لعقود وعقود وكان يمنع ظهورها فقط القبضة الأمنية الوحشية…ومع سقوط القبضة المخابراتية أو ضعف الوحش الأمني عمَّ الخراب والقتل والاقتتال والدمار والاحتراب الداخلي والحروب الأهلية.. وكأن الطواغيت كانوا يُعدون المسرح منذ وصولهم للحكم لما نشهده الآن من انهيارات بالجملة في البلاد العربية، وخاصة في بلاد الثورات.
وسوم: العدد 880