آيا صوفيا وخلط الأوراق حول صون دور العباد
ربما ليس هناك ما يلامس المشاعر العامة لدى البشر ويحركها كالمساس بدور العبادة. فبرغم ما يقال عن العلمنة واللادينية والانحراف والالحاد فان غالبية البشر تشعر بالانتماء لمنظومة روحية متصلة بالغيب، وهذا الشعور عميق وقادر على تحريك الانسان في كل لحظة خصوصا عندما تتعرض تلك المشاعر للخدش.
وما الضجة المثارة حاليا حول تحويل «آيا صوفيا» الى مسجد إلا لأن موضوعها متصل بالدين، فهو مثير لمشاعر المسلمين والمسيحيين على حد السواء. وبرغم السعي المتواصل لتهميش دور الدين في الحياة العامة الا أن المسار البشري يؤكد حضور الظاهرة الدينية في حياة الأجيال المتعاقبة عبر الزمان والمكان. وقد اندفعت جهات غربية كثيرة لانتقاد اعادة فتح آيا صوفيا كمسجد يؤدي المسلمون فيه الصلاة. من الناحية النظرية يفترض أن أداء العبادة، وفق اية طريقة دينية، دافع للشعور بالرضا والغبطة، خصوصا في هذه المرحلة من التاريخ الإنساني الذي اصبحت الممارسة الدينية مستهدفة من قبل التيارات العلمانية التي تزداد انتشارا وتتعمق في المسار البشري.
تاريخ آيا صوفيا مرّ بمراحل عديدة منذ افتتاحه في العام 537 بعد الميلاد كمقر بطريرك الأرثوذوكس اليونانيين لإقامة الطقوس الدينية البيزنطية، إلا أن تحول أهل اسطنبول الى الإسلام دفعهم لتحويله الى مسجد لأداء الصلاة، بينما تأسس كيان ديني آخر لمسيحيي اسطنبول. الوعي الديني الذي يفترض وجوده لدى اتباع الديانات الاخرى لم يكن بالمستوى الذي يدفعهم للتغلب على مشاعر الانتماء الضيقة لهذا الدين او لتلك الطريقة التعبدية او التاريخ المرتبط بالنهج الديني الذي ينتمي اليه الشخص. وبدلا من ذلك أثيرت ضجة واسعة من قبل بعض الحكومات الغربية والمؤسسات الكنسية، بل شاركت منظمات حقوقية دولية مثل هيومن رايتس ووتش في استهجان القرار التركي بدون مراعاة خلفياته التاريخية.
وقد شهدت أيا صوفيا تحولات عديدة. ففي عام 1204، حوَّل الإفرنج الكاتدرائية الأرثوذوكسيَّة إلى كاتدرائية كاثوليكية، أثناء حملتهم الصليبية، لتصبح تابعة للإمبراطورية اللاتينية. ثُمَّ عادت إلى كاتدرائية أرثوذوكسية شرقية عند استرداد الإمبراطورية البيزنطية أراضيها من الصليبيين عام 1261. وعندما فتح المُسلمون القسطنطينية تحت الراية العثمانية عام 1453 بقيادة السلطان محمد الثاني، اشترى المسلمون الكاتدرائية وحولوها إلى مسجد.
وهنا يجدر التأكيد على اهمية دور العبادة بكافة أطيافها الدينية في الإسلام، وان هذا الدين لا يتنكر للأديان السماوية الاخرى، بل يعترف بها ويحمي معابدها. فعندما زار الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، مدينة القدس بعد معركة اليرموك في العام 13 هجرية ألقى خطبة أمام أهلها. ثم دعاه القس صفرونيوس لتفقد كنيسة القيامة، فلبَّى عمر دعوته، وأدركته الصلاة وهو فيها، فالتفت إلى البطريرك وقال له: «أين أصلي؟ فقال «مكانك صل» فقال: «ما كان لعمر أن يصلي في كنيسة فيأتي المسلمون من بعدي ويقولون هنا صلى عمر ويبنون عليه مسجداً». هكذا يفترض ان يتعامل المسلمون مع دور العبادة التابعة لأتباع الديانات الاخرى. هذا الامر لا ينطبق على آيا صوفيا الذي لم يحول الى مسجد الا بعد ان تحول اهل مدينتها للإسلام. وقد بقي البناء مسجدا منذ العام 1453 عندما اشترى السلطان محمد الفاتح كنيسة «آيا صوفيا» وحولها الى مسجد. وبقيت كذلك حتى حولها كمال اتاتورك في العام 1935 الى متحف. وجاء القرار التركي الجديد الذي اكدته المحكمة بإعادة فتحها الى مسجد منسجما مع تاريخ البناء. وهناك الكثير من الكنائس ودور العبادة الاخرى في تركيا التي لم تصادر من اهلها. فمن الضرورة بمكان، احترام مقدسات الآخرين وعدم المساس بها. فالإيمان في صيغته المحمدية له مصاديق كثيرة، وجاء في الكلام المأثور: «الطرق الى الله بعدد انفاس الخلائق».
المشكلة الكبرى التي كثيرا ما أحدثت الشروخ والمصائب الاجتماعية تتمثل باستخدام الاختلافات الدينية مادة لتحقيق أهداف سياسية، أو للتعبير عن موقف سياسي تجاه الآخر المختلف دينيا
في مقابلة تلفزيونية قبل ثلاثة أيام، تحدث حاكم الشارقة، سلطان القاسمي عن حجم التشويه الذي تعرض له الإسلام والمسلمون في محاكم التفتيش، مشيرا إلى أن هذا التشويه في الترجمات القديمة هدفه ثني المسيحيين عن إعلان إسلامهم. وطالب بإعادة مسجد قرطبة الى المسلمين. هذا المسجد الذي تم بناؤه، وتوسيعه على مدى قرنين من الحكم الأموي للأندلس، أصبح كاتدرائية بعد سيطرة الإسبان عليها عام 1236، حيث حولوه إلى كنيسة تتبع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.
المشكلة الكبرى التي كثيرا ما أحدثت الشروخ والمصائب الاجتماعية تتمثل باستخدام الاختلافات الدينية مادة لتحقيق أهداف سياسية، او للتعبير عن موقف سياسي تجاه الآخر المختلف دينيا. عندها تستهدف دور العبادة بطرق غير اخلاقية. ومن ذلك استهداف المسجد البربري في الهند في العام 1992 من قبل المتطرفين الهندوس بدعوى أنه اقيم على انقاض معبد شيد باسم الإله «راما». ذلك الاجراء أحدث صراعا اجتماعيا ادى لاحتجاجات وتظاهرات حصدت فيها أرواح أكثر من الفي انسان اغلبهم من المسلمين. وفي 2019 قضت المحكمة العليا في الهند بمنح ملكية الموقع للهندوس وتخصيص مكان آخر لبناء مسجد للمسلمين مبررة أن المكان وجدت فيه آثار لبناء غير إسلامي قبل بناء المسجد ومعللة كذلك أنه لا طائل من نفي اعتقاد الهندوس بأن الموقع هو مكان ميلاد راما. عقب صدور الحكم فرضت السلطات الهندية حصارا في المدينة وأغلقت المتاجر والمدارس لكن المسلمين رفضوا الحكم وطالبوا بالاستئناف.
في الأسبوع الاول من مايو (أيار) 2019 كشف تحقيق لصحيفة «غارديان» وموقع «بيلينغكات» البريطانيين، أن السلطات الصينية دمرت عشرات المواقع الإسلامية بشكل جزئي أو كلي، منذ عام 2016. وذكر التقرير أنه «في مثل هذا الوقت من كل عام تقريبا، كانت صحراء تاكلامكان في إقليم شينغيانغ في أقصى غرب الصين تفيض بأقلية الإيغور المسلمة». فـ«هناك كان يتجمع الآلاف من مسلمي الإيغور في كل ربيع لإحياء فعالية صوفية عند مكان ضريح الإمام عاصم، الذي يشمل أيضا مجموعة من المباني والأسوار المحيطة بقبر طيني صغير يعتقد أنه يحتوي على رفات محارب قديم من القرن الثامن». ولم يستقبل الضريح زواره بعد تدمير المسجد المجاور له، واختفاء الأعلام الصوفية التي تركها الزائرون القادمون هناك.
وحتى إذا لم تستهدف دور العبادة فان مرتاديها لا يأمنون على انفسهم. ففي منتصف مارس 2019، استهدف هجوم دموي نفذه متطرف مسيحي مسجدين في مدينة «كرايست تشيرتش» النيوزيلندية، ما أسفر عن مقتل 50 مصليا، وإصابة مثلهم. وبعد خمسة اسابيع قام متطرفون «إسلاميون» باستهداف فنادق وكنائس في سريلانكا ادت لمصرع 185 شخصا. وقد أدانت وزارة الخارجية التركية، الهجمات الإرهابية التي طالت كنائس وفنادق في سريلانكا الأحد، وقالت إنها لا تختلف عن قتل المصلين بنيوزيلندا.
ولا يمكن ان يتم التطرق لاستهداف الأماكن المقدسة لدى اتباع الاديان بدون التطرق للاعتداءات الاسرائيلية على المسجد الاقصى، وسعي الكيان للهيمنة المطلقة على المدينة المقدسة وتدمير المسجد واقامة كيان ديني على انقاضه. فبالإضافة للاقتحامات اليومية من قبل قوات الأمن والمتطرفين الصهاينة، يتعرض المسجد الاقصى لاستهداف واضح بهدف تدميره تماما. وهذا واضح من تصرفات عديدة في مقدمتها التنقيب تحت الأرض التي شيد المسجد عليها. هذه التصرفات نمط آخر من الاستهداف الديني المرتبط بهدف سياسي يهدف لاحتلال أراضي الآخرين واخلائها من الآثار الدينية والثقافية التي ترتبط بهوية اهل تلك الارض.
ماذا تعني هذه الاعمال العبثية؟ إن من حق أتباع الأديان كافة ممارسة أنماط عبادتهم بطرقهم الخاصة في مساجدهم وكنائسهم ومعابدهم. وليس من حق أحد التعرض لهم أو استهدافهم بالقتل أو تدمير دور العبادة. فهذه الإنسانية المعذبة تستحق العيش بأمن بعيدا عن القتل العبثي المؤسس على قناعات دينية. مطلوب صون حرية العبادة والأماكن المخصصة لها. كما ينبغي الابتعاد عن الاثارات غير المؤسسة على المنطق والحقيقة.
وسوم: العدد 886