في ظلال سورة يوسف
1ـ من أراد الإفساد عامله الله بنقيض قصده.
فحين قال إخوة يوسف: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) [يوسف: 9]، ظنوا أنهم بقتل يوسف أو إبعاده سيقبل عليهم أبوهم إقبالة واحدة ولا يلتفت عنهم إلى غيرهم، وأنه لن يشاركهم أحد في محبتهم، فلم يزده ذلك إلا محبة واشتياقاً ليوسف.. حتى قالوا له: (تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف: 85].
2ـ معايير الناس وموازينهم قد لا تكون صحيحة، فقد يزهدون بالعظماء وهم لا يشعرون!
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف 20].
3ـ المحسن جزاؤه الإحسان من الله تعالى.
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 22]
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يوسف: 56، 57]
(إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 90]
كما قال تعالى: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، فهَلْ جَزَاء الإحسان في العمل إِلَّا الإحسان في العاقبة والثواب.
4ـ لقد شهدوا ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإحسان وهو في السجن حين قالوا له: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 36].
وكذلك حين أصبح في الملك قالوا له: (يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [يوسف: 78].
5ـ إكرامُ الوالدين وبرُّهم من أهم صفات المحسنين المفلحين.
فحين دخلوا على يوسف عليه الصلاة والسلام رحَّب بهم جميعاً، ولكنه خصَّ أبويه بفضل ترحيب واهتمام، (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ) [يوسف: 99].
وكذلك حين أكرم أبَوَيْه ورفعهما على العرش: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً) [يوسف: 100].
وخرُّوا له سجداً سجودَ تحيةٍ وإكرام. وكان ذلك جائزاً في شريعتهم.
وهناك من يرى أن الضمير في (لَهُ) لله أي خروا ساجدين لله سجود شكر.
6ـ الفاسد لا يريد أن يبقى وحده فاسداً، ولهذا تجده حريصاً على إفساد غيره.
فحين راودت امرأة العزيز يوسف أرادت من النسوة أن يقعوا بمثل ما وقعت فيه.
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) [يوسف: 31ـ 32]
كما يعبِّر عن هذا المعنى قوله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً) [النساء: 89].
7ـ في الطاعة يتسع السجن على ضيقه، وفي المعصية يضيق القصر على سعته. (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33].
فالحرية حرية القلب، وعندما ينتصر الإنسان على هواه يتحرر من أي عبودية لغير الله تعالى.
8ـ لقد نجح نبينا يوسف عليه الصلاة والسلام في امتحان الشدة، فكان من الصابرين، ونجح في ابتلاء الرخاء فكان من الشاكرين.
فأما صبره فقد صبر عن المعصية وانتصر على الهوى، حين قال لامرأة العزيز وقد راودته وغلقت الأبواب: (مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].
وصبر على الشدة حين أُدخِل في السجن.
وأما شكره فيظهر في حسن معاملته لأخوته حين عفا عنهم وهو في قوَّتِه وقُدرته، وقال لهم: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف: 92].
وحين قال لهم: (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف: 100]، فلم يذكر لإخوته ما صنعوا حين جعلوه في غيابة الجب.
وكذلك حين قال لهم: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) فقد التمس لهم عذراً ولم يشنع عليهم سوء فعلهم.
وكذلك يظهر شكر يوسف عليه الصلاة والسلام حين دعا ربه فقال: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف: 101]، فنسب هذه النعم كلها إلى الله تعالى، (آتَيْتَنِي) (وَعَلَّمْتَنِي)، ودعا ربه أن يتوفاه مسلماً ويلحقه بالصالحين، وكأنه يشير إلى أن شكر النعم هو في استعمالها فيما يرضي الله والابتعاد عما يسخطه.
كما دعا نبينا موسى عليه الصلاة والسلام فقال: (رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) [القصص: 17]، فنسب النعمة إلى الله (أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) وذكر استعمال النعمة فيما يرضي الله فقال: (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ).
9ـ قال الله سبحانه: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) [يوسف 24] لم يهم يوسف عليه الصلاة والسلام بامرأة العزيز؛ لأنه رأى برهان ربه وهو ما آتاه الله من العلم والإيمان، فالعلم والإيمان هما أهم أسباب الثبات، فبالعلم يدرك الإنسان شؤم المعصية وخطرها في الدنيا والآخرة، وبالإيمان يعرف الإنسان حلاوة الطاعة ويشعر بجمالها ويدرك مرارة المعصية وقبحها، فشجرة الإيمان تثمر العمل الصالح. وما تزال شجرة الإيمان تؤتي ثمارها غير منقطعة؛ لأن الحسنة تقود إلى الحسنة، وهكذا تتكاثر الحسنات وتستمر.
10ـ المؤمن بالله تعالى لا ييأس؛ لأنه يستمد تفاؤله من الله الذي بيده ملكوت كل شيء وعنده خزائن كل شيء، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا القَوْمُ الكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
11ـ الداعية إلى الله تعالى لا تمنعه الظروف من دعوته، فحين أدخل يوسف عليه الصلاة والسلام السجن وسألوه عن تأويل الرؤيا دعاهم إلى الله تعالى قبل أن يجيبهم إلى تأويل الرؤيا.
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) [يوسف: 36ـ 37].
وسوم: العدد 909