مرض لبنان المُستجد
عام 1989 نصح الشاعر سعيد عقل الجنرال عون بمخاطبة جموع المتظاهرين التي كانت تسوّر قصر بعبدا بعبارة «يا شعب لبنان العظيم».
الشاعر الذي أصيب بخيبة أمل نتيجة فشل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت في فرض أمر واقع جديد، وغرق السلطة في التردي، وجد في الجنرال الذي ترأس حكومة عسكرية بعد نهاية عهد أمين الجميل، تجسيداً لنظريته عن العظمة اللبنانية التي لم تكن سوى عُظامية مصنوعة من الأساطير.
الجنرال ميشال عون كان في حاجة إلى هذه اللغة السعيد -عقلية كي يبرر بها سعيه إلى السلطة.
رحلة الجنرال إلى السلطة بدأت مع بشير الجميل، حيث عُرف في أوساط البشيريين تحت اسم «جبرايل» وكان أحد المقربين من بشير الجميل، واقترح على بشير توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل، حسب الصحافي الفرنسي الان مينارغ، في كتابه «أسرار حرب لبنان».
أسس عون لنمط جديد في السياسة اللبنانية، عنوانه الوحيد هو الوصول إلى السلطة بشتى الوسائل ومهما كان الثمن.
من قانون محاسبة سوريا إلى الارتماء في أحضان النظام الأسدي، ومن الدعوة إلى نزع سلاح حزب الله إلى التحالف معه، ومن الدعوة إلى الإصلاح إلى الانخراط في المحاصصة والزبائنية، ومن الخطاب العلماني إلى الدفاع عن حقوق المسيحيين، ومن الهجوم على الحريرية إلى التحالف الرئاسي معها، ومن الخطاب الحضاري إلى العنصرية، إلى آخر ما تفتقت به عبقرية الصهر المدلل.
هذا التيار الذي نما في سياق ما يشبه الانتفاضة الشعبية على زمن الحرب الأهلية والميليشيات، وبنى خطابه على معاداة المنظومة الحاكمة، ما لبث أن تحول إلى جزء من هذه المنظومة، بل إلى مرضها المزمن.
فالعونية اليوم هي المرض الذي يضرب الطبقة الحاكمة اللبنانية.
لبنان اليوم مريض بالعونية. هذا لا يعني أن التيار العوني هو المسؤول الوحيد عن الخراب اللبناني الذي صنعته طبقة «كلن يعني كلن» بل يعني أن هذا التيار الذي بدأ يعاني ضموراً شعبياً قاتلاً منذ انتفاضة 17 تشرين 2019 لا يجد خلاصه إلا في التمسك بالسلطة، ولو كان ذلك على حساب انهيار الحكم، ودفع لبنان إلى المجهول الذي صار معلوماً.
في تحليل أزمة السلطة في لبنان، وهي أزمة بنيوية، يجب أن نأخذ في الاعتبار العامل الشخصي، أي دور الزعيم الذي يرى في نفسه صورة مصغرة للعظمة، في الوصول إلى الخراب الشامل.
لو لم نكن نعيش في لبنان، وفي ظل وباءي كورونا والانهيار الاقتصادي، لوجدنا في هذا الاستعصاء الذي دخلته عملية تشكيل الحكومة، مادة غنية للتحليل النفسي والثقافي والسياسي.
لكننا خائفون.
حتى في أحلك أيام الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي والهيمنة السورية، لم نشعر بخوف كهذا.
وخوفنا نابع من حقيقة أن الطبقة الحاكمة ومافيات المال والصحة تتاجر بموتنا.
ومع ذلك، فإن الجنرال وصهره لا يشعران بخوفنا أو لا يقيمان له أي اعتبار. فهما مشغولان ليس بتأمين الرغيف والدواء، بل بتأمين مشروع تأسيس سلالة حاكمة.
إن تحليل مسار التيار العوني يقودنا إلى حقيقة واحدة، هي أن لا وجود لثوابت في سياسة هذا التيار سوى ثابت واحد هو الوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها.
يقول المنطق أن لا معنى لسلطة تقوم فوق الخراب. لكن إذا نظرنا حولنا فسنرى أن أنظمة الاستبداد كلها لا هم لها سوى البقاء في السلطة وصنع الخراب. من الجمهوريات الوراثية إلى جهوريات العسكر، ومن ممالك النفط إلى ساحات الحروب الإقليمية. البعض يلجأ إلى إسرائيل طلباً للحماية، والبعض الآخر يمانع طلباً للبقاء. فلماذا يكون لبنان مختلفاً؟
والحق يقال أن كل زعماء المليشيات والطوائف يتشاركون مع التيار العوني في التلوّن والتبدل، بحيث صار لبنان أشبه بحرباء متعددة الألوان، كل جزء منها يأخذ اللون الإقليمي الذي يعتقد أنه يؤمن له الحماية ويحافظ على سطوته.
لكن هذه البنية الحربائية لم تعرف في تاريخها شيئاً يشبه الظاهرة العونية في انتفاخها بنفسها وإصرارها على نحر الناس على مذبح سلطويتها المفرطة.
السؤال هو لماذا رفضت الطبقة الحاكمة المبادرة الفرنسية، التي قدمت لها خشبة الخلاص الوحيدة المتوفرة؟
يميل البعض إلى تحميل مسؤولية هذا الرفض لحزب الله. فحزب الله تصرف كذراع إيرانية في لبنان، وشكل الأداة الرئيسية في حماية نظام المافيات من السقوط تحت أقدام مئات آلاف المتظاهرين في انتفاضة تشرين.
من المرجح أن حزب الله يريد تأجيل تشكيل الحكومة في انتظار تبلور مواقف الرئيس الأمريكي الجديد، كجزء من المفاوضات الأمريكية- الإيرانية المرتقبة، لكن هذا المستنقع الحكومي لم يكن ممكناً من دون الجشع السلطوي العوني.
جبران باسيل وبقية السياسيين اللبنانيين قرروا المراوغة لأسبابهم السلطوية، فالمبادرة الفرنسية كانت تعني احتمال بدء زمن المحاسبة، وهذا يعني أن مصلحة الطبقة ككل كانت مهددة.
ماذا في وسع سعيد عقل أن يقول اليوم لرئيس «الشعب العظيم».
بعد انفجار 4 آب- أغسطس، الذي دمر ثلث بيروت، وبعد المجاعة الزاحفة، وانفضاح عمليات تهريب الأموال، وبعد كل هذا الإفقار، وكارثة المستشفيات أمام وباء كورونا، يأتي من يحاول إغراءنا بفتات الزجاج المنهمر على أجسادنا والذي يطلقون عليه اسم المصلحة الطائفية وصلاحيات الرؤساء.
سعيد عقل كان شاعراً، لذلك يجب أن لا نأخذ ما قاله خارج أشعاره على محمل الجد. فشاعر «رندلى» قرر أن يصير مُصلحاً لغوياً وزعيماً سياسياً وقائداً لميليشيا طائفية. شاعر انزلق إلى بهدلة الشعر عبر عبارات عنصرية من نوع «على كل لبناني أن يقتل فلسطينياً» وانخرط في الإعجاب بإسرائيل، بل طلب أن يتحدث في «الكنيست» الإسرائيلي!
حملت لنا فيروز بصوتها الساحر شعر سعيد عقل، أما نثر سعيد عقل السياسي القمئ، فقد تجسد اليوم في المرض العوني. أراد سعيد عقل أن «يلبنن العالم» فقام ورثاؤه من السياسيين بإخراج لبنان من خريطة العالم.
هل هناك علاج من مرض لبنان المُستجد؟
وسوم: العدد 913