مقابر جماعية تحيط بدمشق.. وضحايا تُقدر بالملايين
في جلستي المحكمة الثلاثين والواحدة والثلاثين وافقت المحكمة لأول مرة على استجواب شاهدٍ محمي الهوية بالكامل، حيث وافقت على تغطية وجهه بكمامة ولم تُذكر معلوماته الشخصية بالمطلق حرصاً على سلامة أهله وأقربائه في سوريا. حيث كانت شهادةً صادمةً بتفاصيلها التي تُذكر للمرة الأولى.
بدأ الشاهد الذي أطلق عليه رمز (Z 30.07.2019) شهادته بعد إعلان بداية الجلسة الأولى من جلستيه المقررتين بتاريخ 09.09 و 10.09 لعام 2020، بما يقارب الساعة والنصف أي تمام الساعة الحادية عشر صباحاً، لأن محاميي الدفاع رفضوا فكرة تغطية وجهه، ودارت مداولات كثيرة بين القضاة والمحاميين إلى حين قرار المحكمة ختاماً، أن من حق الشاهد إبقاء الكمامة على وجهه. أدت هذه البداية لتوترٍ إضافيٍ لدى الشاهد الذي يعاني من أمراض الضغط والسكري الَّذَين سببا له سابقاً انهياراً أثناء تحقيق الشرطة الجنائية معه عام 2019، ما اضطرهم ذلك حينها لنقله إلى المستشفى، وفي الجلسة الأولى من جلساته في المحكمة انهت القاضي الجلسة بشكلٍ مفاجئٍ بسبب ارتفاع ضغط الشاهد وعدم قدرته على الوقوف.
من يكون الشاهد؟
بدأت أسئلة القضاة عن عمل الشاهد اليومي حين كان في سوريا، فأخبرهم أنه كان عاملاً مدنياً في مجال دفن الموتى قبل بداية الثورة السورية. في الشهر العاشر تقريباً من عام 2011، أُرسِل لهم اثنين من الضباط، الذين جمعوا عدداً من العمال المدنيين قرابة العشر أشخاص، وعينوا الشاهد مشرفاً عليهم وأصبحوا يجبرونهم على الذهاب معهم إلى المشافي العسكرية، وهناك يجدون شاحنة براد كبيرة او اثنتين بانتظارهم، يقومون بعدها بمرافقة هذه البرادات إلى أماكن معينة ودفن الجثث الموجودة فيها ضمن مقابر جماعية. أخبر الشاهد المحكمة أنه عَمِل مع هؤلاء الضباط منذ عام 2011 وحتى عام 2017 دون السماح لهم بأخذ أي إجازة خلال تلك السنوات، وأن كل عملية دفن كانت تبدأ قرابة الساعة الرابعة صباحاً وتنتهي قرابة الساعة التاسعة صباحاً.
لم يكتفِ الشاهد بالحديث عن المشافي العسكرية بل تحدث أيضاً عن المشافي المدنية، وأيضاً عن سجن صيدنايا.
قال الشاهد أن الشاحنة/البراد الواحدة أطول من 11 متر، وأن الجثث فيها قد تصل من 500 إلى 700 جثة وأحياناً أقل، الأمر الذي كانوا يعرفونه من الضباط عندما يأمرونهم بتسجيل عدد الجثث من كل فرع أمني، ومن ثم إحصاء العدد الكلي، وضرب مثالاً: فرع فلسطين 100 جثة، فرع الأربعين 50 جثة. لم يستطع الشاهد تحديد أي فرع أمني مسؤول عن أكبر عدد من الجثث، ولكنه سمع الضباط كثيراً ما يتحدثون فيما بينهم عن نشاط أفرع أمنية في أيام معينة والتنافس فيما بينهم، فيقولون مثلاً (أفرع أمن الدولة نشطة اليوم)، الأمر الذي يعني أن الجثث القادمة منها أكثر من الجثث القادمة من الأفرع الأمنية الأخرى.
أثناء عمله معهم مُنع الشاهد وباقي العمال من الحديث فيما بينهم أو استخدام هواتفهم الجوالة، وقال أنه لم يعلم بدايةً أي شيء عن مهامه، لأن الضباط تكتموا على كل المعلومات، لكن وبعد خمسة أشهر تقريباً وَثِقَ الضباط بهم فأصبحوا يخبرونهم أكثر عن هذه المهام.
وحدد الشاهد المستشفيات التي تم نقل الجثث منها، مستشفيي حرستا وتشرين العسكريين، (مشفى تشرين، كما قال يتضمن جثث مشفى المزة 601 العسكري، لأنه مشفى صغير ولا يتسع لتجميع الجثث)، ومستشفيي المواساة والمجتهد المدنيين. وعن المشافي المدنية قال بأن هناك من أخبره من داخل مشفى المجتهد، أنهم لا يقومون فقط باستقبال الجثث من الأفرع، بل يقومون بعمليات قتل داخل المشفى أيضاً. وعن عدد مرات نقل الجثث قال أن هناك ثلاث أو أربع عمليات دفن خلال الأسبوع الواحد، مرة أو مرتين في الأسبوع للمشافي العسكرية، مرتين أو ثلاث منهم في الشهر لصالح المشافي المدنية، ومرتين أخريين أسبوعياً لصالح سجن صيدنايا بمقدار سيارتين إلى ثلاث لكل عملية نقل منه.
مدافن جماعية في كل مكان
ثم تحدث الشاهد عن أماكن الدفن والتي حددها بمكانين هما نجها، البعيدة عن دمشق حوالي 15 كم -والتي ذكرها سابقاً شاهدٌ آخر، ووردت معلومات المقابر مع رسوم توضيحية للمقابر الجماعية في تقريرنا عن الجلستين الثالثة والرابعة عشر، بتاريخ الرابع والخامس والعشرين من الشهر السادس-، والقطيفة -التي تُذكر لأول مرة خلال هذه المحاكمة- وتبعد عن دمشق حوالي 35 كم، وهما أراضٍ عسكرية يُمنع المدنيون من دخولها، وأنهم كمدنيون احتاجوا لمهمة رسمية، وسيارة تستطيع المرور على جميع الحواجز العسكرية دون توقيفها، وقال بأن جميع الأفرع الأمنية كانت ترسل جثثها إلى هذه الأماكن، عدا فرعين اثنين هما الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، حيث تدفن الجثث في مطار المزة العسكري تحت مدرج الطيران، وفرع المخابرات الجوية تُدفن الجثث داخل الفرع نفسه، ولا يسمح للعمال المدنيين بالدخول إلى هذين المكانين، بل فقط عاملٌ مدنيٌ واحدٌ يقوم بحفر القبور، وكان هذا العامل صديقاً للشاهد وهو من أخبره عن الأمر.
أما عن حجم المقابر الجماعية في منطقتي نجها والقطيفة، فقال الشاهد أن مساحة الحفرة الواحدة قد تصل لـ 5000 م² بعمق يصل لستة أمتار. لا يتم إغلاق الحفرة مرة واحدة وإنما على دفعات، حيث يُردَمُ جزء منها بحسب عدد الجثث في الدفعة الواحدة، وهكذا حتى تُردم بالكامل مع استمرار تدفق دفعات الجثث القادمة من الأفرع. كانوا يُسمون الحفرة “الخط”. بعض الخطوط كانت تمتلئ بعد عشرين عملية دفن وأخرى تحتاج لخمسين أو ستين عملية دفن، وهذا يعتمد على حجم الخط كما أوضح.
“عندما يُفتح باب البراد، وبسبب تراكم الجثث لمدة طويلة داخل البراد تنبعث الرائحة كقنبلة غاز قوية جداً، إذ أنهم يقومون بتكديسها على دفعات ريثما تمتلئ الشاحنة بالكامل” بهذا السبب برر الشاهد عدم قيامه بدفن الجثث القادمة من الأفرع بشكل شخصي، بل الاكتفاء بالوقوف بعيداً قرابة العشرين متراً، ومراقبة العمال وهم يقومون برمي الجثث من البراد إلى الحفرة حتى يصلوا إلى الجثث المكدسة بنهاية البراد، والتي غالباً ماتكون مليئة بالمواد المخاطية نتيجة التحلل أو بالديدان، بسبب انعدام الهواء داخل البراد والتخزين لمدة طويلة. مقابر جماعية
لكن الشاهد قام بدفن جثث سجن صيدنايا بنفسه مع العمال، وعن هذه الجثث قال: “لم تنبعث منها رائحة لأنها جثثٌ حديثة، أخبرنا الضباط أنهم أعدموا في اليوم نفسه. غالباً يبدأ الإعدام الساعة الثانية عشر ليلاً، ويتم الدفن الساعة الرابعة صباحاً، ولكنني رأيتُ آثار الحبل الملتف على رقابهم وآثار التعذيب أيضاً، وعموماً كانوا يأتون مكبلي الأيدي مع أرقام ورموز مكتوبة على ملصقات وُضِعت على جبهات وصدور الجثث، وقد حدث ذات مرة أن أحدهم لم يكن ميتاً بعد بل كان يلفظ أنفاسه الأخيرة، فأمر الضابط أن تمر الجرافة فوقه”. وعن الحالة التي سببتها له رؤية هذه المناظر لأعوامٍ طويلة أضاف الشاهد: “سكنت الرائحة في أنوفنا كل هذه السنوات، وكنا نتحسسها حتى لو كنا في منازلنا أو أي مكان آخر، وأما مناظر الجثث فقد كانت كفيلة أن تبقيني دون طعام أو شراب لعدة أيام متواصلة، ولازالت تزورني ككوابيس وتمنعني من النوم، بل وتسبب لي رُعباً واضطرابات في السكر والضغط دائمين”. أضاف الشاهد.
جثث لنساء وأطفال..ولا مدافن مخصصة للنساء
تحدث أيضاً عن إخبار العمال له بوجود جثث نساءٍ وأطفالٍ -من الذكور والإناث أيضاً- وعن رفض الضباط السماح لهم دفن النساء بأماكن مخصصة، بل تعدى الأمر رفض الطلب إلى التهديد بالاعتقال والتعذيب. وأخبر المحكمة عن رؤيته شخصياً لجثة امرأة مقتولة تحضن رضيعها المذبوح بين يديها، الأمر الذي أدى لانهياره حينها.
وعن شكل الجثث القادمة من الأفرع قال الشاهد، أن العمال أخبروه بأن ملامح الوجوه غائبة تقريباً والذي كان برأيهم نتيجة استخدام مواد كيميائية لإذابتها كالأسيد، لاستحالة تآكلها بطريقة طبيعية أو نتيجة تعذيب، وأخبروه أيضاً عن علامات التعذيب المنتشرة على كافة أنحاء الجسد وعلامات الازرقاق والاحمرار والاسوداد على الجثث، وقلع أظافر اليدين والقدمين بل وفي إحدى الحالات قطع العضو الذكري.
وأخبر الشاهد القضاة أيضاً عن عمليات دفن أخرى اُخذوا إليها وكانت سريَّة وخالية من الوثائق والأرقام تبدأ الساعة الثانية عشر ليلاً، ويتواجد خلالها ضباط من رتبة عميد وأعلى وعساكر مسلحون.
سُئل الشاهد عن عمله الإداري بما يخص الوثائق، فقال أنه يتم عد الجثث والأفرع على لوائح أثناء عمليات النقل والدفن، ويقومون هم بتسجيل ما يخبرهم به الضباط، وبعد الدفن يأخذ ضابطٌ منهم هذه اللوائح إلى مقر عمله في الجهة المدنية، حيث يتقاسم المكتب مع الشاهد فيقوم بإملاء الشاهد رموزاً وأرقاماً، حيث تشير الرموز إلى الفرع المعني والمعروف من جهتهم فقط والأرقام لعدد الجثث منه، ويقوم الشاهد بكتابة هذه التفاصيل بسجل الوفيات، ومن ثم يقوم الضابط بوضع السجل ضمن خزنة مقفلة، ويقوم بأخذ اللوائح وطباعتها لتسليمها إما لمديره في العمل أو للضابط المسؤول الأعلى رتبة.
وتحدث الشاهد أيضاً أن الضباط لم يُوفروا أي حماية للعمال المدنيين بل مجرد قفازات ومريولة وكمامات عادية، الأمر الذي تسبب بإصابة البعض منهم بأمراض خطيرة وأدى لوفاة اثنين منهم. مقابر جماعية
وعن سؤال القضاة عن فرع الخطيب تحديداً، إن كان يُرسل جثثاً أيضاً، قال الشاهد أن الأفرع الأمنية جميعها أرسلت جثثاً ويبلغ عددها تقريباً خمسة عشر فرعاً أمنياً وأن الخطيب كان من بينها. وقال أن عدد الجثث خلال الست أعوام التي عمل فيها بلغ بتقديره الشخصي مليون، لـ مليون ونصف جثة، ثم قال: “ربما 2 أو 3 أو حتى 4 مليون جثة، لا أدري ولكن العدد كبير جداً”.
أما حصة فروع أمن الدولة (فرع الأربعين والخطيب وإدارة المخابرات العامة)، بحسب تقديره فقد بلغت من الشهر العاشر 2011 حتى نهاية عام 2012 لـ 50.000 جثة، وأن العدد بعد ذلك أصبح سنوياً 25.000 جثة من أفرع أمن الدولة موزعة على الشكل التالي: الخطيب 10.000 جثة، فرع الأربعين 10.000 جثة وإدارة المخابرات العامة 5.000 جثة، وقال بأن فرع الخطيب كان يُرسل الجثث للمشافي المدنية والعسكرية على حد سواء.
خلال الجلسة الثانية تم عرض عدة صور من خرائط غوغل لمنطقتي القطيفة ونجها، لكن الشاهد لم يستطع تحديد أماكن المقابر فيها لخلوها من أي معالم ولعدم توفرها باللغة العربية، بيد أنه قال أنه كان يستطيع رؤية فندق إيبلا من مقبرة نجها الجنوبية.
حاول محامو الدفاع خلال الجلسة الثانية معرفة عدة معلومات شخصية عن الشاهد من خلال طرحهم لأسئلة تتعلق به، بيد أن محامي الشاهد اعترض عدة مرات على تلك الأسئلة، وتخلل الأمر عدة استراحات ومداولات، بعض من تلك الأسئلة تمت الإجابة عنها لعدم تأثيرها على كشف هوية الشاهد، وبعضها الآخر تم قبول الامتناع عن الجواب فيها. مقابر جماعية
جدير بالذكر أنه وخلال هاتين الجلستين تواجد للمرة الأولى صحفيٌ سوريٌ معتمدٌ من المحكمة وسُمح له باستخدام جهاز الترجمة، وهو الصحفي طارق خللو. وبهذا يكون أولُ صحفيٍ يُسمح له بخدمة الترجمة، بعد الاعتراض الذي قدمه السيدان، الصحفي المستقل منصور العمري، والسيد حسان قنصو ممثلاً للمركز السوري للعدالة والمساءلة، والقرار الذي تَبِعَه من المحكمة الدستورية العليا في هذا الشأن.
ستستأنف المحكمة جلساتها بتاريخ 15 و16 من الشهر الحالي مع الشاهد السيد مازن درويش رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير.
وسوم: العدد 894