فلسطين ليست أميركا، والفلسطينيون لن يكونوا هنود حمر!
لطالما تضمنت قصائد الشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش" بلاغة ومحتوى سياسي ووطني وانساني وجمالي عميق، يجعل من تلك القصائد ناطقا رسميا ليس باسم الشعب الفلسطيني وقضيته، وكل ما تمثله من معاني الإنسانية والعدالة والفداء والتضحية فحسب، بل بإسم جميع الشعوب المناضلة من اجل حريتها، والمكافحة من اجل انتزاع حقها في تقرير مصيرها، وممارسة كل اشكال الحرية، والمشاعر الإنسانية على ارضها وفي رحاب وطنها.
ولعل قصيدة "خطبة الهندي الأحمر" ما قبل الأخيرة امام الرجل الأبيض من ديوان "أحد عشر كوكبا" تشكل اعمق تعبير عن الرسالة الإنسانية والجمالية والأدبية، التي تحملها هذه القصائد في احشائها، والحديث عن احد اعقد القضايا وأكثرها إيلاما وتراجيديا على مر العصور، يمنح هذه القصيدة مكانة خاصة، لما تشكله قضية "الهندي الأحمر" من تركيز للبؤس الإنساني، الذي يتشابه في كثير من تفاصيله وفصوله مع توأمتها في المأساة التاريخية، وهي القضية الفلسطينية التي تعيش اليوم منعطفا تاريخيا حاسما، بفعل التطورات السياسية التي تشهدها، منذ الإعلان الرسمي عن "صفقة القرن"، على لسان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، الهادفة الى شطب القضية الفلسطينية، واستنساخ تجربة "الرجل الأبيض" في التعاطي مع الهنود الحمر، وتطبيقها على الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية.
ان المطلع الشعري في قصيدة الشاعر درويش والذي يبدأ ب"هَلْ قُلْتُ: مَوْتى؟ لا مَوْتَ هناك.. هناكَ، فقط، تبديلُ عوالِم" والمنسوب الى زعيم قبائل "دواميش" الهندية "سياتل"، والمشار اليه في القصيدة الشعرية الطويلة، دفعتنا للعودة الى الخطاب المنسوب الى هذا الزعيم الهندي الشهير، في محاولة لإيجاد مقارنة وقواسم مشتركة، بين ما شعره وعاشه الهنود الحمر وعلى لسانهم، في مواجهة عمليات الإقتلاع الممنهجة من الأرض، وارتكاب مجازر الإبادة الجماعية، والمعاناة في معازل ومحميات، أشبه بمعتقلات لوحوش برية، والتي ارتكبها "الرجل الأبيض" بحقهم، وبين ما عاشه ويعيشه الشعب الفلسطيني اليوم، في ظل استمرار عمليات سرقة الأرض الممنهجة، وفرض سياسية الامر الواقع على الأرض الفلسطينية، وذلك بتصعيد بناء الكتل الاستيطانية وشق الطرقات الالتفافية، ومصادرة الموارد الطبيعية، ومصادرة المياه، وفرض الاقامات الجبرية، وتحويل مناطق فلسطينية الى معتقلات أسوء من المعازل، ونشر آلاف نقاط التفتيش العسكرية، ومصادرة جميع الحريات، واستمرار عمليات التهويد، وانتهاج سياسية الاعتقالات العشوائية، والإعدامات الميدانية، وممارسة إرهاب الدولة واجرامها، بحق الأقلية العربية الفلسطينية داخل أراضي 1948.
هذا ما جعلنا نلاحظ تشابه جميع الممارسات الوحشية، التي مورست ضد الهنود الحمر، السكان الأصليين للولايات المتحدة الامريكية، والممارسات الإجرامية، التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي، مدعوما من الإدارة الامريكية، ضد الشعب الفلسطيني، بحيث يتقاسم هذان الشعبان مأساتهم، ومأساة الكثير من الشعوب الضعيفة، التي ذاقت ويلات الوحشية التي ارتكبها "الرجل الأبيض" واستمرارها الى الآن بنظام اجرامي متكامل، تمثله الامبريالية الامريكية، التي لا تنظر الى هذه الشعوب، الا من زاوية الخدم والعبيد لمصالها، ووسائل انتاج لمراكمة رأسمالها ومضاعفة ثرواتها، على حساب حقوق هذه الشعوب وارضهم وحرياتهم، وصولا الى حياتهم واستمرارية وجودهم، الا ان ما يميز مسار الشعب الفلسطيني، وتفاصيل معاناته المستمرة، هو العناد الصلب، والخروج المستمر من تحت رماد النكبات والنكسات، متمسكا أكثر فأكثر بحقه وأرضه، وعدم التسليم لقدر ارادوه محتوما على رؤوس الملايين من أبنائه، وعدم الرضوخ لقوانين فوارق القوة، التي حكمت مصير الهندي الأحمر، كما أشارت لها كلمات الخطاب الأخير للزعيم الأخير وهو يقول: "والرجل الأحمر يهرب من وجه الأبيض كما يفر سديم الصباح المتقلب على السفوح من أمام شمس الصباح.. لكن ما تعرضونه يبدو عادلًا في آخر المطاف وأظن أبناء شعبي سيقبلونه وسينسحبون إلى المحميات التي قدمتموها لهم" ، فالشعب الفلسطيني لن يسلم لخطاب القرن الذي القاه "الرجل الأبيض" على مسامع العالم، من مشرقه لمغربه، ومن أكثر المناطق حرارة الى اكثرها برودة، وهو يرسم ملامح المستقبل الجبان والمهزوم والمذل للشعب الفلسطيني، ففي ذات السياق وعلى ذات ايقاع الحرب الدموية، عزف "دونالد ترامب" نشيد الموت للقضية الفلسطينية، والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، الذي عليه ان يقبل مرغما بعدالة ما قدمه "الرجل الأبيض" وأن يسير هاربا مطأطأ الرأس نحو معازله ليعيش خادما وعبدا مسالما تحت شعار "السلام"
عذرا " سياتل " ففلسطين ليست اميركا، والفلسطينيون ليسوا الهنود الحمر!، ولن يكونوا الظبية الجريحة، التي تنتظر قدرها المحتوم، وتستمع الى خطوات القاتل الغليظة وهي تدنو منه شيئا فشئيا دون مقاومة، ولن يجعل من شجر ارضه ودفئ شمسه وخصوبة ترابه، وعذوبة أنهاره، وجمال قمره، عناصر جمالية في قصيدة محتل يكتبها في بيت الأجداد والآباء ، ولن يصيغ ببلاغة الكلام، وعمق صوره ومجازه، خطبته الأخيرة!!!، ولن يلقيها امام محتل مغتصب، بل سيكتب تاريخه، بمقاومته وكفاحه ونضاله المتواصل منذ أكثر من 100 عام، ولن يلقي الا خطاب النصر، من اعلى جبال ارضه المقدسة، على مسامع العالم بأسره، ليعلن انتصار الحرية والقيم الإنسانية والعدالة الاجتماعية، فالشعب الفلسطيني اليوم يقف على مفترق طرق، يجعل منه ومن قضيته اما عنوانا جديدا يضاف الى كتاب المندثرين، وإما صفحة جديدة في كتاب المنتصرين، وهو كذلك...