سبب ردود الأفعال غير المنضبطة للشرع هو وجود هوة فاصلة بين الأمة وعلمائها
عموم المسلمين على قناعة راسخة بأن العلماء ورثة الأنبياء يرثون عنهم العلم كما جاء ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكما كان لكل نبي ورثة من العلماء ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم ورثته يوزعوا على القرون التي تلته ، فلم يخل منهم قرن جددوا فيه للأمة أمر دينها باعتماد موروث العلم الذي ورثوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن صفات ومميزات هؤلاء الورثة أنهم ربّانيون يجمعون بين تحصيل العلم الموروث وتنزيله أو ترجمته العملية الإجرائية على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء به . ولا ربانية إذا لم يحصل التناغم بين حصيلة علمية موروثة عنه عليه الصلاة والسلام وبين ترجمة عملية لها.ولا تكتسب الربانية ثقة الأمة إلا إذا لمست هذه الأخيرة ذلك التناغم .
ومما ابتليت به الأمة في هذا الزمان، وقد أريد بها هذا البلاء من طرف خصوم دينها وجود هوة فاصلة بينها وبين علمائها ، وهي اليوم أكثر اتساعا من أي وقت مضى ، ويكاد ينطبق عليها قول القائل " اتسع الخرق على الرتق " .
وبسبب هذه الهوة التي يؤسف لها أشد الأسف تبدو الأمة كرعية بلا راع يقودها .ومما ساهم في اتساع هذه الهوة انقسام ورثة النبوة على أنفسهم حيث اختار بعضهم كنف أصحاب السلطان بينما اختار غيرهم النأيعنه ، الشيء الذي جعل الأمة تحتار في أمر من يقودها من هؤلاء ، ومن تضع فيهم ثقتها ؟
ومما يجعل الأمة تفقد الثقة فيمن اختاروا من العلماء كنف أصحاب السلطان هو اعتراضها على بعض ما يسوسها به هؤلاء مما لا يرضيها وتظنه مخالفا لشرعها. وفي المقابل لا تحصل القناعة لديها في جدوى من لا ينأون عن أصحاب السلطان من العلماء ، وهكذا تصير ضائعة بين فقدان الثقة في هؤلاء وهؤلاء على حد سواء ، ولا يقر لها قرار تطمئن إليه .
ومن المعلوم لدى هذه الأمة كما أخبرها بذلك رسولها صلى الله عليه وسلم أنه في غياب العلماء يظهر جهّال ضالين يضلونها ، وهو ما صار سائدا اليوم حيث ينازع هؤلاء الجهّال ورثة النبوة كما هو الشأن بالنسبة لدعاة توجهات فكرية منحرفة استباحوا حمى العلم بالدين ، وتجاسروا عليه بذريعة حرية الرأي والتعبير ، ونصبّوا أنفسهم قضاة يقاضون الصحابة رضوان الله عليهم وأئمة الحديث والفقه والعلماء قديمهم وحديثهم ، ويشككون في مصداقيتهم لتضليل الأمة من خلال حملها على فقد الثقة فيهم جميعا .
والنتيجة أن الأمة في غياب من يأخذ بيدها من العلماء لا تنضبط لشرع الله عز وجل ، وتتصرف دون هديه كما هو الشأن على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة لردة الفعل على المساس بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إليه حيث اختلفت تصرفات أفرادها بين تنظيم مسيرات احتجاجية غاضبة ، واستجابة لدعوات مقاطعة اقتصادية للبلد الذي صدرت عنه الإساءة ، وبين تهور البعض من خلال الإقدام على الانتقام من أفراد لا يتحملون مسؤولية تلك الإساءة لا بالدعوة إليها أو التحريض عليها ولا باقترافها ، وهو ما رفضه أهل العلم وأدانوه بشدة لأنه لا يقل إساءة إلى الإسلام عن إساءة الرسوم له وللرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم خصوصا وأن الجهة المسؤولة عن هذه الرسوم تستغل كل ردة فعل متهورة على الإساءة تتسبب في إزهاق الأرواح البريئة لتبرير فعل الإساءة وشرعنته والتمادي فيه لمزيد من النيل من الإسلام.
ولو أن الأمة لزمت علماءها لما أقدمت على ردة فعل على الإساءة إلا بما يشيرون به عليها ، والذي لا يكون إلا منسجما مع الشرع بالضرورة لأنهم أدرى بالموقف الراشد السديد الذي يجب أن تقفه الأمة بعيدا عن كل اندفاع لا فائدة فيه ولا طائل وراءه .
وما دامت الهوة بين الأمة وعلمائها في اتساع مستمر بسبب فقدان الثقة فيهم لما سبق ذكره ، فإن مواقفها لن تكون ذات أسس يقرها الشرع ، ولن تكون لصالحها وصالح دينها بل تكون هدية مجانية لخصومه المتربصين به .
وبقدر ما يتعين على الأمة التفكير الجاد في استعادة الثقة في علمائها ، يتعين على هؤلاء مساعدتها على تلك الاستعادة بالثبات على مواقف تمليها عليهم مسؤولية وراثة النبوة وهي مسؤولية جسيمة لا يخشى من يضلع لوم لائم بل يخشى الله عز وجل وحده .
وأخيرا نأمل إن شاء الله تعالى أن تعود ثقة الأمة بعلمائها في القريب العاجل ليعود قطارها إلى سكته كما كان في عصورها الذهبية .
وسوم: العدد 901