تعطيل القصاص يفضي إما إلى استفحال جرائم القتل العمد أو عودة الناس إلى عقيدة الثأر الجاهلية
تعطيل القصاص يفضي إما إلى استفحال جرائم القتل العمد وإزهاق الأرواح في المجتمع أو عودة الناس إلى عقيدة الثأر الجاهلية
لمّا أكرم الله عز وجل البشرية برسالة الإسلام الخاتمة والمصدقة لما بين يديها من رسالات سابقة والمهيمنة عليها، كانت البيئة العربية التي نزل فيها القرآن الكريم قبل أن ينتشر منها إلى كل أصقاع العالم تعيش حالة من الفساد على كل المستويات ، وكان العنف هو الطابع المميز لحياة أهلها حيث كانت الحروب الطاحنة تنشب بين القبائل العربية لأتفه الأسباب وتدوم عقودا من السنين ، وتزهق فيها مئات الأرواح . وكان الثأر هو سبب استمرار تلك الحروب لسنوات ،وهو بمثابة عقيدة المجتمع الجاهلي، ذلك أن الجاهليين كانوا يعتبرون التخلي عن الثأر سبة و معرة وعارا لا يمحى، وقد سجلت أشعارهم وهي ديوان حياتهم الجاهلية أن أحد شعرائهم لمّا أغضبته زوجته هددها بالزواج من ضرة وأقسم على ذلك قسما كان يسمى قسم أكل دم المفتول الذي لا يثأر له وتؤخذ الدية عوضا عن ذلك فقال :
أكلت دما إن لم أرعك بضرة = بعيدة مهوى القرط طيبة النشر
وأكل الدم يعني أن من قتل قريب له وقبل الدية عنه عوض الثأر لمقتله يكون كمن أكل دمه، وكان ذلك سبة وعارا وشنارا يلحق من يرضى بذلك . وكانوا يزعمون أن القتيل حين يقتل يخرج من رأسه طائر يسمى الهامة يظل ينادي بالثأر ويقول اسقوني ، اسقوني أي اسفحوا دم القاتل كما سفح دمي ، وقد جاءت الإشارة إلى هذا في أشعارهم أيضا حيث قال أحد شعرائهم يهدد أحدهم :
يا عمرو ألا تدع شتمي ومنقصتي = أضرب حيث تقول الهامة اسقوني
وعقيدة الثأر الجاهلية لم يكن لها ضابط يضبطها بحيث يقتل قاتل مقابل مقتول بل كان أهل هذا الأخير يعملون القتل في أهل القاتل كما قال شاعرهم مهددا بالثأر لمقتل أخيه :
حتى أبيد قبيلة وقبيلة = وقبيلة وقبيلتين جميعا
وكان الذي يثأر لا يرى عدلا لقتيله، فيثأر من قاتله ولكن يعيره بأن دمه لا يعدل دم قتيله بل لا يساوي حتى شسع نعله ، والشسع سير أو شرك يكون على ظاهر القدم يمسك النعل بأصابع القدم .
هكذا كانت عقيدة الثأر تجعل الذي يثأر لقتيله يرى قاتله تافها لا يساوي شرك نعله ، الشيء الذي يجعله يبالغ في قتل أهل القاتل حتى يدرك ثأره بأكثر من قتيل ، ولا يشفي غلته إلا ذلك ، وكلما قتل منهم أحد جعله لا يعدل شيئا مما كان يلبسه القتيل أو ينتعله ولا قبل له بإدراك قيمة دمه المسفوح .
وجاءت الرسالة الخاتمة رسالة الإسلام المهذبة لأخلاق البشرية بشريعة القصاص ،وجعلته قوام الحياة الذي يصونها من جهل عقيدة الثأر الجاهلية فقال الله عز وجل في محكم التنزيل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فاتّباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون )) قال المفسرون في تفسير قوله تعالى : (( ولكم في القصاص حياة )) لكم فيما فرض عليكم من القصاص في النفوس ما يمنع بعضكم من قتل بعض، فتحيون بذلك . وذكر أولي الألباب في قوله تعالى فيه دعوة لتحكيم العقول عوض اتباع الأهواء ، ذلك أن الثأر تحكمه الأهواء، فيتجاوز الذي يثأر حد ثأره فلا تعدل عنده نفس نفسا بل يجعل عدل نفس نفوس ،وهكذا يسود الجور الذي منعته شريعة الله عز وجل بالقصاص لصيانة النفوس البشرية .
ولقد ساد القصاص في المجتمعات الإسلامية منذ بداية الإسلام واستمرحقبا تاريخية طويلة إلى حين ساد فيها الانبهار بالمجتمعات الغربية في أوروبا ، وأخذت المجتمعات الإسلامية تحذو حذوها في أمور شتى منها تقليدها في قوانينها الوضعية التي صارت عندها بديلا عن شرع الله عز وجل . وعلى غرار تعطيل شرع الله عز وجل في أمور شتى ، عطل القصاص بموجب قوانين وضعية تستهجنه ، وتمنعه، وتلغيه ، الشيء الذي جعل جرائم القتل تكثر لأن تلك القوانين لا تقتص من القتلة بالقتل بل تضمن لهم الحياة وتتعهدهم في السجون التي صارت تسمى إصلاحيات ضامنة عيشه والإنفاق عليهم مما يستخلص من الضرائب المفروضة على أفراد المجتمع . وقد يحكم على الجناة وقد ارتكبوا جرائم قتل وهم شباب بالسجن المؤبد ، فيقضون سنين من عمرهم يأكلون ويشربون حتى يشيخون ، وتوفر لهم كل ظروف العيش مع حمايتهم من الثأر، وسبب ذلك من يسمون أنفسهم حقوقيين يدافعون عنهم ويطالبون بتعطيل شريعة القصاص . ومن العبث أن يفقد الإنسان قريبا من أقربائه بسبب جريمة قتل ، ويحكم على الجاني بالسجن المؤبد ، ويكون من فقد قريبه من ضمن من يوفرون له العيش في سجنه من خلال ما يدفعه من ضرائب للدولة ، ويستفيد منها من كان الموت قصاصا أولى بهم .
ومعلوم أن القتلة لا يمكن أن يقدموا على القتل العمد مع وجود شريعة القصاص لأنهم سيحرصون على حياتهم الشيء الذي يجعلهم يحجمون عن ارتكاب جرائمهم ، أما إذا ما اطمئنوا بأن حياتهم مضمونة إذا ما إزهاق حياة غيرهم ، فإنهم سيسترخصون حياة غيره لعدم وجود ما يردعهم .
ومعلوم أن القوانين الوضعية التي تمنع القصاص إعداما هي التي تتسبب في انتشار جرائم القتل على نطاق واسع ، الشيء الذي يؤكد حكم الله عز وجل بأن في القصاص حياة لأولي الألباب الذين يدركون دور القصاص في صيانة حياة الناس .
أما من عطلت عقولهم أفكار وتوجهات وافدة من الغرب العلماني الذي يقصي الدين عموما من حياة الناس والإسلام على وجه الخصوص ، فإن أصواتهم تعلو بإدانة القصاص ، ويسوقون لذلك إعلاميا انتصارا للتوجه العلماني على حساب أرواح بريئة تزهق ظلما وعدوانا بما فيها حياة الصبية والصبايا كما حدث مؤخرا في مدينة طنجة حيث ذهب صبي في مقتبل العمر ضحية شذوذ شاذ جنسي اغتصبه ثم أنهى حياته بطريقة وحشية .
والغريب أن البربري العلماني المدعو أحمد عصيد وصف المطالبين بالقصاص في هذه الجريمة الشنعاء بأنهم أشد وحشية من الوحش الجاني ، وراح يلف ويدور لتبرير وجهة نظره الشاذة والتي تجانب الصواب والموضوعية والعدل ، ويزعم أن القصاص لا يحد من شيوع جرائم القتل مكذبا ما جاء في كتاب الله عز وجل وما يؤكده الواقع المعيش منذ زمن طويل . ومعلوم أن عصيد وأمثاله من المدافعين عن الشواذ جنسيا ، ومن المطالبين بما يسمى المثلية ويعتبرها حق من الحقوق الفردية ، فها هو شاذ جنسيا يتسبب في إزهاق نفس صبي في عمر البراءة ويحظى بدفاع عصيد وقبيله عنه دون خجل . والدفاع عن فاحشة الشذوذ الجنسي تساهم بشكل كبير في الاعتداء على أعراض بل وأرواح الصبية والصبايا بعد الاعتداء عليهم جنسيا بدافع إخفاء جرائمهم الجنسية ، لهذا يطالب عصيد وأمثاله إلى شرعنة الشذوذ الجنسي حتى لا يعتبر جريمة كما ينص على ذلك شرع الله عز وجل .
ولو كان عصيد وأمثاله من المعترضين على شريعة القصاص يملكون مثقال ذرة من لب لانجلت لهم حقيقة صيانة القصاص للأرواح خلاف ما يزعمون والواقع يكذبهم، ويشهد بعكس ما يدعون تعصبا لعلمانيتهم الرافضة لشرع الله عز وجل .
ومع أن الرأي العام الوطني أجمع على المطالبة بإعدام الجاني الذي قتل الصبي ظلما ،فإن عصيد الذي يخالف ليعرف وليحظى بشهرة إعلامية رخيصة بالتغريد خارج السرب كما يقال ،لا زال مصرا على عناده وهو يكرر وصف المطالبين بإنزال عقوبة الإعدام بمجرم سفك دما ظلما وعدوانا بأنهم أشد وحشية منه ، والحقيقة أن من يطالب بعدم إعدام قاتل النفس عمدا هو أشرس منه وحشية .
وإذا ما استمر القضاء عندنا يعطل شريعة القصاص ويتردد في تطبيقه نزولا عند رغبة مجتمعات لا تدين بديننا ، وهي تعترض عليه ، فإن المنتظر مستقبلا أحد أمرين: إما استفحال جرائم القتل ،وهذا ما يشهد عليه واقع الحال أو عودة الناس إلى عقيدة الثأر على الطريقة الجاهلية ، وليس الثأر قصاصا لأن هذا الأخير يقتص من الجاني، ولا يسمح بالعدوان على غيره ممن تربطهم به علاقة قرابة ، بينما الثأر يكون على الطريقة الجاهلية التي بيناها أعلاه ، الشيء الذي يحمل أبرياء جرائر الجناة مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى في شرع الله تعالى . وإلى متى سيظل الناس يفقدون أبناءهم أو أقاربهم دون أن يقتص لهم من الجناة الذين يحميهم قانون عدم إنزال عقوبة الإعدام بهم ، وينعمون بالحياة في سجون كأنها فنادق حتى أنهم يسمون نزلاء كما يسمى بذلك نزلاء الفنادق وهم قتلة مجرمون ، وينفق عليهم مما يجبى من ضرائب تفرض على أفراد المجتمع ، ومن ثم يصير هؤلاء ينفقون على قتلة مجرمين بمن فيهم من يفقدون أقاربهم ؟ وكيف سيحلو العيش لإنسان يفقد قريبا عزيزا وقاتله على قيد الحياة يأكل ويشرب وله مأوى فيه كل شروط العيش التي تضمن له الحياة بينما هو لم يقدر قيمة حياة من أزهق روحه ظلما وعدوانا وسبّب لأهله وذويه جرحا غائرا ينزف على الدوام حتى لو وقع القصاص ؟ والقصاص إنما شرعه الله تعالى حتى لا تزهق الأرواح أصلا ، ولا يسبب ذلك الألم والحزن لمن يفقدون أقاربهم على يد الجناة الظالمين .
وفي الأخير نأمل أن يغلّب من أوكل إليهم الله تعالى مهمة العدالة ألبابهم لاستيعاب ما في القصاص من صيانة لحياة الناس وألا يخضعوا لابتزاز من يدافعون عن حياة القتلة المجرمين ، ويسترخصون حياة الضحايا الأبرياء المقتولين ، ويرون ما دون القصاص من العقوبات ثمنا لحياة هؤلاء بينما يحرصون كل الحرص على حياة المجرمين الذي لا يستحقون الحياة في شريعة الله عز وجل وأنعم بها من شريعة عدل لا ترقى إلى عدلها الشرائع الوضعية .
وسوم: العدد 894