في مسؤولية المثقف

م. شاهر أحمد نصر

[email protected]

ترتفع أصوات كثيرة، وتبذل مساع، وتنتشر دعوات ومزاعم لتحميل المفكرين والمثقفين مسؤولية ما يجري في البلدان العربية من موت ودمار ومآس على خلفية الأحداث المرافقة للربيع العربي، التي تتجلى في التطرف والإرهاب السياسي والعسكري، المصحوبة بمحاولات فرض فكر متخلف منحط يلقي بظلاله المظلمة على المجتمع، وتجد بعض المثقفين الذين لا حول لهم ولا قوة يصرحون بأنهم هم وجميع المثقفين مسؤولون عن الدماء التي تسفك، بزعم أن المثقفين لم يقوموا بدورهم في نشر الفكر التنويري، مما أسهم في انتشار للفكر الظلامي المتخلف المنحط... ومن الملاحظ أن أغلب هذه الأصوات ترتفع في أوساط المثقفين الذي يرون فيما يجري في البلدان العربية ردة ومؤامرة خارجية... وفي هذا المجال من المفيد تبيان القضايا التالية:

ـ لقد بذل كثير من المثقفين والمفكرين جهوداً كبيرة في محاولة لتجنيب مجتمعاتنا من مخاطر الوصول إلى هذه الحالة؛ ومن المفيد في هذا المجال التذكير بالأبحاث والمبادرات الكثيرة التي بذلت، ليس فقط لدق ناقوس الخطر، بل ولوضع الأسس الضرورية لتغيير البنية السياسية والانتقال إلى الحالة الديمقراطية لتجنيب البلاد الويلات؛ وكان من بينها، على سبيل المثال، بيان الـ99 باحثاً ومفكراً، وبيان الألف، وبيانات الكثير من المنتديات التي حاول المثقفون تشكيلها فيما عرف بربيع دمشق، فكيف جرى التعامل معها... لقد قمع الداعون إليها، واتهموا بالخيانة، وزج بالكثيرين منهم في السجون، وحرم الكثيرون من السفر، وازدادت وتيرة استدعاءاتهم إلى الأفرع الأمنية، ومنعت كتبهم من الصدور، وأغلقت المنتديات، وفصلوا من وظائفهم، ووصل الأمر إلى زج من ينوي حضور محاضرة في السجن (سجن 18 مثقفاً كانوا ينوون حضور محاضرة في منتدى الكواكبي في حلب، على سبيل المثال)، وفي الوقت الذي كانت السلطات الحاكمة تضيق الخناق على المثقفين والمفكرين الوطنيين العلمانيين، كانت تصدر التعاميم المروجة للدعاة الذين يلقون خطبهم المناوئة لتحرر المجتمع وحقوق المرأة وبناء المجتمع على أسس مدنية متحضرة؛ لأن خطب هؤلاء الدعاة لا تهدد الأمن، كما جاء في تلك التعاميم...

ـ الدافع الأساسي وراء مثل هذه المزاعم وتحميل المثقفين المسؤولية  عن الدماء التي تسفك والدمار الذي يحصل هو تبرئة البنى السياسية الطاغية والمهيمنة ـ التي سعت جاهدة لتصحير، وتعقيم الواقع الفكري والثقافي والسياسي في المجتمع ـ من مسؤوليتها التاريخية عمّ اقترفته تجاه المجتمع، فضلاً عن تبرئتها من مسؤولية ابتعادها عن الحل السياسي، واعتمادها النهج الأمني والعسكري القائم على العنف والتدمير والعنجهية والغطرسة، وتجاهل متطلبات المجتمع وأمن البلاد، مما مهد السبيل لسفك كل هذه الدماء والدمار والفوضى، وسيثبت التاريخ عند تدوين أهم مفاصل الملحمة السورية مدى الترابط بين بنى الطغيان والفساد وبنية الجهل والتطرف والإرهاب...

ـ تزيد هذه المزاعم من البلبلة والتشويش، وفقدان البوصلة، للابتعاد عن المسببات الجوهرية لما يحصل، النابعة عن التناقضات الداخلية، وتأمين الأجواء الملائمة لقوى خارجية تتربص بالبلاد لاستغلال هذه الحالة لتدمير البلاد، والإيحاء بأن ما يجري ناجم عن فعل خارجي، وهنا تنسجم مصالح المتشبثين بالبنى القديمة التي تجاوزها الزمن مع مصالح من يريد تدمير البلاد للابتعاد عن المهام الأساسية في تجاوز البنى السياسية الطاغية، واعتماد صيغة حكم جديدة تساهم في معالجة الأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن البنى السابقة وعن مستجدات الصراع الحالي، وتساهم في تطوير الدولة لجعلها قادرة على مواجهة تحديات العصر والقوى الخارجية المعادية...

ـ من الضروري التأكيد أن ذلك لا يعفي النخب المثقفة من مسؤولية التقصير، وضرورة العمل الحثيث لتحليل الواقع مع تطور الأحداث والبحث عن أفضل السبل للخروج من الكابوس والمأساة التي دفعت البلاد إليها بإبداع الحلول السياسية وصيغة الحكم الجديدة التي يدور الصراع حولها...