العودةُ إلى غزةَ كما فلسطين حقٌ مقدسٌ فمرحباً بالعائدين
يعيش قطاع غزة اليوم مشاعرَ متضاربة يسكنها الفرح ويشوبها الحزن، وتعلوها البهجة ويكسوها الألم، وتسوده مظاهر مختلفة تمتزج فيها أهازيج الاستقبال وزغاريد العودة بصيحات الغضب وعبارات السخط، وتتداخل فيها شعارات الترحيب وأغاني الثورة، مع سيلِ الذكريات الأليمة والأحداث المحزنة، لكن الفرحة تطغى، والسعادة تنتصر، والعودة تتحقق، والتعالي على الجراح يكبر، ونسيان ما حدث يسيطر، والعفو عما مضى يتقدم، وباقات الورود تعلو على أكاليل الغار، إذ الفرحة بادية والسعادة حقيقية، وقد طال انتظار هذا اليوم الذي كان سيأتي مهما كانت الأسباب وتعقدت الظروف، فما من وطنيٍ إلا كان يدرك أن الغائب سيعود، والمطرود سيرجع، والخائف سيأمن، والمفجوع سينسى، والمتضرر سيعوض، وستتدافع الأجيال وستتغير الظروف، وستسمر الحياةُ وستمضي سنتها، وسيتفق الخصوم ويلتقي الأنداد.
آن لأهل غزة أن يتجاوزوا الأحداث المريرة وأن يداووا الجراح القديمة، وأن ينسوا مرَّ الأيام وسوداوية الذكريات، وأن يواجهوا حقيقة أننا شعبٌ واحدٌ، نعيش في وطنٍ واحدٍ، وتجمعنا قضية واحدة مشتركة، وأننا أسرٌ مختلطةٌ وعائلات متنوعة، أخوةٌ وأشقاءٌ، وأقاربُ وجيرانٌ، فيها الحمساوي والفتحاوي، والجبهاوي والجهادي، وفيها المستقل وابن التيار وغيرهم، يلتقون فيما بينهم ويتعاونون، ويختلفون ويتفقون، لكن لا يتصارعون ولا يقتتلون، فنحن جميعاً ما زلنا نعاني من الاحتلال ونشكو من الحصار، ونتألم من سياسات العدو العدوانية وغاراته الهمجية، ويحزننا صمت المجتمع الدولي المريب وتآمره المشين وانحيازه المخزي، وأننا جميعاً مهما اختلفنا وتعددنا نتوق إلى يومٍ فيه نفرح ونسعد، وفيه يلتقي جمعنا ويلتئم شملنا، وتتفق كلمتنا ويتحد صفنا، ويستقل قرارنا وتقوى جبهتنا.
أما وقد التئمت الجراح، وسكتت البنادق، وخفتت أصوات الثأر والانتقام، ورضيت النفوس التي عوضت، وقبلت العائلات بالديات التي دفعت، وأسقطت حقوقها وتصالحت، فأهلاً وسهلاً بالعائدين إلى بيوتهم، والراجعين إلى وطنهم، وحق لهم أن يفرحوا بالعودة وأن يسعدوا بحفاوة الاستقبال، فهذا وطنهم الذي لا يساويه وطنٌ ولا تعدله أرضٌ، وتلك بيوتهم ومنازل طفولتهم ومراتع صباهم، وهنا أمهاتهم وأسرهم، وعائلاتهم وأهلهم، وقد طال بُعادهم، وتعسرت رغم السنين عودتهم، وما كان لهذه العودة الكريمة أن تتحقق لولا أصالة أهلنا وعظيم خلق شعبنا، الذي أكرمه الله عز وجل بالصبر ورحابة الصدر، وبالحكمة ورجاحة العقل، فعفا وغفر، وسامح وأسقط حقه، ولان خطابه ورق كلامه، وصفت نفوسه وراقت قلوبه.
لا يَمُنُ أحدٌ على أحدٍ بالعودة، ولا يتفضل فلسطينيٌ على آخر بفتح بوابات الوطن، فالعودة إلى الوطن، كله أو بعضه، حقٌ مقدسٌ يكفله القانون وترعاه النظم، وكما هو بالنسبة لللاجئين الفلسطينيين حقٌ فرديٌ مقدسٌ، لا يُفقَدُ ولا يسقط بالتقادم، ولا تمنعه سلطة ولا يحده قانون، فالعودة إلى أي بقعةٍ من الوطن مكفولةٌ محفوظة، بل مصانةٌ ومحروسةٌ، ويحق لكل فلسطيني أن يمارس حقه بالعودة متى شاء، والقانون يحمي من أراد العودة، وييسر له سبلها، ويكفل بقوته وسيادته أن يشمله العفو الذي يخصه، وأن يطاله الصفح العام الذي صدر، اللهم إلا من جريمةٍ جديدةٍ أو مخالفةٍ أخرى.
ما أجمل غزة اليوم وقد لبست حلةً من الطيب والصفح، والصدق والعفو، وازدانت بالرضا والقبول والفرح والسرور، والبهجة والأمل، واستبشرت بغدٍ أجملَ ومستقبلٍ أفضلَ، سعادةً بأهلها العائدين وشبابها الوافدين، وأملاً في مستقبلٍ أبيض لا أسود، مشرقٍ لا معتم، فيه يتعاضد الفرقاء ويتفق الأنداد خدمةً لشعبهم وحرصاً على أهلهم، وتنافساً في خدمة مناطقهم ورفعة مواطنيهم.
تعالوا بنا اليوم نفرح ونحن نفتح بوابات غزة المحاصرة لأهلها، ونفتح أذرعنا الحانية لأهلنا، ونقول لعدونا أننا يوماً إلى أرضنا سنعود، وسنحطم الأغلال ونفتح الحدود ونكسر السدود، ونوحد الأرض ونجمع الشعب كله، ومعاً سنفرح بالعودة وسنجللها بصلاةٍ جامعةٍ في المسجد الأقصى المبارك، نجمع فيها شتاتنا الكبير، ونكون فيها صفاً واحداً خلف إمامٍ حاكمٍ عادلٍ واحد.
ما أعظمها غزة اليوم وهي ترسم لأبناء الوطن وشركاء الأرض صورةً ناصعةً حقيقية، لا كذب فيها ولا تدليس، ولا خيلاء فيها ولا كبرياء، ولا غطرسة ولا غرور، بل رحمةً وتعاطفاً، وتواداً وتسامحاً، تثبت فيها أن صوت العقل هو الغالب، ورأي الحكماء هو السائد، وتعيد راضيةً إحياء سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، فتقول لبعضها من منطلق القومة والتمكين صادقةً واثقةً، اذهبوا فأنتم الطلقاء، فلا ثأر ولا انتقام، ولا غدر ولا خيانة، ولا تآمر ولا مناورة، ولا تخوين ولا تكفير، ولا إقصاء ولا حرمان، ولا طرد ولا تجريد، وإنما تعاونٌ وتعاضدٌ، وتنافسٌ وسباقٌ تجاه الخير العام ونحو الأفضل المنشود، إذ هذا ما ينتظره شعبنا وما تأمله منا أمتنا.
غزة أيها السادة جميلةٌ بصورتها، زاهيةٌ بتسامحها، رائعةٌ بتعاونها، عظيمةٌ بانتصاراتها، شامخةٌ بثباتها، قويةٌ بصمودها، عزيزةٌ بإبائها، فحافظوا اليوم على صورتها المهيبة، ودعوا العالم كله يتغنى بها ويفرح لها، فاحضنوا العائدين، وأكرموا الوافدين وبشوا في وجوههم، ولا تقطبوا الجبين غضباً ولا تنظروا إليهم شزراً، فمن عفا لا يرجع، ومن سامح لا يغدر، ومن أصلح لا يفسد، ومن أبرم اتفاقاً لا ينكث، فقد أعطينا العهد وقطعنا الوعد، ونحن خير من يفي بالعهود ويحفظ الوعود، فأهلاً وسهلا بالعائدين، ومرحى بهم إخواناً لنا متقابلين، وكلنا أملٌ بالعودة الكبرى والرجوع العظيم إلى فلسطين التاريخية، الأرض والوطن، الحق والتاريخ، والوعد المقدس الأكيد.
وسوم: العدد 920