الفلسطينيون أحوجُ الناس إلى السّلام
في تراثنا العربي الكثير من الدعوات إلى السلام، في معلّقته، أثنى زهير ابن أبي سلمى على السّلم، وخلّد صانعيه بين القبائل العربية «تداركتما عبسًا وذبيان بعدما تفانَوا / ودقّوا بينهم عطر منشم».
أمرنا الله سبحانه وتعالى، بالسعي إلى السلام «وإن جنحوا للسِّلم فاجنح لها وتوكّل على الله» و»يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافة ولا تتّبعوا خطوات الشيطان» والسّلام هو أحد أسماء الله الحسنى عند المسلمين، ولهذا نجد أسماء مثل عبد السلام.
السلام والأمن على النّفس والممتلكات، غاية وحاجة إنسانية أساسية. وينتشر عند العرب ولدى الفلسطينيين بشكل خاص، اسم (سلام) ويطلق على الذكور والإناث.
أشد الناس حاجة إلى السلام والأمن، هم أولئك الذين يفتقدونه، أولئك الذين أصبح الخوف والتوتّر حالة مزمنة في حياتهم اليومية، مثل المرض، الذي لا علاج له سوى تخفيف الألم لساعة أو اثنتين، ثم لا يلبث أن يعود أشرس مما كان. يعيش هؤلاء الناس في قلقٍ عند كلِّ منعطفٍ في الطريق، يخشون أن يكون مزاج جنديٍ ما غير رائق، أو أن عنصريته فاضت عليه، فيطلق النار لمجرّد الشّك في النوايا، وفي أحيان كثيرة لأجل التسلية، هذا ليس افتراءً، بل باعتراف بعض الجنود في الصحافة الإسرائيلية، فيستشهد الشابُّ الفلسطيني، وأحيانا امرأة أو فتاة، وهذا لا يكفي، وقد يحتجز جثمانه إلى أجل غير مسمى، وهذا قد يستمر أشهرا أو سنوات، وتبدأ وساطات دولية ومنظمات مثل «هيومان رايتس ووتش» تطالب بإطلاق سراح الجثمان، الشهيد أحمد عريقات كمثال، الذي استشهد في يونيو/حزيران الأخير، لم يشكل أي خطر على جنود حاجز شمال بيت لحم، قتلوه وصودرت جثته! وعلى أسرته أن تعيش لأشهر طويلة وربما لسنوات، واقعاً غريبًا، بأن ابنهم في ثلاجة الموتى أو في مقبرة أرقام.
الناس يتوقون جدًا للسّلام، في بلد يُطلق فيه الجنود النار على شاب متوحّد من ذوي الاحتياجات الخاصة، مثل المقدسي إياد الحلاق، الذي لم يعرف كيف يتصرف عندما رآهم، خاف من الجنود فهرب واختبأ وراء حاوية نفايات، ورغم شرح المرشدة الاجتماعية المرافقة له لجنود حرس الحدود بالعبرية والعربية، بأنه معاق ذهنياً، وهذا سبب خوفه أساسًا، تقدم هؤلاء الأنذال منه، وأطلقوا النار عليه من مسافة خطوة واحدة علّهم يشفون غليل صدورهم المتعفنة حقداً. هل يعلم صناع السلام أن هناك أجيالا من الفلسطينيين لم يروا البحر الذي لا يبعد عنهم سوى عشرين كيلومترًا، رغم بلوغهم سن الرشد؟ هل يعلم دعاة السلام أن هناك جيلا من الفلسطينيين لم يغادروا قطاع غزة منذ ولادتهم، حتى صاروا في سن الزواج، وهل يعلمون أن مساحة قطاع غزة أقل بكثير من مساحة ما تأكله نيران الغابات في أمريكا خلال بضع ساعات؟ سيقول البعض حسناَ، لماذا لا يوقفون هذه المعاناة ويجنح الفلسطينيون إلى السلام ويستريحون، مثلما فعلت الإمارات والبحرين وقبلهما مصر والأردن ومن سيليهم بالدور! حسنا سؤال مشروع، ولكن هل تعلمون بأن منظمة التحرير الفلسطينية، وقّعت اتفاقات مع دولة إسرائيل بين العام 1999 -1993، واعترفت بإسرائيل على مساحة 78% من فلسطين التاريخية؟ ثم بدأت مفاوضات للوصول إلى الحل النهائي على 22% من مساحة فلسطين المتبقية! ولكنهم خلال هذا قتلوا رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي وقع على اتفاق أوسلو عام 1995، ثم إنهم من يومها يتجهون أكثر وأكثر إلى التطرّف والعداء للعرب، وتملّصوا من الاتفاقات بحجج شتى، كأنّها لم توقّع، وتواصل الضم ومصادرة الأرض وهدم البيوت، وهذا أدى إلى انتفاضة عام 2000 وإراقة الدماء بصورة أفظع. بعدها سمموا ياسر عرفات صاحب مقولة «سلام الشجعان» وبتواطؤ وخيانة مقرّبين منه.
ومنذ توقيع اتفاق أوسلو، اعتقل الاحتلال أكثر من 120 ألف فلسطيني، وهدم حوالي خمسة آلاف مبنى، أدت إلى تشريد حوالي عشرة آلاف شخص، منهم حوالي أربعة آلاف من القاصرين، هذا إضافة إلى الحملات العسكرية التي أزهقت أرواح حوالي أحد عشر ألف شهيد في قطاع غزة والضفة الغربية، والمصادرة مستمرة لتوسيع المستوطنات والقواعد العسكرية، ويقوم المستوطنون بقطع أشجار الفلسطينيين وحرقها، خصوصاً أشجار الزيتون المعمّرة التي تُذكّر بمن هو صاحب الوطن، ومن هو الطارئ الجديد عليه.
ثم هل تعلمون بأن بنيامين نتنياهو الذي شكرتموه على جهوده السلمية، هدّد قبل ساعات من توقيع هذا الاتفاق، بطرد من جاؤوا إلى الضفة الغربية بعد اتفاقات أوسلو، ما لم يوافقوا على تخطيطاته التي يعلنها بوضوح، بأنه لن يسمح إلا بتجمعات سكانية فلسطينية مبعثرة بدون أرض، وبأنه سيضم الأغوار، ويقول ساخرًا» سمّوها ما شئتم دولة أو امبراطورية» ثم إنه يتحدث عن تعاون بين الدماغ الإسرائيلي والمال الخليجي ، يعني أن حضراتكم في نظره لستم سوى دراهم؟
أخيراً إن أسوأ ما في سلامكم هذا، هو أنكم تسوّقون شريككم الذي تجري كل هذه الجرائم تحت رعايته كرجل سلام، وتشيرون بأصبع الاتهام إلى الفلسطينيين مباشرة، أو غير مباشرة، بأنهم رافضون للسّلام، بينما هم الضحايا وأحوج الناس إليه، وهم أكثر من ضحى، وقدم تنازلات لأجل الحصول عليه، ولكنه ما زال سراباً.
وسوم: العدد 895