تفكك أميركا
في شهر أغسطس الماضي، نشر البروفيسور الكندي ويد ديفس
Wade Davis مقالا في مجلة (The rolling stone)
الأميركية، بعنوان *"تفكك أميركا"*
*The unravelling of Àmerica*.
وقد تم تداول المقال في 16 مليون موقعا إلكترونيا، وتسبب المقال في إثارة موجات من النقاشات والعصف الذهني بين الأكاديميين، والسياسيين، والمفكرين، والمواطنين العاديين في أميركا، وذلك بسبب أهمية المقال، وبسبب الرؤى الصادمة التي طرحها ديفيس حول مستقبل أميركا
بدأ ديفيس مقاله بالتذكير بواحدة من المسلمات أوالحتميات التاريخية، وهي أنه
*"لا إمبراطورية تدوم إلى الأبد، وكل مملكة تولد لتموت"* . ويضرب ديفيس عدة أمثلة من التاريخ "فالقرن الخامس عشر كان برتغاليا، والسادس عشر كان اسبانيا، والسابع عشر ألمانيا، والثامن عشر فرنسيا، والتاسع عشر بريطانيا بامتياز، وقد وصل توسع الإمبراطورية البريطانية إلى أقصى حدوده في العام 1935 ".
بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت أميركا كقوة إقتصادية، وعسكرية وسياسية، وعلمية، وتكنولوجية طاغية ومهيمنة، أطاحت بالإمبراطورية البريطانية واحتلت مكانها.
ديفيس، واستنادا إلى معطيات سياسية، واقتصادية، وعسكرية يعتقد بأن أميركا بدأت في الوهن والتراجع منذ ثلاثة عقود، وأن جائحة كورونا أعلنت بداية الانهيار الفعلي، لأنها كشفت جوانب الضعف المتعددة، التي تراكمت خلال عقود في بنية الإمبراطورية الأميركية، والتي تجلت بوضوح سافر في طريقة التعاطي الكارثية للحكومة الأميركية مع الأزمة، ومضاعفاتها الصحية، والاقتصادية، والاجتماعية.
يقول ديفيس *"أن موت ألفي مواطنا اميركيا في يوم واحد بسبب كورونا، يعطي انطباعا بأن أميركا أصبحت دولة فاشلة".*
والامر، كما يرى ديفيس، لا يتعلق بالطريقة التي تعامل بها ترامب مع الأزمة، فترامب ليس سبب أزمة أميركا الحالية، بل هو عرض أو علامة من علامات مرضها المزمن.ويقول ديفيس بأنه حتى ندرك فداحة *"الفشل الأميركي*" في إدارة الأزمة، فعلينا أن نقارن بين الطريقة التي أدارت بها الديموقراطيات الحقيقية الأزمة، في دول صغيرة مثل:
نيوزيلاند والدنمارك، وكندا، والطريقة التي تعاطت بها "الديموقراطية الأميركية" العظمى.
ويعزو ديفيس السبب في ارتفاع أعداد الوفيات بكورونا في أميركا، إلى فشل النظام الصحي المصمم في الأصل لرعاية *النخبة الثرية*، وإلى عدم وجود شبكة أمان إجتماعي للضعفاء، وكبار السن، والمعاقين، وإلى عدم وجود مساواة حقيقية بين المواطنين في إمكانية الحصول على خدمات الرعاية الصحية عند الضرورة، بالإضافة إلى العديد من نقاط الضعف.
ويشير ديفيس في المقال إلى نقطة ضعف أخرى خطيرة في بنية الإمبراطورية الأميركية *"الأميركيون كانوا بعد الحرب العالمية الثانية يشكلون 6% من سكان العالم، وكانوا يستحوذون على نصف الاقتصاد العالمي"* وأنه، كان للطبقة الوسطى التي تشكلت في بدايات التأسيس، وتعززت مكانتها في النصف الأول من القرن الماضي، الدور الأهم في صناعة *"التفوق الأمريكي"*، لكن، هذه الطبقة الفاعلة والمؤثرة، تم تدميرها في النصف الثاني من القرن الماضي وفي بداية القرن الحالي، لصالح فئات معينة من الأفراد والعائلات الأثرياء، والمؤسسات مثل؛ البنوك، والأسواق المالية *الوهمية*. في أميركا، يمتلك 1% من الأميركيين 30 ترليون دولار، بينما البقية غارقة في الديون، وديونها أكبر من ممتلكاتها.
في عصر "الرأسمالية الامريكية الذهبي"، كان الفرد المنتمي للطبقة الوسطى يجد عملا بسهولة، وكان يستطيع أن يعيش حياة مريحة، وأن يشتري سيارة ومنزلا، وأن يرسل أبنائه إلى المدرسة والجامعة، وأن يكون مدخرات ليضمن تقاعدا كريما، وخدمة صحية مناسبة.وأما الآن، فقد أصبحت كل هذه الأمور مجرد أحلام من الماضي، وبعيدة المنال.
ويشير ديفيس إلى أن أحد أسباب انهيار أميركا الوشيك يتمثل في مغامراتها العسكرية الفاشلة في الخارج، والتي جعلت منها أكبر دولة مَدينة في العالم، بمبلغ يصل إلى 27.5 ترليون دولار.
وقد خلقت هذه المغامرات أزمات إقتصادية واجتماعية خانقة في المجتمع الأميركي، لعل من أخطرها تفاقم ظاهرة العنصرية، والتي تتجلى في التمييز بين المواطنين في: التوظيف، والتعليم، والرعاية الصحية.
والأمر المقلق بالنسبة لديفيس أن الأميركيين ليسوا واعين بما يحدث في امبراطوريتهم، ولا بالمتغيرات الدولية من حولهم. فالصين، بقوتها الاقتصادية الهائلة، والتي باتت تستحوذ على 17% من الاقتصاد العالمي، تشكلت قوتها في غفلة من أميركا، وفي الفترة التي كانت أميركا منشغلة فيها بحروبها الخارجية *العبثية*، باتت قاب قوسين أو أدنى من إزاحة أميركا من موقعها كأعظم قوة عسكرية واقتصادية، والحلول مكانها.
في نهاية المقال، يقول ديفيس أن أميركا كانت تواجه على الدوام بمشاعر مختلطة، إيجابية وسلبية، جيدة وسيئة، ولكنها المرة الأولى التي يشعر بها العالم تجاهها بالشفقة.
لقد شاهد العالم كيف كانت الكوادر الصحية في المستشفيات الأميركية تنتظر بفارغ الصبر وصول الإمدادات من المستلزمات، والأدوية، والأجهزة الصينية الصنع لإنقاذ أرواح المرضى الأمريكيين. وفي رده على منتقديه، يقول ديفيس أنه يتوجب على أميركا أن تنظر في المرآة إذا أرادت أن تحافظ على قيادتها السياسية والاقتصادية للعالم، وهو أمر بات في موضع شك، لتتعرف على مشكلاتها، وأن تبدأ في معالجة تلك المشكلات، لتنقذ نفسها أولا، ولتنقذ العالم من البديل الآخر، المتمثل في الصين، وهو بلا شك، بديل بشع أيديولوجيا، وحضاريا، وسياسيا.
وسوم: العدد 911