انتخابات وتسوية أم انتفاضة ثالثة؟
رحيل دونالد ترامب أخرج الرئيس محمود عباس من حالة الاختناق والإحراج، فتنفس الصعداء.
مجيء جو بايدن جعله يأمل أن يعود الحراك السياسي إلى أيام زمان، من حيث الخوض في نهج أوسلو، وحلّ الدولتين، والمفاوضات، والمضي بقوة في التنسيق الأمني، وتهيئة الأوضاع للتفاهم مع أمريكا.
وهو لا يُخفي ذلك، فقد دعا في خطابه في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، بعد اجتماع الأمناء العامين، لعقد مؤتمر دولي بإشراف الرباعية لدعم "حلّ الدولتين". هذا يعني أنه جاهز الآن أن يستقبل من إدارة جو بايدن أية إشارة لإعادة العلاقات في أمريكا، والسير في طريق التسوية وبإشرافها. وقد مهد لذلك بإعادة العلاقات مع حكومة نتنياهو إلى ما كانت عليه، قبل إعلان "وقف كل العلاقات".
من هنا سعى، لكسب الوقت، إلى التوافق مع الفصائل لإجراء انتخابات للمجلس التشريعي، وللرئاسة، والمجلس الوطني، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو يريد أن يدخل التسوية ومن ورائه وحدة فلسطينية شاملة مع الفصائل.
إذا سارت عملية انتخاب المجلس التشريعي وذهبت الأوضاع الداخلية إلى الاستقرار تحت الاحتلال وتحت رئاسته؛ يكون قد جدّد شرعية رئاسته، بعد طول غياب أو طول افتقار لها.
على أن المراسيم التي أصدرها استثنت المجلس الوطني من الانتخابات، فقد نصّ مرسوم القرار المتعلق به كالتالي: "استكمال المجلس الوطني". ولكن ما دام قراره استكمال المجلس الوطني، طبعاً من خلال التوافق مع الفصائل، فلماذا جعله آخراً ولم يباشر به مع الإعداد لإجراء الانتخابات التي تحتاج إلى أشهر لإعدادها؟
التأجيل هنا ضروري بالنسبة إليه؛ لأن إعادة تشكيل المجلس الوطني، كعادته، بلا انتخابات ولكن بالتوافق مع الفصائل؛ سيكشف أوراقه من حيث استمرار السيطرة على م.ت.ف، وتسخيرها في خدمة سياسات التسوية حتى لو بقيت "طبخة بحص"، واستمر الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس، والسعي للسيطرة على المسجد الأقصى، واقتسام ساحته واقتسام الصلاة فيه.
ولهذا إذا تعثر التفاهم مع الفصائل حول المجلس الوطني يكون قد فاز بتجديد شرعية الرئاسة، وترك الفصائل لتتدبر وضعها الجديد، فيما يمضي هو في سياساته ونهجه، ومن موقع أقوى من ذي قبل.
من هنا، ليطرح موضوع التوافق بين الفصائل مقدماً، وفوراً، أو انطلاقاً من لقاء القاهرة "لاستكمال" تشكيل المجلس الوطني من دون انتظار انتخاب أعضاء المجلس التشريعي، أي يحدد أغلبية أعضاء المجلس، بأسمائهم، وعددهم حوالي الستمائة تقريباً.
البعض يعيد المشكلة للمجلس الوطني، فيطالب بالانتخابات التي يُراد أن تشرف عليها القيادة الحالية، لتأتي بنتائج تغيّرها بأخرى، ضمن خط سياسي معارض لنهج اتفاق أوسلو، جملة وتفصيلاً. وهذه فرضية تنطح نفسها بقرونها.
المشكلة ليست في المجلس الوطني سواء بالتوافق الصعب أو بالانتخابات العامة غير الممكنة، ولكن الحالين لا يتمان إلاّ بقرار عربي ودولي، وهذا القرار لا يصدر إلاّ لضمانة تزوير الإرادة الشعبية إذا تكرر اتفاق أوسلو.
باختصار، المشكلة في الخط السياسي والنهج الذي أوصل إلى اتفاق أوسلو الكارثي وواصل طريقه في عهد محمود عباس، وقد شجع للوصول حتى إلى "صفقة القرن". فعلى الرغم مما اتخذه ترامب من خطوات، ما زال محمود عباس على رأس قيادة فتح، مصراً على هذا الخط والنهج، ليستمرا في عهد جو بايدن، كما كان في عهود كلينتون وبوش الابن وأوباما وترامب.
وإذا قلت له إنه خط الفشل، والخراب، وإضاعة حتى ما تبقى من أرض فلسطين، فيما التجربة العيانية صارخة لا جدال فيها، طوال ثلاثة عقود، فيرد محمود عباس بعناد لا مثيل له: هذا هو الطريق، وإذا شئتم "عنزة ولو طارت".
وباختصار ثانٍ، إذا ذهب محمود عباس إلى الخصومة والانقسام، أو ذهب إلى لقاءات وحوار، أو عقد اتفاقات، أو أجرى انتخابات، أو توافق أو لم يتوافق مع الفصائل، فسيظل هذا خطه، فقد أثبت، لا سيما بعد تجربته مع ترامب، أنه على ذلك الخط سائر، وبذلك النهج متمسك، ولو لم يبق من الضفة والقدس شبر من أرض.
فالسؤال، وبعد: فما الحل أو ما العمل؟
أول ما يخطر على البال أن تذهب إلى الصراع والقطيعة والحسم، وهو ما قد يصل، أو لا يصل، إلى اقتتال. ولكن في الحالين، لا بد أن يجريا تحت الاحتلال، فيما يفترض الخط الصحيح بأن تكون مواجهة الاحتلال هي الأولوية. وإذا تخليت عنها وجعلت الأولوية للصراع الداخلي ذهبت أنت وهم إلى الكارثة، تحت الاحتلال. والشعب الفلسطيني بمعرفته لظروفه، وسماته الداخلية، وتجربته التاريخية، لا يقبل الاقتتال الداخلي الفلسطيني، ولا سيما في القلب، أي في القدس والضفة الغربية.
وثمة حلّ ثانٍ، أن تطالب بانتخابات حرة نزيهة تحسم الموضوع وتخرج منها قيادة جديدة لا تأخذ بذلكما الخط والنهج. أما جواب محمود عباس: حسناً طالبوا بالانتخابات حتى تشبعوا، وإذا أجريناها تحكمنا بها من الألف إلى الياء، وإذا لم نجرها فليس أمامكم من سبيل إلاّ المطالبة، أو الذهاب إلى انقسام جديد، إما من خلال انتخابات أو مؤتمر عام، فيصبح لدينا مجلسان وطنيان، ولجنتان تنفيذيتان.
أما الحل الثالث فالذهاب إلى مواجهة الاحتلال، كما يفعل قطاع غزة الآن، وكما يفعل شباب المقاومة العفوية منذ خريف 2015 حتى اليوم، وكما فعلت القدس في انتفاضتها ضد البوابات الالكترونية، وبداية انتفاضتها التي أنقذت مسجد باب الرحمة، وكما يفعل الأسرى وأبطال معارك الإمعاء الخاوية، وكما فعل سكان العراقيب وسكان الخان الأحمر حين تحدوا الجرافات.
بكلمة، ليس هنالك من طريق غير التحريض ووضع الجهود لتصعيد المقاومة الشعبية بكل أشكالها ضد الاحتلال والاستيطان، وصولاً إلى الانتفاضة الثالثة والعصيان.
وهذا المصير، وإن تأخر أو تعثر لبعض الوقت، فإنه لا محالة واقع. وسيعجل إليه الفشل والعبثية المصاحبان لذلكما الخط والنهج في عهد جو بايدن من جهة، إلى جانب سياسات الكيان الصهيوني في استشراء الاحتلال والاستيطان، وانتهاكات المسجد الأقصى، وارتكاب الجرائم من جهة ثانية.
الانتفاضتان الأولى والثانية تمتا بدرجة مقدرة من المفاجأة والعفوية. أما أسبابهما الكامنة فما زالت قائمة؛ وأولهما الاحتلال واستشراء الاستيطان، وثانيهما شباب متفجر وشعب عظيم.
وسوم: العدد 914