نحن .. والحضارة
مؤسسون للحضارة الإنسانية– شركاء فيها– طلاب حكمة أنى وجدناها– لسنا ضد الحضارة الغربية ..
وهذا كلام قد يكون في أجزاء كثيرة منه معلن من قبل ومثبت ، ولكن مقتضى الحال ، وأمواج الغمط من قيل وقال؛ تقتضينا أن نعيد التفريد والتأكيد . ونبدأ من العنوان الأول فنقول إن شعوب منطقتنا ( شرق المتوسط في الشام ) وامتدادا إلى العمق الشرقي ( ما بين الرافدين ) ثم جنوب المتوسط ( في مصر ) ذلك أقدم مهد معروف تاريخيا للحضارة الإنسانية ..
ولم تكن البداية من اليونان كما يزعم الزاعمون . ولو كانت لما ضار أمر الحضارة في شيء . أبسط وصف للشعوب المتحضرة أنها لا تتعصب ، ولاسيما في ميادين العلوم والآداب والفنون .
تحت عنوان " أثينة السوداء " كتب " مارتن برنال " في أواخر القرن العشرين كتابه الذي يربط فيه كل حضارة اليونان بجذورها ثلاثية الأبعاد : مصر – سورية – العراق . حتى الأبجدية اليونانية : ألفا بيتا غاما سيغما كانت نسخة عن أبجد هوز . الفكر واللغة والفلسفة والعلوم كل شيء بدأ من عالمنا ..
وفي كتابه " تاريخ العرب " يقرر المؤرخ الفرنسي " بيير روسي " أن على كل إنسان متحضر في هذا العالم أن يعترف أن له موطنين ، موطنه الذي يعيش فيه ، وموطنه الأم " سورية " . حيث كان رحم الحضارة الإنسانية ، ومهدها كما يقرر ..
ما نقرره هنا ليس دعوة للتعصب ، ولا للنرجسية ولا للغرور والعنجهية البلهاء ؛ ولكنه دعوة لوضع الحقيقة التاريخية في نصابها ، ودعوة إلى استعادة الثقة بالنفس ، النفس التي هضمتها دعاية " أنتم الأسوأ " والتي تحولت بفعل فاعل إلى شعار "نحن الأسوأ " ،يردده أدعياء وأغبياء من بني جلدتنا يشهدون بالزور على شعوبهم وعلى أنفسهم .
وهذا التقرير في الوقت نفسه تأكيد على أن شعوب منطقتنا ، ولاسيما تلك التي تسلحت بالإيمان الحقيقي ، ظلت صانعة حضارة التاريخ ، تتطلع دائما إلى الأمام ، وترفض أن تغرق في جزئيات ومنمنمات الشكل واللون ، بل دارت دائما حول جوهر الإنسانية والإنسان . بكلمة وجيزة لم يكن إسلامنا الحضاري يوما دين شكل ..وظل رائد المؤمنين به قول نبيهم : " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل " وظل أساس حضارتنا أنه لا فضل لأبيض على أسود أو أحمر إلا بالتقوى .
منذ البداية وبتاريخ يمتد إلى عشرة آلاف عام ، كانت شعوب منطقتنا تؤسس للحضارة الإنسانية . نوح وإبراهيم وموسى ثم المسيح عيسى ابن مريم ومحمد رسول الله ، عليهم صلوات الله أجمعين. وفي حين كان في الشرق الأقصى شعوب تتطلع إلى السماء كما هي الحال في البوذية وفي الهندوسية ، فإن السماء كانت تتواصل مع الأرض . الملائكة المقربون ينقلون كلمة الله إلى الرسل المصطفين .
ثم نتابع في سياق حضاري إنساني مواز أو مكمل أحاديث جلجامش وحمورابي وتوت عنخ آمون . ونتابع في سياق ثالث أحاديث بابل ونينوى ودمشق والقدس وممفيس ، والبابليين واِلأشوريين والفينيقيين والكنعانيين والعموريين والآراميين والكلدان والسريان ، كلها سياقات متضامة أسست لحضارة الإنسان القديم ، وكانت شعوب هذه المنطقة هم حملتها على تقلب العصور . بلاد اليونان لم تكن رحما ، ولم تكن مهدا ، وإنما كانت مشتلا نمت فيه الشتلات ..
ومن التأسيس إلى الشراكة الإيجابية ...
أعتبر أن التمييز بين " الحضارة والمدنية " تمييز لفظي لا غنى فيه . ونعلم أن في معطيات الحضارة ما يتمثل فيكون قيما حية تظل الباقية على مر العصور سلوكا أو نهجا ، ومنها ما يستعمل ويستهلك وتطويه الأيام .
وأكدنا في الفقرة السابقة أن شعوبنا في مراحل التاريخ الحضاري الأولى كانت المعطي الحضاري الأول بلا منازع . ثم كانت في مراحل أخرى معطيا وآخذا . تعطي بنقاء وصفاء ، وتأخذ بوعي وإدراك .
وحين نعود إلى تاريخ العقل اليوناني الذي يعتزي إليه المعتزون ، ونجد حمى الأساطير ، وتكاثر الآلهة وحروبهم ونزاعاتهم . يقول بعضنا : إن هذا نتيجة خصب الخيال !!! ونعود إلى المثلث الحضاري الذي كنا نتكلم عنه ، فنتساءل : عن حجم ما في جزيرة العرب من أساطير ..!!
إن الذي نريد أن نشدد عليه أن شعوب منطقتنا ظلت على مدى تاريخها المديد ، مؤسسة للحضارة الإنسانية ، أو شريكة في صناعتها وتبادلها شراكة رشد ، وليس شراكة تشاكس ولا شراكة حاطبي الليل الذين لا يميزون غثا من سمين .
وظل شعارنا الخالد على تقلبات الزمان بنا : أننا طلاب حكمة . وأن الحكمة هي ضالتنا التي نظل نبحث عنها ، فأنى وجدناها اعتبرنا أنفسنا الأحق بها والأحرص عليها .
بالفم الملآن الصريح نؤكدها اليوم كما أعلناها منذ أكثر من قرن خلا : لسنا ضد الحضارة . ولسنا ضد الحضارة الغربية بشكل خاص ..
لسنا ضد الحضارة الغربية بالجملة لأننا لا يمكن أن نكون ضد أي حضارة بالجملة . بل نحن كما قال إمامنا محمد بن إدريس الشافعي : "الحر من رعى وداد لحظة ، وانتمى إلى من أفاد منه لفظة "
لسنا ضد الحضارة الغربية لأننا نعتبر أن الحضارة مهما كان لبوسها المرحلي " إرث إنساني . ونعتقد أن فكرة الاستحواز على الحضارة فكرة مبنية على الادعاء والغرور . كما نؤكد أن الكذبة الأكبر في سياق التدافع الحضاري والتداول الحضاري : الإيمان بصراع الحضارات ، والدعوة إليه .
ولسنا ضد الحضارة الغربية ثانيا .. لأنها في تقلبات جينات أو كروموسومات التاريخ الحضاري ، إنما نشأت على ضفافنا ، وسقي كثير من الخير الذي فيها بمائنا ، بعضها عبر قرطبة وطليطلة وبعضها عبر القسطنطينية وبعضها عبر الرها والقدس وشيزر ودمشق وحلب ..
نحن لسنا ضد الحضارة الغربية ....
وإنما يحاول أن يستثمر في إعلان هذه العداوة وهذه القطيعة فريقان من الناس : مستثمرون في العداوة من ساسة الغرب يظلون يخوفون شعوبهم : المسلمون قادمون ليغيروا نمط حياتكم ، ويتناسى هؤلاء أن المسلمين عندما ملكوا وحكموا صنعوا لمن آثر الحياة في جوارهم محاضن تحمي لهم كل خصوصياتهم ، التي أرادوا ..
ثم مستثمرون في العداوة من بني قومنا يعبرون بها عن إفلاسهم وخيبتهم فيظلون يئزون على المسلمين أعداءهم بإعلان حرب لا أصل لها ولا فرع كما يقال ..
لسنا ضد الحضارة الغربية ..بل نحن ضد من يعتقد ويقرر كما قال صاحب مستقبل الثقافة في مصر يوما : " إن سبيل النهضة واضحة بينة مستقيمة ليس فيها عوج ولا التواء، وهي واحدة فذة ليس فيها تعدد، وهى: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، ما يُحب منها وما يُكره، ما يُحمد منها وما يُعاب" ضد هذا المنهج ، وضد هذا الموقف ، وضد هذه الطريقة ، وكل هذه الضدية لا تعني أننا ضد الحضارة الغربية ..
لسنا ضد الحضارة الغربية ..وإنما نحن طلاب حكمة أنى وجدناها فنحن أحق بها ، كلام سطره مصطفى صادق الرافعي منذ مائة عام ..بقوة التمييز نميز ونصطفي ونختار . نقبل ونرد ، نقول :نعم للخير وللمصالح والمنافع ، ونقول : لا للشر وللمفاسد وللمضار ..
لسنا ضد الحضارة التي غرسنا على هذه الأرض جذورها ، وأول ما علمنا فعلمّنا : أن الحضارة هي العقل والحق والخير والجمال ..
وسوم: العدد 885