في الصحة النفسية : ليت شعري أينا المريض وأينا المعافى !!!؟؟؟
في كتاب قرأته منذ سنين عن الصحة النفسية ، يقرر المؤلف : أنه لا معيار أنموذجي لصحة الإنسان النفسية . بمعنى إذا كانت درجة الحرارة الأنموذجية للإنسان السليم 37 درجة مئوية بالعموم ، وإذا كان ضغط دمه الأنموذجي 120/ 80 كذلك ؛ فإنه لا يوجد معيار ما يمكن أن نضبط به الصحة النفسية لإنسان ما ، فنقول عنه صحيح ، ولا نستطيع أن نضبط معيارا للمرض النفسي ، فنقول عمن بلغ حده ؛ مريض ....
ملخص الكلام أن كل الناس مصابون بأنواع من الأمراض النفسية المختلفة ، بقدر ما ؛ ويعتبر الإنسان متعافيا نفسيا ، ما لم يُقلق من حوله بسلوكه ، أو يضطر للاستعانة بطبيب نفسي ، أو يُستعان عليه برجال القانون . مسرح الحياة يعج بأشكال من المرضى النفسيين ، وكلهم يتمظهرون ويتكلفون ويتماسكون ..
والمرض النفسي لا يشترط دائما أن يكون ذا مظهر سلبي ، فكثير من مراقي الإبداع ، تختفي وراءها مشاعر نفسية غارقة في الخصوصية المتميزة من النرجسية ، أو الرهافة إلى حد الاعتلال ، ألم نسمع عن الرجل يصاب بالدوار لرؤية قطرة دم. !! أو يحرم على نفسه اللحم شفقة بالخراف . ألم ينشدنا أبو العلاء المعري يوما :
غدوت مريض العقل والدين فالقني .. لتسمع أنباء الأمور الصحائح
وتأمل قوله مريض العقل فاعجب ، وقوله والدين فازدد عجبا ..وتابع قصيده ، تدرك أسرار اعتلاله ..
فلا تأكـلن ما أخرج المـاء ظالمـا ولا تبغ قوتـا من غريض الذبائـح
وأبيـض أمـات أرادات صريحـه لأطفالهـا دون الغواني الصرائـح
ودع ضرب النحل الذي بكرت له كواسـب من أزهـار نبت فوائح
فحرم علينا السمك واللحم واللبن والعسل ، ولا أدري كيف أحل لنا نهش خدود التفاح ، وطحن لآلئ حبات العنب ..!! ويبقى السؤال الأول مطروحا : من منا المريض ومن منا المعافى السليم ؟؟؟
ومما قرأت عن الموسيقار عبد الوهاب أنه لم يركب طائرة قط ، يمنعه الخوف المقعد عن ذلك !! وهو الذي لحن وأنشد : أخي جاوز الظالمون المدى ..
ومما قرأت عن صاحبه فريد الأطرش أنه كان يحمل معه نسخة من المصحف الشريف ، يحتمي بها ، وأنه كان إذا فقدها أصابه أولق وجنون ، ولله في خلقه شؤون ..!!
أستذكر هذا لأقول جميل من الإنسان أن يعرف نقاط ضعفه أو نقاط اضطرابه فيتوقاها ..
ويرون أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج يوما : صف لي نفسك ، فقال الحجاج : أنا حقود حسود لجوج . وسأل الناس فماذا ترك الحجاج من شر ؟؟؟
كلنا يحرص قبل خروجه إلى الناس أن يقف أمام المرآة يصلح من هندامه، ثوبه وشعره ويحكم عقدة عنقه ، أو ترتيب غترته ، أو تعديل عمامته .. فهلا عاملنا جوانينا كما نعامل برانينا .
في تراثنا المنبري ، يدعو الخطباء : اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا .
وضروري جدا أن نميز بين شرّ النفس وسيء العمل.
ولكي نتوقى شرور الأنفس يجب أن نعرفها .. وأعمق ما تتمظهر به شرور الأنفس " بواعث الأعمال ودوافعها " فهذه كلمة باعثها كبر ، وتلك باعثها غرور ، وثالثة باعثها عجب ، ورابعة باعثها حسد ..وهذا سلوك باعثه رياء أو نفاق أو .. حزمة شديدة التعقيد من الغرائز والدوافع والمشاعر تجعلنا نقف أمام الناس بالطريقة التي نظن أنهم يريدون ..
في هذه الأيام الصعاب ، صحتنا النفسية - نحن السوريين جميعا -على المحك ، وادعاء السمو المطلق ، أو النقاء المطلق ، أو التعالي المطلق ؛ هو بحد ذاته مرض نفسي آخر ، وقد يكون أشد بؤسا و أكثر ضررا ,,
أتذكر الذي قال :
يُبكَى علينا ولا نبكي على أحد .. لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
تهون عليه كل المصائب تنزل بالناس حوله ، ويقول لزوجه قربي العَشاء ... وينشد :
كل المصائب قد تمر على الفتى .. وتهون غير شماتة الحساد
فأي مريض هذا ؟؟؟
وزعموا أن عاقلا دخل مستشفى المرضى النفسيين ، وجلس إلى أحدهم فوجد منه علما وحكمة ومنطقا ..فعجب لحاله ، وقال له وأنت بهذا العلم والحكمة ، كيف أدخلوك هنا ؟ فأجابه : حسدوني لأني رسول الله ...
قالوا ، فقام عنه إلى آخر ، فوجده أبلغ من الأول في الحكمة وفصل الخطاب ، فقال له ، انظر إلى صاحبك هذا جلست إليه وسمعت منه ما أعجبني ، ثم زعم أنه رسول الله !!! فقال له محدثه وقد احمرّ وجهه غضبا : كذاب ..كذاب ..لا تصدقه ، أنا لم أبعثه رسولا ...!!
في مدينة حلب التي عشقت ، كانوا يطلقون على الإنسان المصاب ، رجلا كان أو امرأة ، وصف " مشعور " يقصدون تشبيهه بوعاء الزجاج ، الذي انكسر وتماسك ، فلم ينفرط ، فصار كسره خطا ظاهرا عليه ..
ونحن أيها السوريون السوريون ..كلنا مشعورون ، إلا من ادعى .. والادعاء شعر آخر ، ومرض نفسي آخر ..
نحن كلنا كما قال الشاب الظريف :
لا تخف ما فعلت بك الأشواق ... وافضح هواك فكلنا عشاق
كلنا مشعورون .. والجبر على الله ..،
اللهم اجبر كسر قلوبنا ، و اجمع ما تفتت أرواحنا ..
وقد يشتد الحال النفسي ببعض الناس فيكتبون مثل هذا ...
وسوم: العدد 913