تجربة التعلم عن بعد في الميزان
مفاجآت وباء كورونا التي حلت بالعالم فجأة ودون سابق إنذار كثيرة ومتنوعة وذات تأثيرات في غاية الأهمية والخطورة، فضلا عما سيترتب عنها من آ ثار يتكهن المتكهنون بأنها ستكون أيضا في غاية الأهمية والخطورة بحيث تصير هذه الجائحة منعرجا تأريخيا على غرار المنعرجات التاريخية التي واجهتها البشرية عبر عمرها مثل منعرج اكتشاف النار ، وغيره من المنعرجات التي نقلت البشرية من أوضاع إلى أخرى ، وطورت أنماط حياتها .
ومفاجآت هذه الجائحة طالت كل القطاعات دون استثناء حيث وجد الناس في كل القطاعات أنفسهم في أحوال لم تخطر لهم على بال ، ولم تكن في الحسبان وأقل ما يقال عنها أن أحوال طوارىء لا تكون عادة إلا في الكوارث العظمى كالزلازل، و الأعاصير والفيضانات ،والبراكين، والحروب، والأوبئة ...
لمّا كان الأمر يتعلق بوباء معد ، فإن كل قطاع يعرف تجمعات بشرية صار صيدا سهلا للجائجة ، الشيء الذي فرض فضّ تلك التجمعات كإجراء وقائي لوقف العدوى، فضلا عن إجراءات أخرى تختصر في لفظة " حجر صحي " .
ومن القطاعات التي تعرف أكبر التجمعات البشرية المؤسسات التربوية، وهي أكثر عرضة لانتشار الوباء باعتبار الكثافة البشرية فيها، وباعتبارطبيعة الاحتكاك والتواصل بين أفرادها .
وكغيره من القطاعات واجه قطاع التربية مفاجآت منها توقف الدراسة بشكل مفاجىء في عز أيام الدراسة ، وعلى رأسها مفاجأة الدراسة عن بعد كبديل عن الدراسة الحضورية ، وهو بديل لم يكن متوقعا ، ولا في حسبان ، ولا سابقة له في منظومتنا التربوية عدا ما كان الناس يسمعون عنه في بعض الدول المتقدمة التي دخلت العالم الرقمي من بابه الواسع في وقت مبكر .
وفجأة وجدت الناشئة المتعلمة نفسها أمام هواتف خلوية أو ما يسد مسدها لوحات أوحواسب كانت تستعملها للعب واللهو وتزجية الوقت ، فصارت وسائل لبديل عن الدراسة الحضورية الذي أصبح يعرف بالتعليم عن بعد .
وبسبب الحجر الصحي الذي أقعد الجميع في البيوت ،وجد الآباء والأمهات وأولياء الأمور أنفسهم معنيين بالتعليم عن بعد من خلال مصاحبة أبنائهم خلال هذا النوع الطارىء من التعليم .
لقد كانت دائما مصاحبة أولياء الأمور أبناءهم في البيوت بعد الحصص الدراسية في المؤسسات التربوية لمساعدتهم في إنجاز الواجبات المنزلية أو مراقبتهم وهم ينجزونها، وقد يتدخلون بشكل أو بآخر حسب مستوياتهم الثقافية في هذه الإنجازات ، وحسب اعتبارات أخرى أيضا لا حاجة لتناولها ، ولكنهم مع تجربة التعليم عن بعد صاروا أكثر انخراطا ومصاحبة لأبنائهم في العملية التعلمية ، لهذا كان ذلك مفاجآة كبرى بالنسبة إليهم لأنه لأول مرة رفع الستار بينهم وبين ما كان يدور داخل قاعات الدروس المغلقة، وذلك عن طريق وسائل التواصل الرقمية ، وتغير أيضا أسلوب تعاملهم مع هذه الوسائل التي كانت للتسلية وتزجية الوقت بالنسبة إليهم كما كان الحال بالنسبة لأبنائهم.
ونظرا لجهل معظم أولياء الأمور بالتدريس وأساليبه وتقنياته وطرق أدائه في الدراسة الحضورية باستثناء من كان منهم منتميا إلى قطاع التعليم ، فإن مفاجآتهم كانت كبيرة بخصوص التدريس عن بعد ، ذلك أن بعضهم تصوره كالتعليم الحضوري تتحول فيه البيوت إلى قاعات دروس تصل بينها وسائل التواصل الرقمية، وتسير الدروس عن بعد سير الدروس الحضورية يتواصل فيها المدرسون مع المتعلمين مباشرة بحيث يرى بعضهم بعضا ويحاور بعضهم بعضا... إلى غير ذلك مما هو معهود في الدراسة عن قرب إلا أن ما حصل في الغالب هو تواصل محصور في تقنية الوتساب بصيغتين مكتوبة ومسموعة دون المرئية مع ما واجهته هذه التجربة من مشاكل منها ما يتعلق بالصبيب المتاح ، ومنها ما يتعلق بنوعية الهواتف المحمولة ، فضلا عن اضطراب كبير في هذا التواصل خصوصا في المستويات الابتدائية ، الشيء الذي فرض على المدرسين صرف وقت معتبر في محاولة ضبط المتعلمين لتسهيل السير العادي للتعلم عن بعد ، كما أن تشويش بعض أولياء الأمور على هذه التجربة كان له تأثير أيضا، وذلك من خلال تدخلاتهم التي كان معظمها مع الأسف معرقلا لسير الدروس عن بعد حتى أن بعضهم خصوصا في المستويات الإشهادية، كان يتولى الأجوبة عن المطالب والأسئلة المطروحة على المتعلمين مخافة أن تدرج الإجابات ضمن تقويمهم المتحكم في نجاحهم أو انتقالهم ، وما تنفس هؤلاء الأولياء الصعداء إلا بعد أن أعلنت الوزارة أن المتعلمين ستحتسب النقط والعلامات التي حصلوا عليها خلال فترة الدراسة الحضورية قبل الحجر الصحي ، وبدأ بعد ذلك الحديث عما سمي النجاح الجماعي ، وهو ما راق الأولياء مع التعبير عن شكوكهم وتخوفاتهم على تأثر مستويات التحصيل عند أبنائهم .
وبدأ تسليط الأضواء من طرف أولياء الأمور على تجربة التعليم عن بعد أول الأمر في مؤسسات التعليم الخصوصي ، وكان سبب ذلك هو الخلاف الذي نشأ بينهم وبين أرباب تلك المؤسسات فيما يتعلق بالواجبات المادية التي عليهم أداؤها مقابل هذا النوع من الدراسة ،والتي لا يعتبرون أنها تستحق من الأجر المادي ما تستحقه الدراسة الحضورية .
وفي خضم هذا الخلاف بدأت فكرة بخس تجربة التعليم عن بعد بالنسبة لأولياء الأمور تنمو كذريعة للامتناع عن أداء واجبات تمدرس أبنائهم ، في حين استاء أصحاب مؤسسات التعليم الخصوصي من هذا البخس ، ولم يقف الأمر عند إلى هذا الحد بل صاروا يشيدون بها بقدر ما بخسها أولياء الأمور، علما بأن كثيرا من هؤلاء اشتغلوا عن بعد في بعض القطاعات خلال فترة الحجر الصحي دون أن تبخس تجربة شغلهم عن بعد، ولهذا لم يتسن الحكم الموضوعي وبكل تجرد عن هذه التجربة، فضلا عن كون متابعتها من طرف أطر المراقبة لم تحصل لتعذرها ، وصار كل ما سجله أرباب مؤسسات التعليم الخصوصي مجرد إحصاءات تتعلق بعدد الحصص التي أنجزت دون الخوض فيما أنجز أو قدم للمتعلمين شكلا ومضمونا .
وانتقل بخس هذه التجربة من أولياء أمور المتعلمين بالتعليم الخصوصي إلى أولياء أمور المتعلمين بالتعليم العمومي ، فعيب على وسائل الإعلام التي كانت دائما ومنذ سنوات تقدم دروسا عن بعد للمتعلمين لم يكن كبير اهتمام بها لأنها في نظر الكثيرين لا يمكن أن تسد مسد الدراسة عن قرب .
ولعله من الإنصاف والموضوعية والتجرد أن توزن هذه التجربة بقسط وعدل ، فلا يذهب إلى بخسها جملة وتفصيلا ، ولا إلى الإشادة بها كليّا بل يقال عنها أنها تجربة جديدة لا تخلو من إيجابيات وسلبيات في نفس الوقت باعتبارها جاءت فجأة ولمّا يتلق المدرسون تدريبا عليها من الجهات المختصة تربويا وإعلاميا أو رقميا بحيث لم تستغل وسائل الإعلام لإنجاز هذا التدريب للمساهمة في إنجاح التجربة .
ومن هنا يمكن القول أن هذه التجربة ككل تجربة جديدة لا بد أن تواجه تعثرات لا يمكن تجاهلها دون أن تخلو من مكاسب لا يمكن الاستهانة بها .
ولا شك أن بعض تلك المكاسب هو ما جعل الوزارة الوصية على التعليم تفكر في استثمار هذه التجربة كقيمة مضافة من شأنها أن تطور الدراسة الحضورية عن طريق دراسة عن بعد تكون موازية أو حتى بديلة في المستقبل خصوصا وأن تكنولوجيا التواصل في تطور مستمر ، وأن العالم أجمع قد فرضت عليه الجائحة التفكير في تطوير العديد من أنماط الأنشطة والأعمال التي يتساوى فيها القرب والبعد فيما يتعلق بالنتائج والمحصلات أو المخرجات .
ولا شك أيضا أن الآثار المترتبة عن هذه الجائحة التي جعلت العالم قرية صغيرة على غرارما فعلت به تكنولوجيا التواصل، ذلك أن كل منهما له طريقته في العدوى، سيكون لها ما بعدها كما يتوقع المتوقعون سواء من ينطلقون من معطيات مقنعة أومن ينجمون ويرجمون بالغيب .
وعلى الوزارة الوصية على قطاع التربية أن تفكر بجد في الدراسة عن بعد كبديل من حيث إمكانياتها المادية الرقمية على وجه الخصوص ، ومن حيث طرقها وأساليبها ... وهو ما يستدعي خبرات تتولى تدريب الأطر التربوية التدريب الفعال الذي من شأنه أن يحقق أهداف التعليم عن بعد والتي تكون مساوية أو تفوق ما يتحقق من أهداف التعليم عن قرب . ومن يدري قد يوفر التعليم عن بعد نفقات هائلة تنفق على التعليم عن قرب ، كما يوفر مجهودات معتبرة أيضا كانت تبذل في هذا الأخير ؟
وسوم: العدد 893