هل وزير الأوقاف المصري «رجل أمن» بعمامة؟
في كتابه «كلمة الحق»، ذكر الإمام المحدث الأديب الناقد أحمد محمد شاكر، أن السلطان حسين أراد الاحتفاء بطه حسين فاستقبله في قصره وأكرم وفادته، وكان السلطان حسين مواظبا على أداء صلاة الجمعة، في حفل يحضره العلماء والوزراء والكبراء، فصلى بمسجد قريب من قصر عابدين، فندبت وزارة الأوقاف أحد خطبائها الفصحاء، فخطب الشيخ، وأراد أن يمتدح السلطان وينوه بإكرامه لطه حسين، فقال أثناء الخطبة: «جاءه الأعمى، فما عبس في وجهه وما تولى».
أراد أن يبرز منقبة السلطان مقابل العتاب القرآني للرسول (عبس وتولى أن جاءه الأعمى)، وفي ذلك تعريض بالجناب النبوي. يقسم أحمد شاكر، أنه رأى هذا الخطيب بعينه بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليا منتفخا مستعزًا بالكبراء، رآه خادما على باب مسجد بالقاهرة يتلقى نعال المصلين في ذلة وصغار. فالعجب كل العجب من إمعانه في التطبيل للسلاطين، والعجب كل العجب من هذا المصير الذي آل إليه بعد زلته التي دفعه إليها حرصه البالغ على التزلّف والتودّد للبشر.
ولا أعتقد أن عالما أو شيخا في بلد الأزهر يجهل هذه الحادثة، التي تحمل في طياتها عبرة لكل من حمل علوم الشريعة بين جنبيه، ثم صار يسترزق بها من التزلف للحكام.
وزير الأوقاف المصري محمد مختار جمعة، أحد الأسماء اللامعة التي اشتهرت في مصر والعالم العربي في الآونة الأخيرة، لا لسعة علمه، فالرجل شاهدناه لا يحسن قراءة الفاتحة في صلاته، وإنما لأن هذا النوع، يُعد مثالا لرجل العلم المُسيّس بامتياز، فما هو إلا بوق لترويج وتبرير وشرعنة سياسات النظام الانقلابي، الذي أتى بمختار جمعة فور الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي.
وزير الأوقاف المصري شوهد في مقطع رفقة وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، وتحدث الأول عن ضرورة فصل الدين عن السياسة، إلا أن الجعفري استوقفه قائلا، إن السياسة لا تنفصل عن الدين، وإنما المطلوب عدم تسييس الدين وتوظيفه لخدمة السياسة.
وهنا ليس موضوعنا قضية شمولية المنهج الإسلامي وتضمنه لمناحي الحياة ومنها الحياة السياسية، وجهل وزير الأوقاف بذلك، وإنما يهمني في هذا المقام، أن الرجل ينادي بفصل الدين عن السياسة في الوقت الذي بات هو نفسه موغلا وموحلا في السياسة من رأسه حتى أخمص قدميه، وهذا ما شجعني على تتبع أخباره وتصريحاته واتجاهاته في العمل. يروج لإنجازات السيسي في كل مناسبة ومحفل، فعلى سبيل المثال، حضر محمد مختار جمعة عددا من الفعاليات الدولية بمقر الأمم المتحدة في جنيف، وناب عن سيده في تقديم القرابين للدول الكبرى، بعرض تجربة السيسي في محاربة التطرف في مصر، وروج لمولاه بأن مصر استعادت ريادتها الدينية في عهده، وغدت محط أنظار العالم في الخطاب الوسطي المستنير. وعلى خطى سيده، أمعن في إظهار مزيد من العداوة للإرهاب المزعوم، وطالب الأمم المتحدة بالعمل بمواجهة حاسمة وسريعة، تجاه الإرهاب وداعميه، واتخاذ إجراءات دولية تجاه الإرهاب بصفة عامة والإرهاب الإلكتروني بصفة خاصة، وإلزام الشركات الكبرى المسيطرة على مواقع التواصل، بحجب الصفحات الداعمة للإرهاب والداعية إليه، وهو ما لقي ترحيبا كبيرًا من جميع الحاضرين .وتراه يطالب في كل مناسبة بالتصدي للدول الراعية للإرهاب مُعرضا بتركيا وقطر، ويقوم سنويا باستبعاد المشاركين من الدولتين من المسابقة الدولية السنوية للقرآن الكريم في القاهرة. وحتى في ملف ليبيا الذي تدخلت في أحداثه تركيا وقلبت الموازين لصالح الحكومة المعترف بها، تجد بصمة وزير الأوقاف، الذي تهللت أساريره لخبر أشيع حول اعتقال قيادي بداعش في ليبيا، اتهموا تركيا التي قتلت الآلاف من التنظيم بأنها أرسلته إلى هناك، برفقة عدد من الدواعش للقتال، ليخرج وزير الأوقاف ويدلي بدلوه، ويؤكد هذه الاتهامات، وكأنه وكالة أنباء، أو رمز استخباراتي أو محلل سياسي، ويطالب بالمحاسبة الدولية للدول الراعية للإرهاب يعني تركيا وقطر.
وفي الداخل المصري، يقوم وزير الأوقاف بدور رجل الأمن بلباس ديني، وينوب عن الجهات الأمنية في التضييق على الدعاة والخطباء، فساعِده الأيمن رئيس القطاع الديني جابر طايع، صرح بوجود فريق إلكتروني في وزارة الأوقاف منوط به رصد ومراقبة سلوك الأئمة إلكترونيا، مهددا بإقالة كل من يسيء إلى مؤسسات الدولة، مستشهدا على كلامه بحادثة إقالة أستاذ بجامعة الأزهر من منصبه كإمام لأحد المساجد بوزارة الأوقاف، بعد كتابته منشورا على موقع فيسبوك يدعو فيه المواطنين إلى أداء صلاة الجمعة في المنازل، بالمخالفة لقرار الوزارة وقف صلاة الجمعة، ضمن إجراءات مواجهة تفشي فيروس كورونا، علما بأنه انتهاك صريح للدستور، لكن الرجل يتعامل في وزارته بعقلية أمنية.
الداعية الأزهري عبد الله رشدي الذي لا ينفك عن فضح وتعرية التشدد الديني بشقيه: الداعشي والعلماني، كان أحد ضحايا وزير الأوقاف، الذي ساءه أن يلمع اسم هذا الأزهري الشاب على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، للرد على الشبهات المثارة حول الإسلام، بصورة تجمع بين السهولة والعمق والاستيفاء، وتَطرّق لقضايا معلقة توارى عن طرحها معظم العمائم، فاتُّهم بأنه يثير مسائل جدلية، وتم التحقيق معه ووقفه عن الخطابة. ولم يسلم منه المتحدث الرسمي للوزارة، والذي قام «جمعة» بإعفائه على إثر تصريحات قال فيها المتحدث الرسمي، إن الوزارة تدرس فتح المساجد لأداء صلاة التراويح في شهر رمضان بدون مصلين.. وبمتابعة تعامل هذا الوزير مع ملف أزمة كورونا، رأيت أنه بالفعل يتعامل مع المصريين بعقلية رجل أمن لا وزير أوقاف، ويبالغ في التعامل بهذا النمط بصورة أثارت غضب المصريين، إذ أنه لا يكتفي بالتعليمات التي أمليت عليه، بل يزيد عليها، والمصريون أنفسهم يتعجبون من منعه إذاعة قرآن ما قبل إفطار رمضان في مكبرات الصوت بالمساجد، الذي اعتاده أهل مصر منذ زمن بعيد، مع أنه أمر بعيد كل البعد عن الإجراءات الاحترازية لمواجهة كورونا.
والظاهر أن وزير الأوقاف هو من وكل إليه النظام مهمة تطوير الخطاب الديني، بعدما عجز عن ترويض الأزهر للقيام بهذه المهمة، التي تصدى لها شيخ الأزهر في غير واقعة، الذي وقف كحجر عثرة أمام رغبة السيسي في إمضاء هذا التطوير المزعوم، الذي يُعرّض الثوابت الإسلامية لخطر العبث، وينال من التراث الإسلامي، ويطوع الدين لتوجهات السياسات الغربية. ومن ثم وجد فيه السيسي ضالته، لذلك ترى الإعلام المصري يكيل الاتهامات ليلا ونهارا لشيخ الأزهر ومؤسسته، واتهامها بالمسؤولية عن التطرف بامتناعها عن تجديد الخطاب الديني الذي ينشده السيسي، في حين أن وزير الأوقاف بمعزل تماما عن مرمى الهجوم الإعلامي.
يسعى السيسي لأن يكون هذا الرجل هو ممثل الإسلام في مصر، بديلا عن شيخ الأزهر، ولم يتغير منذ توليه هذا المنصب في 2013 رغم تعاقب الحكومات وتغيير الوزراء، لكنه باق ما دام يخدم توجهات النظام الانقلابي، إلا أنه انكشف عواره، وبات الشعب المصري ساخطا عليه، في حين أنه يقترب أكثر من مؤسسة الأزهر وعلمائها، التي استخدم السيسي وزارة الأوقاف لمواجهتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون
وسوم: العدد 886