محنة الهوية الإسلامية في المجتمع الغربي عموما والمجتمع الفرنسي خصوصا
من المعلوم أن الهوية كما يعرفها أهل الاختصاص هي مجموع صفات يتقاسمها مكون اجتماعي من المكونات البشرية تكون بالنسبة إليه حاضنة تحميه من الذوبان في مجتمع تشترك فيه هويات أخرى فيها الغالبة المهيمنة، وفيها المغلوبة الخاضعة والمستكينة والتابعة.
ويذهب أهل الاختصاص إلى أن أفضل الحلول للمحافظة على توازن واستقرار واستمرار وجود المجتمعات ذات الهويات المتعددة هو العمل على تعايشها واعتراف بعضها ببعض عوض صراعها وفق منطق الغاب .
ولقد سجل التاريخ الحديث قي شتى أقطار العالم ذات الهويات المتعددة بدايات مؤسفة لصراع الهويات انتهت إلى حل التعايش، الشيء الذي حافظ على استقرارها وتوازنها ، ويذكر منها كمثال بلاد كندا التي تصارعت فيها هويتان انتهى بها المطاف إلى اعتراف متبادل فيما بينها نتج عنه تعايش أصبح مثال التعايش بالنسبة لكل البلدان ذات الهويات المتعددة .
وبالرغم من استفادة الهوية الفرنسية من الاعتراف بها خارج ترابها في كندا حيث تحظى بوجود في إقليم من أقاليمها ضمن كونفدرالية ، فإنها في بلادها لم تمكن الهوية الإسلامية مما مكّنت منه هي في كندا إذ لا زالت تنهج سياسة التضييق على الهوية الإسلامية حتى بلغ بها الأمر مؤخرا حد إعلان التدخل في شأن هذه الهوية عن طريق خلق ما سمته إسلاما فرنسيا ،علما بأن الإسلام كدين لا يمكن أن ينعت بجنسية أو هوية عرقية أو لغوية لأنه دين الإنسانية قاطبة دونما اعتبار لأعراقها أو أجناسها أوألوانها أو ألسنتها مصداقا لقول الله تعالى : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ، فهذا النص القرآني يحسم بشكل واضح في أمر إخضاع الدين الإسلامي لهوية من الهويات كما تريد فرنسا ذلك .
وحقيقة ما ترومه فرنسا بحديثها عن قرارها بإعلان تبنيها إسلاما فرنسيا هو إخضاع الهوية الإسلامية لهويتها العلمانية رغما عنها ، وهو ما لم تقبله هي في كندا حيث خاضت صراعا طويلا من أجل اعتراف الهوية الكندية بهويتها، علما بأنها أقامت هويتها هناك غزوا خلاف الهوية الإسلامية عندها التي يعود وجودها إلى أسباب شتى وعلى رأسها الهجرة التي فرضتها ظروف عيش المهاجرين المسلمين في بلدانهم الأصلية مع أن تلك الظروف قد ساهمت فيها فرنسا بشكل كبير بسبب احتلالها لتلك البلدان ، وبسبب استمرار التدخل في شؤونها بعد رحيلها عنها.
وخلافا لما تدعيه الهوية العلمانية في عموم أوروبا ، وفي فرنسا تحديدا من أنها تحتضن مختلف الهويات وتتعايش معها ، فإنها في واقع الحال عكس ذلك وتحديدا مع الهوية الإسلامية التي تراها مهددة لها ولقيمها ،علما بأن تعايش الهويات لا يمكن أن يحصل دون اعتراف متبادل بينها بخصوص اختلاف قيمها مع ضرورة احترام متبادل أيضا لتلك القيم .
ومشكل الهوية الفرنسية العلمانية هو أنها لا تقبل احترام قيم الهوية الإسلامية حين تجعل قيمة حرية التعبير على سبيل المثال عندها تصادر حرية العبادة عند الهوية الإسلامية بل تعتدي عليها بشكل صارخ ، وهو ما اشعل فتيل التوتر الهوياتي عندها . ولا يمكن أن ينتهي هذا التوتر ما لم تعد فرنسا إلى رشدها ، وتقبل ما قبلته دولة كندا مع هويتها .
ومعلوم أن الاختلاف في قيم وثقافات الهويات أمر طبيعي ، ومن الطبيعي أن تتعارض تلك القيم والثقافات ، ولا حل لإشكال تعارضها سوى القبول بمبدإ التعايش الذي يكون أساسه قبول الاختلاف لأن قبوله يعني ضمان الاستقرار والتوازن والوجود والاستمرار. وكل هوية مهما كان نوعها لا تعترف بهذا الاختلاف ولا تحترمه، فهي تهدد أولا نفسها ووجودها من خلال تهديد غيرها برفضها اختلافه عنها .
ولا شك أن فرنسا فيها عقول لفلاسفة ومفكرين قادرين على كبح جماع اندفاع الساسة فيها ومراجعتهم فيما يتخذونه من قرارات التضييق على الهوية الإسلامية التي ليست في صالح فرنسا ، علما بأن الساسة يرحلون بعد استكمال مدد حكمهم القصيرة زمنيا، ولكنهم خلالها قد يتخذون من القرارات غير الموفقة ما تكون له تداعيات على المدى الطويل وتكون له عواقب وخيمة . وحين يصغي الساسة إلى عقلائهم وحكمائهم من فلاسفة ومفكرين ، فإنهم يجنبون بلدانهم مشاكل هي في غنى عنها .
إن حل مشكل الهوية الإسلامية في فرنسا لا يكون عن طريق إكراهها على الانصياع وقبول قيم هويتها العلمانية لأن هذه الأخيرة ليست هوية نموذجية كما يدعي أصحابها بل هي هوية كباقي الهويات لها وعليها كما يقال ، ولن تبلغ درجة اتزانها حتى تتنازل عن كبريائها وعن إكراه غيرها على قبول ذلك الكبرياء .
وعود على بدء نذكّر مرة أخرى بأن الهوية هي حاضنة تحمي أصحابها من الذوبان في مجتمعات متعددة الهويات ، وتجعلهم يشعرون بالأمان من كل ما يتهددهم في هويتهم ووجودهم . والمسلمون في أوربا عموما وفي فرنسا خصوصا لا يشعرون بهذا الأمان بل يعانون من ضغط الهويات الغالبة في البلاد الأوروبية ومعظمها هويات علمانية نتجت عن مغالبة وصراع كانا بينها وبين هويات دينية مسيحية صارت بدورها خاضعة للهويات العلمانية بعدما كانت غالبة ومسيطرة لقرون .
ومن الخطإ أن تؤخذ الهوية الإسلامية في فرنسا بتصرف فرد أو أفراد محسوبين عليها ،علما بأن في هذا الحساب نظر، لأنه ليس كل محسوب على هذه الهوية تصح هويته مائة في المائة ، ولا تشوبها شائبة ، ولأن للهوية الإسلامية ضوابط تحكم الانتساب إليها وما يميز الأفراد المنتسبين إلى هذه الهوية هو فعل التدين الذي هو علاقة بين الخالق والمخلوق قبل أن يكون علاقة بين المخلوقين فيما بينهم، لهذا حين يقبل المسلم صاحب هوية إسلامية حقيقية على تصرف مهما كان بعرضه على مرجعيته الدينية كتابا وسنة لأنه تصرف يحسب على الدين وعلى الهوية الإسلامية في نهاية المطاف . وليس من المعقول ولا من المقبول أن تدان على سبيل المثال لا الحصر عبارة " الله أكبر " لمجرد نطق فرد من الأفراد بها وهو مقبل على عمل مناقض لدلالتها . ولا يعقل ولا يقبل أن تعتبر هذه العبارة التي ترفع في الأذان للصلوات هي نفسها التي ترفع للقيام بعمل لا يقره الإسلام .
ومعلوم أن انفلات الأفراد في هوية من الهويات مهما كانت من ضوابطها أمر حاصل لا محالة لجهل أو تهور أو تعصب ... لكن لا يمكن أن يحسب هذا الانفلات على الهويات فتحاسب وتعاقب بسببه . وإذا كانت الهوية العلمانية في فرنسا قد ثارت ثائرتها بسبب فعل صادر عن فرد أو أفراد محسوبين على الهوية الإسلامية مع أن هذه الأخيرة قد تبرأت منه وأنكرته وأدانته بشدة ، فعلى الهوية الفرنسية أن تقوم بنفس الشيء بالنسبة للفرد المحسوب عليها والذي أساء إلى الهوية الإسلامية، لكنها مع الأسف لم تفعل بل أقرته على فعله بموجب قيمة من قيمها ، فأين هي من موقف الهوية الإسلامية التي أدانت فعل المحسوب عليها بشدة ؟
وعلى الهوية لعلمانية في فرنسا عوض الحديث عن محاولة احتواء أو ابتلاع الهوية الإسلامية من خلال ما سمته إسلاما فرنسيا، وهو ما يعني إسلاما بطعم علماني إن صح التعبير أن تعتمد الحوار البناء والهادف إلى تحقيق تبادل الاعتراف بينها وبين الهوية الإسلامية التي هي واقع في فرنسا لا يمكن إنكاره ، ويكون هذا الاعتراف على أساس احترام الخطوط الحمراء لكل منهما .ومن الخطوط الحمراء للهوية الإسلامية في فرنسا ألا تمس مقدساتها بأي شكل من الأشكال وبأية ذريعة مهما كانت ، وألا يضيق على أهلها في تدينهم عبادة، وسلوكاـ ولباسا ،وطعاما ،وشرابا ،وتطبيبا ،وتوظيفا، ودراسة ، وعرفا وعادة... مقابل ألا تتعرض الهوية الإسلامية لشيء من ممارسات أهل الهوية العلمانية من لا تدين ، ولباس ،وطعام، وشراب، وسلوك ... ولا يمكن أن يحصل هذا إلا إذا جلس عقلاء وحكماء الهويتين إلى طاولات الحوار الهادىء والمتزن لتحديد التقاطعات بين الهويتين والتي من شأنها أن تتخطى بسببها الخطوط الحمراء للهويتين فتثير الخلاف المؤدي إلى الصراع بينها ثم يوضع إثر ذلك ميثاق شرف ملزم للهويتين بألا تثار الأمور المستفزة بينهما .
فهل ستختار فرنسا أسلوب البحث عن التعايش الحقيقي مع الهوية الإسلامية والمنصف لها أم أنها ستمضي بكبرياء في أسلوب إكراهها ومحاولة ابتلاعها من خلال تشديد التضييق عليها ، فذلك ما ستبديه الأيام كدأبها ؟
وسوم: العدد 902